المنشور

الطائفية في تحليل المفكر المناضل الشهيد الدكتور الرفيق مهدي عامل



 المستجدات على الساحة العربية و التي احدثت
تغييرات مفاجئه و قد اصبح لها اثر سلبي  على الاوضاع الراهنه في وسط الشارع العربي, و
منها  الخطيرة علي مجنمعاتنا العربية ذلك
من قبل بعض الانظمة العربية و بعض القوى التي حاولت و لا تزال  تحاول ان تغض النظر عن خطورة الانشطه  الارهابية المتطرفة, والتي هي القائمة على اساس
من الفصل بين الشعوب العربية على نهج  التوجهات المذهبية الطائفية المتطرفة و التي  قد وصل الامر فيها ان توصف بأنها شكل من اشكال
الفاشية و غير الحضارية و الانسانية, ذلك نتيجة 
لقساوة العنف المتبادل في المعارك التكفيرية و طرق التعامل الوحشي مع الضحايا
من  الخصوم, و مع من يختلفون معهم في
المذاهب و القوميات و الافكار و التوجهات السياسية. في الواقع ان الوطن
العربي  يعيش  الان ظاهرة في مرحلة صعبه قد رسمت من قبل القوى
الاستعمارية الجديدة مع من حاولوا أن يحرفوا التوجه للجماهير العربية التي خرجت عن
بكرة ابيها في اكبر العواصم العربية عام 2011 , هذه الجماهير الرافضة للهيمنة
السياسية لأنظمه عربية دكتاتورية,  و هكذا
ان الثورات المضادة  التي اوجدها الاستعمار
الجديد الصهيوني الامريكي الاوروبي و فلول الرجعية العربية و القوى الرأسمالية  قد هيأت الاجواء لبروز ظاهرة العنف لتغطي علي
المطالب الشعبية بضرورة  التغيير
الديمقراطي, بدلاً من الدكتاتورية و بضرورة المشاركة الشعبية في القرار السياسي الذي
هو حكراً على الانظمة الحاكمة في كل الدول العربية.    
و هكذا فأن  القوى المضادة قد اوجدت
 ظاهرة النعرات  الطائفية في بعض من البلدان العربية, و التي قد
بان اثرها  السلبي في وسط المجتمعات
العربية حتى أن تأثر بها البعض  ممن كانوا يدعون
انهم يمتلكون الافكار الديمقراطية و العلمانية, الذين قد  انقسموا على شكل طائفي و كانوا عوناً لانظمة
تمارس القمع و الاضطهاد ضد من يطالبون بالتغيير, ذلك بفعل تأثير الإعلام الرجعي
الرسمي و المؤثر من قبل   الجهات التي تغذي الانقسام الطائفي في مناطق
عديدة من الوطن العربي,  و هناك من يدعمون
مثل  هذه التوجهات المتطرفة على المكشوف, و
هي  دولاً عربية و اقليمية و اجنبية لها
المصالح في تأجيج الصراع  الطائفي الذي
يخدم مصالح هذه الدول. حقيقةً ومن اجل معرفة الاسباب والدوافع  لهذه الظاهرة الطائفية و التي هي قديمة جديدة,  يجب ان نستفيد  و لو بالقليل من ما كتب بقلم الرفيق الشهيد
المناضل الدكتور مهدي عامل عن الدولة الطائفية للأهمية. 
كان  المفكر مهدي عامل مدرك جيداً
لمسألة الطائفية لأن الاوضاع في لبنان كانت و لا تزال  منقسمة   سياسياً
واجتماعياً على شكل من اشكال الطائفية, و ايضاً  النظام الطائفي و ليس الديمقراطي, لأن نظام
الحكم في لبنان قائم على  المحاصصة الطائفية
التي قد رسختها اتفاقية الطائف, و التي عمل بها 
بعد انتهاء الحرب الاهلية  في لبنان
و التي استمرت خمسة عشر عاماً.  كان الرفيق
مهدي عامل  يعرف تمام المعرفة من هم المستفيدون
من التقسيم الطائفي و زيادة الاحتقان الطائفي في لبنان ومخاطر الحركة الطائفية على
المجتمع آنذاك, و التي اضعفت  التحالفات
الوطنية  الديمقراطية اليسارية, و هذا
الوضع مماثل تماماً لما نشاهده الآن في  أوضاع
 دول عربية مماثلة. 
هكذا فأن البحث في مسألة الدولة الطائفية للرفيق مهدي عامل  و توضيح لأسبابها و دوافعها و جذورها ومن
المستفيد  منها بهذا القدر من  التحليل العلمي  قد أثار حفيظة القوى الظلامية, مما قد
جعلها  تقف له بالمرصاد فإغتالته  في الثامن عشر من ايار مايو عام 1987 , و هو في
اوج عطا ئه الفكري والتحليل النظري الماركسي. 
لقد حدد مهدي عامل في تحليلاته المطولة في مسألة ظاهرة  الطائفية في لبنان ومنها إن الطائفية هي شكل من
اشكال النظام السياسي و الاقتصادي الذي يمتلك الأديولوجية, و القرار السياسي
الطائفي والذي  من خلاله تمارس القوى
المسيطرة في النظام على النمط الاقتصادي الكولونيالي  للبرجوازية  في لبنان  ذات التوجه الطائفي, بصفتها طبقة تستفيد من
تشطير المجتمع البناني  طائفياً كي تستديم هي
في السيطرة على مقاليد الحكم و التحكم في سير الاقتصاد الذي يخدم مصالحها واهدافها
الاقتصادية و السياسية. 
وضع مهدي عامل يده علي الحقيقة  و
عرف الاسباب الرئيسية لجذور الدولة الطائفية  ومن هي الطبقة المستفيده من الصراع الطائفي الذي
يفرق الجماهير الكادحة و في المقدمة الطبقة العاملة, و من ثم يغيب وعيها الحقيقي
كي لا يفضي تحركها لمعرفة أسس الصراع الطبقي الذي يهدد المصالح البرجوازية الرأسمالية
ومعها القوى الرجعية الظلامية التي تعيش على  نمط اقتصادي انتا جي معين, يحاول ان يستديم
بعيداً عن اطروحات القوى السياسية الوطنية و اليسارية في تلك الفترة من الزمان, و التي
تدعم في قيام انتاج إقتصاد  وطني مستقل عن
الاحتكارات الرأسمالية, و من ثم  يقوي مسار
القطاع العام لصالح جماهير الشعب بشكل عام والطبقة العاملة في لبنان  بشكل خاص. 
مدخل آخر يؤكد فيه الرفيق الشهيد  مهدي عامل على ضرورة الفصل بين الايديولو جية الدينية
والايديولوجية الطائفية, يقول ان الملايين من الشعوب التي تؤمن بالافكار السماوية و غيرها ومن ثم
تعتنق دين معين تمارسه  في الحياة ذلك حسب
طقوسها وتقاليدها و ايمانها بذلك المذهب, فهذا شئ طبيعي جداً ولا يعتبر من  له 
ديانه بأنه طائفي إلا اذا اصبح يعادي الآخرين و يضطهد الاخرين الذين هم
يختلفون عنه في الديانه, و هنا  وجب الفصل
بين الايديولوجيات الدينيه و الايديولوجية الطائفية السياسية التي تفرق بين الشعوب
حسب الانتماء الديني. 
 ومن خلال الرؤية العلمية و التحليل
الدقيق  لمثل هذه القضايا الاجتماعية, قد
بين مهدي عامل في ابحاثه ان البرجوازية اللبنانية تحاول ان تحول الصراع الطبقي الذي
تمارسه ضد الطبقة العاملة التي نمي دورها الريادي في لبنان بحكم نمو وتطور الحركة
النقابية المدعومه من القوى  اليسارية الى
صراع  طائفي لان هذا الصراع  يتلائم مع الافكار البرجوازية الطائفية ويحقق
اهدافها في سبيل أبديت سيطرتها الطبقية على جموع الجماهير الكادحة التي تنتمي لها. 
ثم اكد ان الدين ليس له علاقة بالايديولوجية الطائفية للنظام السياسي,  و لكن مثل هذا التضليل للنهج الطائفي الذي تعمل
به  الطبقة البرجوازية الرأسمالية و القوى
الرجعية في وسط الانظمة الطائفية حتماً يساعد في التمييز بين الطوائف علي شكل ديني
في جميع مناحي الحياة, خصوصاً في مسالة العمل والتوظيف و الامتيازات في المناصب
الإدارية, ذلك من اجل خلق الفوارق المذهبية بين الجماهير في وسط المجتمع علي شكل
طا ئفي يخدم في المقام الاول مصالح الدولة الطائفية, التي هي بالاساس ترعى و تدعم
مثل هذه التوجهات الطائفية, وهي في المقام المستفيد الأول من هذا  النهج الطائفي الذي يدعم من قبل بعض الفآت
الرجعية,  لتمزيق النسيج الاجتماعي و الوطني
وهذا اسلوب يمارس في كل البلدان التي لديها النهج الطائفي,  و من ثم ان اللعبه السياسية للنظام الطائفي اينما
كان  تكمن في تأجيج هذا الصراع, و بعد ذلك يحدث
التلاقي مع اطراف عديدة اجتماعية وسياسية و دينية متطرفة داعمة لهذا التوجه, ثم في
كل الحالات المراد من ذلك هو تغييب كل الحقائق عن الجماهير خصوصاً ان وصلت الامور
لضرب السلم و التعايش الاجتماعي بين مكونات الشعوب المختلفة في الدين,  بحيث ان مثل هذه التوجهات للانظمة التي بنيت
دساتيرها على شكل من اشكال المحاصصة الطائفية في توزيع مهام الوزراء او النواب او
الرؤساء, مثل ما يحدث في العراق ولبنان و التي 
لا تتطور فيها  العملية الديمقراطية
الصحيحة, و مثل هذه السياسات هي جزء من المحاولة لتمكين النظام الدكتا توري في اي  قطر عربي خصوصا في ظل السياسة للأنظمة العربية ذات
الطابع القبلي المتخلف و المتحالف مع الامبريالية والصهيو نية, و مع الحركات
الاجتماعية اصحاب الفكر الطائفي و جميع الموالين لتوجهات الدولة الطا ئفية,  في محاولة أن تكون الطوائف كيانات قائمة لترسم
الشرعية للنظام الطائفي الذي يمارس القمع الطبقي و الاجتماعي و الفكري, ضد
الجماهير الكادحة و سائر المناضلين الشرفاء أي كانت دياناتهم, و معتقداتهم و
مواقفهم الوطنية, و افكارهم السياسية التي تعارض مثل هذه الانظمة الرجعية الدكتاتورية,  ومن ثم تكون لمثل هذه الانظمة  اليد الطولى في قمع   كل القوى المعارضة,  و في المقدمة القوى  الوطنية 
السياسية التي لا تتوافق مع النهج الطائفي للدولة الطائفية, و هنا  تتوسع رقعة الاضطهاد ضد من يعارض نهج الدولة
الطائفية بغطاء طائفي, وقد يلتف حولها بوعي أو بدون وعي  من هم على شا كلتها من الطائفيين بجميع افكارهم
المختلفة. 
  
جواد المرخي 
  
  
   
  
 

اقرأ المزيد

القلمُ الذي خبا… مرثية للصديق الراحل عبدالله خليفة


«أخذ الردى يحصد كل خلاني، واحدا أثر آخر» الخيّام.

جمعتنا صدفةُ الطفولةِ البريئة ونحنُ في بدايات المرحلة الإبتدائية (الصف الثاني الإبتدائي حسب النمط القديم والرابع الإبتدائي حسب النمط المستحدث). تعارفنا وتصادقنا -شيئاً فشيئاً- فيما بين الفسح المدرسية، وعبر زوايا وساحات مدرسة القضيبية الإبتدائية العامرة سنة 1960.

عبدالله؛ من القضيبية القديمة (اللّينات) ومن الطبقة المسحوقة ذاتها، كجُلِّ أبناء ذلك الزمان: صبيّ نحيل في عمرنا ومن الجيل نفسه، خجول، مؤدب، إنطوائيّ؛ يتحاشى الآخر عبر صومعته الغريبة! مشغول البال بأمورٍ جديّةٍ لا تناسب صبية من عمرنا! لكنها سنوات الجمر تلك! مستهل ستينيات القرن الآفل، حيث بدا مجتمعنا وبلدنا الصغير، وكأنه يبحث عن دوره المشروع واستقلاله المأمول. حين كان على موعد لنضالات جماهيرية شاقة من أجل الإستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية؛ بشكلٍ باتت فيه البلاد وكأنها حبلى بأعاصير اجتماعية قادمة، بعد أن ورد إلى مسمعنا – مَروية من فم الآباء- عن أحداث الخمسينيات السامقات (أضحت لاحقاً أشبه بسنوات عجاف، لم تؤتِ أُكلها!)، التي عُرفت باسم: «حركة هيئة الإتحاد الوطني /54-1956»، كأول حزب جماهيري علني وعفوي (أتذكر أحداثها كحلمٍ طفوليّ).

هكذا مرت السنوات سريعاً حتى التقينا معاً، في نشاطٍ ثقافيٍّ جديٍّ، كأعضاءٍ في اللجنة الثقافية في «نادي الولعة الثقافي» في منتصف الستينيات. كان العِبِدْ (اسمه المحبب لدي) شعلةً من النشاط، حيث كان يعد أسبوعياً ندواتٍ ثقافية وأدبية متميزة وكأنه أكاديميّ متخصّص، وغالباً ما كنتُ أدير الندوات وسجالاتها… وحيناً كان يساعدنا الصديق المشترك أحمد يوسف (الشّيبة). تيقن لي –وقتئذٍٍ- أن عبدالله قد برح الفكر القومي التقليدي العاطفي، الذي نشأ عليه تلقائياً، في مرحلة الصّبا. وأضحى الآن – بجهده الذاتيّ- منفتحاً على الفكر الإشتراكي العلمي. حدث هذا قبل التحول النوعي في الفكر السائد في بحرين الستينيات، الذي تموضع تباعاً بعد انتفاضة مارس سنة 1965 في شرقيّ العاصمة «المنامة»، المحاذية لفريق العوضية: القضيبية – القديمة بَدأً- والجديدة بعد ذلك (أرض مصطفى)، ثم الحورة (كانت فيما مضى معقلاً للقوميين العرب)، وهو ما عُرف لاحقاً بـ»المثلث الأحمر»، في الأدب السياسي البحريني المعاصر (مثلث العوضية/ القضيبية /الحورة)! يبدو أن النشاط السياسي والفكري في البحرين لا يسير على منوالٍ واحد بل عبر تعرّجاتٍ مضنيّة.

والمُشكل أن النشاط السياسي والثقافي لا يتراكم، ولكنه يتقطع قبل الأمد اللازم؛ كمشروعٍ لا يكتمل أبداً! (هذا كان رأينا المشترك دائماً). كم كانت الأنشطة البسيطة والمشروعة، المنبثقة من الأندية الصغيرة (گُلستان/ الاتحاد/ التضامن/ النور/ الفجر/ الولعة…) وعشرات من الأندية المتناثرة في مدن البحرين وقراها، المُهتمّة بأمورِ الشأن العام، والمستندة على تصوّر عقلاني؛ وهو أولوية التطور الديمقراطي السلمي للمجتمع البحريني (مشروع الدولة المدنية المؤسّساتية الحديثة)، الذي سيصبّ لا محالة في المصلحة العامة ويحصنه من التراشقات والصراعات غير المحمودة. وكم كانت المجابهة الرسمية، لتلك الأنشطة التربوية والتعبوية البسيطة، قمعيّة وحادّة (إغلاق الأندية واعتقال ناشطيها)!

هذا ما حدث لـ «أسرة الأدباء والكتاب»، التي تعرضت لضغوطٍ رسمية مستمرة، منذ انبثاقها صُدفةً، كمعجزةٍ في نهاية الستينيات (راجع الكتاب الجمعي: «سِفر الفقر والثورة» كأول إصدار من الأسرة سنة 1969). هنا أيضاً كان الراحل عبدالله خليفة أحد فرسان الميدان (هو وصديق عمره ودراسته يوسف يتيم). كنا –أنا وبضعةِ أصدقاء- من المهتمين بالأدبِ والثقافة، نحضر الندوات تباعاً، نساجل ونتداخل، نتفق في شأنٍ ونختلف في شئون عديدة، من خلال السّجالات، التي كانت تجري فيما بين مريدي ايدلوجيتين متنافستين/ التحرير والشعبية.

في ذلك الزمن الأثير والجميل المجلّل بالإنتماء الوطني فحسب (لم يكن أحدٌ يعرف مذهب وطائفة صديقه ورفيقه أو منافسه الفكري)! كان زماناً آخر، ثرياً بمعنى الكلمة! خاصة في النصف الأول من السبعينيات، حين كان اليسار البحريني يكتسح الساحة السياسية، واستطاع أن يسجّل منجزاً تاريخياً قلّ مثيله في منطقتنا العربية والاسلامية، من خلال هيمنة العناصر الوطنية الساحقة، في أول برلمان بحريني (كتلتا اليسار والوسط) نهاية 1973! فمن يستطيع أن يصدّق، من شباب الجيل الحالي، أن مترشحاً سنّياً فاز في دائرة شيعية مغلقة، وأن مترشحاً شيعيّاً فاز في دائرة سنية مغلقة؟ (أي زمان مشرق قد أفلّ، وأي زمان أسود قد أهلّ)! أضحى عبدالله وقتئذٍ سياسياً يسارياً محنّكاً، وكادراً متقدماً في حزبه! ثم جاء غول التفتيت المجتمعي، ليقضي على الصّيرورة التراكمية كَرّةً أخرى، وذلك بانقلاب الحكم على مشروعهِ، بُعيد الاستقلال (الحياة البرلمانية والدستورية)، وعدنا القهقري إلى الوراء وعاد مجتمعنا إلى الخلف، لنبدأ من الصفر مرةً أخرى.
 
أعتُقل عبدالله خليفة مع رفاقه في ضربة أغسطس/ آب الملتهب سنة 1975، ودفع ثمن وطنيته وانتمائه الفكري غالياً (في حدود ست سنوات سجناً)! غير أنه استفاد من وقته المعزول في القراءة المُركّزة والكتابة المتأنّية، ووضع المشاريع الروائية والتاريخية اللآحقة… بجانب المراجعة الفكرية ضمن عدد محدود من رفاقه، داخل السجن. غير أن الأجمل أن عبدالله ظل وفياً لفكره الأصل، ونجا من موجة اللّبرلة، التي أغرّت الآخرين! ولو أنه أعاد الاعتبار لحركة التاريخ الموضوعية وهو ينآى عن الصَّبينة اليسارية والمواقف الشعبوية الحادة، المترافقة عادةً مع حماسِ الصِّبا الأول، مدركاً بعمق سمة المرحلة الضرورية -موضوعياً- للمنظومة الليبرالية في البحرين القادمة حتماً، بعد أن يضعف التيار الديني، المُهيمن في الوقت الحاضر، ويعيد حساباته المتعلقة بضرورة عصرنة وتطوير برنامجه الحالي المركون على حسابات خاطئة (غيبية/ غير دنيوية) غير عقلانية! متفهماً (الراحل عبدالله) في الوقت ذاته صعوبة آفاق الفكر اللّيبرالي والحداثي عامة، وإشكالية انبثاق البرجوازية الحرة (الضعيفة أصلاً في دنيا العرب وفي التخوم الكليلة)، بسبب بيئةٍ تتّسم بسيادة اقتصاد ريعي خدمي/ غير إنتاجي (استهلاكي كسول). وبهيمنةِ موروثٍ عائليّ/ إقطاعيّ/ قبليّ، ينطلق من مفهوم الرّاعي والرّعيّة والمكرمات… إلخ!

كنا، عندما نلتقي صدفةً، نتفق في أغلب التحليلات والرؤى والظروف الصعبة، المحيطة ببلدنا الصغير كونه ضحية الجغرافيا والتاريخ! بجانب إدراكنا تدني درجة المرتجى، المأمول من سقف المطالب، ومحدودية الخيارات المتوفرة للحكم، الأمر الذي لا يدركه الكثيرون من النّخب السياسية!
وكنا نختلف بالطبع في أمورٍ شتّى (أغلبها نظرية). غير أن همّنا الأكبر، منذ أحداث 2011 الملتبسة، أضحى الانشطار المجتمعيّ الخطير (بغض النظر عن المسبّبات)، وما كان يؤرقنا خصوصاً، تراجع الدور الرائد للانتلجنسيا في البحرين، وتآكل زادها الفكري، الأمر الذي تسبّب في بروزِ مواقف ضبابيّة وعَصبيّة/ عاطفيّة، مبنية أساساً على آليةِ الفعلِ وردِّ الفعل، وعلى «لعبةِ كسرِ العظم» الجاريةِ بين قطبيّ الرّحى! ولعل أكثر ما كان يكدرنا هو ارتهان ما بقي من التيار الديمقراطي والعلماني (اليساري والعروبي) لقوى الإسلام السياسي الشيعي؛ المتشنّجة والمنفلتة من عقالها، متخندقين معاً في متراسِ ما يسمى بالمعارضة «المجلجلة»، المتكئة على نظرية «الغلبة»! والأدهى أن هذه المعارضة تنعت «الأغلبية الصامتة» والعريضة، من المكوّن الآخر من الناس بـ «الموالاة» /أي السلطويين! هذا بالطبع مع تفهمنا وتقديرنا للمطاليب المشروعة، التي ترفعها المعارضة هذه من جهة، وإدراكنا لخطل تكتيك «الهروب إلى الأمام» المتجسد في تهرّب الدولة من الاستحقاقات الضرورية من جهة أخرى، لرأب الصّدع بين الأفرقاء الأقوياء والتوقيف الفوري للنزيف والانشطار الاجتماعيين، وإحياء مشروع جديد يخرج البلد من هذا المأزق الخطير؛ بل «المتاهة» -أشبه بالثقب الكونيّ الأسود- التي قد تقضي على الأخضر واليابس، إن تُرك الحبل على الجرار فترة أطول، بلا تدخل فوريّ من أصحاب القرار! هذا كان محتوى رأي وهواجس المُفكّر والأديب الكبير؛ الراحل عبدالله خليفة. 
  
 

اقرأ المزيد

هيلاري كلينتون الرئيسة الأمريكية الأولى!


إنها مثال للمرأة الدؤوبة، الصبورة، الطموحة التي لا تكل ولا تمل من العمل بشتى السبل لتسلق سلم السلطة وصولاً إلى هدفها المبيت كرسي الرئاسة في البيت الأبيض. ما بين تخرجها من سلك المحاماة في كلية بيل للقانون عام 1973 واحتلالها مقعد الشريك في شركة “روز للمحاماة” في عام 1979 ست سنوات، وإدراجها مرتين على قائمة أكثر مائة محامي أمريكي نفوذاً. مع ملاحظة انها أصبحت السيدة الأولى لولاية اركنساس من عام 1979 حتى عام 1992، بعد أن كانت تزوجت من حاكمها بيل كلينتون في عام 1975.. كانت خلالها عضواً في مجلس إدارة أكبر الشركات الأمريكية “وال مارت” ومجالس إدارات شركات أخرى. وبعد عامين من ذلك، أي في عام 1993 أصبحت السيدة الأولى لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية بيل كلينتون لولايتين أي حتى عام 2001. وفي نفس العام احتلت مقعد عضو مجلس الشيوخ المتقاعد دانييل موينهان بعد فوزها في انتخابات نوفمبر 2000 الجزئية على المرشح الجمهوري ريك لازيو، رغم انه لا علاقة تربطها بولاية نيويورك. ومع ذلك فإن عائلة كلينتون اشترت منزلاً في نيويورك وانتقلت للإقامة هناك في عام 2009، أي مذ قررت هيلاري خوض المنافسة على الكرسي الشاغر. لم تكتف السيدة كلينتون بهذا الخط الصعودي الصاروخي، فتقدمت لترشيح نفسها عن الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة في عام 2008 أمام المرشح الآخر عن نفس الحزب باراك أوباما الذي تفوق عليها وتأهل لخوض الانتخابات أمام مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين. وبعد فوز أوباما على ماكين استعان بها لشغل منصب وزيرة الخارجية في يناير 2009.
 
ومع ذلك لم يفتر هوسها بالسلطة رغم كل هذا “المجد السلطوي” الذي حظيت به في حياتها، وتغني إعلام “المؤسسة” بنموذجها كأول امرأة أمريكية تفوز بمقعد عضوية الكونجرس عن ولاية نيويورك، وأول امرأة أمريكية تترشح لمنصب رئاسة الجمهورية. فالسيدة كلينتون، مثلها مثل نيكولا سركوزي الرئيس الفرنسي السابق الغارق في فضائحه المالية والنسائية، تطمح لمعاودة كرة الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة.
 
وفي سعيها لتحقيق هذا الهدف، تواصل السيدة كلينتون، بحسب أحد مساعديها السابقين، نسج المزيد من العلاقات مع بارونات وول ستريت، بما في ذلك بنك جولدمان ساكس المتورط في الأزمة المالية التي ضربت البلاد في عام 2008، حيث تتقاضى منه 200 ألف دولار نظير كل مشاركة لها في فعاليات المؤسسة المالية الأمريكية العملاقة. “هيلاري تعمل مع غولدمان ساكس وتحب الحرب”، يقول مساعدها دون أن يخفي إعجابه بها كامرأة صقرة تجب كثيراً من صقور الجمهوريين الحربيين. فلقد أيدت قرارات الحرب في أفغانستان والعراق، وفي أغسطس الماضي انتقدت ما اعتبرته ضعف الرئيس أوباما في استخدام القوة العسكرية في السياسة الخارجية. ويا للغرابة فلقد دأب الصحفي في نيويورك تايمز مارك لاندلر منذ عام 2008 على اعتبارها صقراً أكثر شراسةً من أوباما، في إيماءة منه إلى حربه الجوية التي يشنها بطائرات “درون” على تجمعات مقاتلي القاعدة في باكستان واليمن والصومال.
 
إثباتاً لضراوة الصقر الذي تمثله الشخصية السياسية للسيدة كلينتون، تقول أوساط الإعلام الموازي لإعلام “المؤسسة”، بأن السيدة كلينتون ختمت عهدها كوزيرة للخارجية في عام 2013 باعتبارها الوزير الذي عسكر الوزارة في عمرها الممتد لمائتي سنة، حيث كانت تصريحاتها الحربية (Bellicose Statements) أكثر من تصريحات وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، وان بعض موظفي وزارتها اعتبروا تصريحاتها العدوانية مضرة بمهماتهم الدبلوماسية، وان مواقفها هذه دفعت كل من الرئيس أوباما ووزير الدفاع المترددين، لشن الحرب ضد النظام الليبي بقيادة الرئيس الراحل معمر القذافي وإطاحته، مع أن دكتاتور ليبيا الراحل كان قد تخلى طوعاً عن أسلحة الدمار الشامل وأعاد العلاقات مع الغرب وحقوق الامتياز لشركاته النفطية. فمهاجمة ليبيا من خلال الحرب غير المعلنة (Undeclared war)، كانت فكرة السيدة كلينتون على ما تذهب تلك الأوساط.
 
إنه لتحول درامي ذلك الذي رسمت به معالم طريق حياتها .. من ناشطة شبابية في صفوف الحركة المناهضة للحرب الأمريكية في فيتنام إلى صقر حربي. هل هو الطموح الشخصي الطاغي المودي بصاحبه إلى مجاهل الغيب، صعوداً أو هبوطاً؟ أم هي تلك العقدة التي تلازمها كلما سمعت همساً أو لمزاً أو تصريحاً ينال من طبيعة شخصيتها النسائية الرخوة، فتندفع لإبعاد تلك الشبهة من طريق المسارعة لاتخاذ مواقف حربية صارمة دفعاً لتلك التهمة. وفور دخولها الكونجرس في عام 2000 انضمت إلى لجنة خدمات القوات المسلحة في المجلس، وفي هذه اللجنة تفوقت على نظيرها الصقر الحربي العضو عن الحزب الجمهوري جون ماكين، فهي بالكاد اعترضت على أي عقد تسليح للبنتاغون، ولاذت بالصمت إزاء مخلفات الصناعة الحربية، وإزاء حالات التزييف والتزوير في التعاقدات واستغلال الجنرالات لنفوذهم وسطوتهم.
 
وحين ألقت خطاباً في الأكاديمية البحرية الأمريكية في عام 2012، دعت بكلمات حماسية قاطعة إلى ضرورة تعزيز الانتشار العسكري الأمريكي، بما يشمل ذلك السفن والطائرات الحربية وعديد القوات، في بلدان شرق آسيا المجاورة للصين، فكان رد الصين حينها على هذا الاستفزاز، زيادة موازنتها العسكرية. وحين جابت الولايات الأمريكية للترويج لكتابها “الخيارات الصعبة”، عمدت لإظهار شخصيتها الحربية كمرشح للرئاسة الأمريكية القادمة، مصممة على تعزيز التوجهات الحربية في السياسة الخارجية وتدعيم مواقع البيزنس الكبير.
 
في عام 2008 انتخبت الولايات المتحدة أول رئيس أسود منذ تأسيس الجمهورية. واليوم تندفع هيلاري كلينتون، مدعومة ببعض مراكز قوى المجتمع الصناعية الحربي الذي تتخادم معه، والذي كان الرئيس الأمريكي الأسبق آيزنهاور حذر من مخاطره على الحياة والديمقراطية الأمريكية، ومدعومة أيضاً من مواقع نافذة في وول ستريت، لأن تصبح في عام 2016 أول امرأة تتربع على كرسي الرئاسة الأمريكية. فهي وإن حاولت مراوغة حقيقة هذا الطموح الجارف بالتصريح عن عدم جاهزيتها بعد للإجابة عما إذا كانت سترشح نفسها للانتخابات الرئاسية القادمة، إلا أنها أعربت في مقابلة مع مجلة شتيرن الألمانية نشرت يوم 15 يونيه/حزيران الماضي، عن أملها في أن “تتمكن المرأة في الولايات المتحدة من أن تكون رئيسة للبلاد، وسأفعل ما بوسعي لحدوث ذلك”!
 
حرر في 7 نوفمبر 2014

اقرأ المزيد

هل أخطأت المعارضة في قرار المقاطعة؟


في أعقاب تفجر الأحداث في العديد من الأقطار العربية قبل ما يزيد على ثلاث سنوات، برزت بشكل واضح مسئولية السلطات الحاكمة عن واقع «انحلال» و»تفسخ» الدولة الوطنية في هذه الأقطار، بعد تأكد عجزها وفشلها في احتواء ودمج مختلف الفئات والمكونات السياسية والاجتماعية والعرقية، وإصرار هذه السلطات على تجميع السلطة في أيدي قلة قليلة لا تمثل غالبية المجتمع، واعتماد أساليب القمع والعنف والإقصاء للجم أصوات المعارضة من أجل استمرار الاستحواذ على كل السلطات.

ومسئولية الأنظمة الحاكمة عن ما آلت إليه الأوضاع في بلدانها تتوزع في اتجاهين، الأول من خلال قيامها بمأسسة عملية الإقصاء والتهميش لقوى ومكونات أساسية وحرمانها من أبسط حقوقها والعمل على تجذير عملية الإقصاء هذه في بنية المجتمع، عن طريق اتباع سياسة «فرق تسد». أما الاتجاه الثاني فهو رفض هذه السلطات تقديم أية تنازلات طوعية أو مشاركة القوى السياسية والمجتمعية في صنع القرار السياسي والوطني، ورفضها القيام بأية إصلاحات سياسية وديمقراطية حقيقية.
ومن دون أدنى شك، فإن بداية أحداث البحرين في عام 2011 جاء استجابةً لأصداء التحركات الشعبية العربية، وتعبيراً عن اختيار مسيرة التغيير عبر الديمقراطية وأدواتها، من انتخاب وحرية رأي وتعبير واحترام حقوق الإنسان وغيرها.

هذا الاستهلال ضروري جداً ومهم لفهم حقيقة موقف القوى السياسية الوطنية المعارضة، وتقييمه تقييماً صحيحاً وعادلاً، ليس بالنسبة إلى عملية الانتخابات التي قرّرت مقاطعتها، وإنما بالنسبة إلى الوضع السياسي العام في البلد وما وصل إليه من تأزم واحتقان على كل المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية، منذ بداية أزمة فبراير 2011. ومن أجل الوقوف على طبيعة المشروع السياسي الذي قدّمته المعارضة وسعت من خلاله للتوصل إلى توافق وطني عبر حوار جاد وحقيقي، وهو المشروع الذي تشكّل فيه المسألة الانتخابية بنداً واحداً، بينما تفاصيله ومحتوياته الأخرى جميعها ترمي إلى إيجاد حل شامل للأزمة، ووضع البلد على مسار التحول الديمقراطي الصحيح والقادر على إخراجه من حال التفرد، وتحقيق قدر معقول ومقبول من المشاركة ومن حقوق المواطنين كافة.

ولكن ما حصل هو أن السلطة تعمّدت حرف الصراع السياسي عن طبيعته إلى مسارات طائفية، ونجحت عبر سياسة التحريض الإعلامي وبث الكراهية في جعل الإستقطابات المذهبية عائقاً كبيراً أمام أية حلول أو مبادرات وطنية. فقد كان من الممكن احتواء الأحداث في بداية انطلاق شرارتها لولا الإصرار على اعتماد الخيار الأمني أسلوباً وحيداً، وهو ما قاد إلى تلك الفظائع والانتهاكات للحرمات ولحقوق الإنسان التي سجّلها تقرير «بسيوني».

ومع كل هذه الأثمان الباهظة والبالغة القسوة التي دفعها المواطن والوطن من وحدته وتماسك بنيته المجتمعية، فقد كان هناك مجالٌ وفرصةٌ للوصول إلى صيغة وطنية توافقية تخرج البلد من الوضع المحتقن خلال جولات ومراحل «الحوار» التي حصلت وانتهت إلى لا شي، ما جعل البلد يعيش في دائرة مغلقة من الأزمات وحالة من الفراغ والعدم السياسي التي كشفت عن أن آخر حسابات السلطة على ما يبدو، التوصل إلى حل سياسي مع المعارضة السياسية. كما كشفت عن أن ما كان يجري ليس حواراً حقيقياً، إنما هو مجرد «مناقشات» أو «ثرثرات» يُراد منها تقطيع الوقت واستثمارها إعلامياً في مخاطبة الخارج، دون أي اكتراث بالأوضاع في الداخل التي كانت تشهد مع مرور الوقت مزيداً من التصعيد والتوتر السياسي والأمني.

فأي حوار جاد وحقيقي كان حتماً سيقود إلى عملية تفاوضية، وهذا التفاوض سوف يؤدي إلى «اتفاق» محدّد إذا ما حسُنت النوايا وتوفّرت الإرادة السياسية عند كل الأطراف التي ستجد نفسها ملزمةً بتقديم تنازلات متبادلة لإنجاز أي اتفاق، ولكن المؤسف أن هذا لم يحصل في كل محطات الحوار، لذلك كانت الحصيلة أشبه بالعدم.
لذلك علينا أن لا نُصاب بالدهشة من المآل الذي انتهت إليه الأوضاع في البلد أخيراً، بعد أن أقفلت السلطة أبواب الحوار بصورةٍ نهائية، وعادت بالأزمة إلى مربع الصفر كما يقال، حيث افترقت وبصورة بعيدة توجهات وخيارات السلطة عن خيارات القوى السياسية المعارضة، خصوصاً بعد أن قررت المضي في إجراء العملية الانتخابية دون تهيئة الأجواء، متجاهلةً بشكل واضح مبدأ مهماً وهو أن حفظ السلم الأهلي يجب أن يشكل أسبقية ملحة على أي قرار أو إجراء يمكن أن تقدم عليه.
لذلك نحن اليوم مرةً أخرى أمام جدلية المقاطعة والمشاركة التي تذكرنا بأجواء العام 2002، مع اختلاف الظروف والمعطيات محلياً وعربياً وإقليمياً، وتعود معها حالة الاستقطاب والانقسامات الحادة التي تضرب بنية المجتمع. ومعها أيضاً يطل شبح أعمال الحرق والتخريب والفوضى التي هي مرفوضة ومدانة بكل المعايير الوطنية والأخلاقية والإنسانية مهما كانت الجهة التي تقف خلفها.

فالذهاب إلى الانتخابات وسط أجواء متوترة ومشحونة لا يمكن أن يساعد على تأهيل الوضع السياسي المضطرب، ولا يمكن أن يجلب الاستقرار المنشود. فقد كان أمام السلطة وبيدها الكثير من الآليات السياسية والإجرائية التي تستطيع بها نزع فتيل الأزمة ومنع انفجاره مجدّداً. إحدى هذه الآليات استمرار الحوار مهما كانت العقبات والإصرار على تحقيق توافق سياسي حول سقف الإصلاحات السياسية والخطوات الديمقراطية الممكنة بشكل عام، وكذلك التوافق حول القوانين التنظيمية والإجرائية ذات الصلة بالعملية الانتخابية بشكل خاص. فهذه الأخيرة ليست سوى وسيلة أو خطوة إجرائية لإنجاز هدف أشمل على طريق الديمقراطية.

من هذه القوانين التي كان يجب الاتفاق عليها -على سبيل المثال لا الحصر- تلك المتعلقة بتوزيع ورسم الدوائر الانتخابية، وكذلك مسألة إسناد مهمة الإشراف على العملية الانتخابية ونزاهتها إلى هيئة مستقلة ومحايدة، واقتصار دور الحكومة ومؤسساتها على الجانب التقني لتنظيم هذه الانتخابات. فقد كان من شأن التوافق على هذه المسائل أن ينزع بوادر الشكوك التي تحوم حول الكثير من الجوانب الخاصة بالانتخابات، مثل دور السلطة في التحكم بأدوات هذه العملية والتلاعب بمخرجاتها. كذلك مسألة توظيف المال السياسي في خلق واقع انتخابي يخدم أهدافها فقط، إضافةً إلى مشاركة المجنّسين ودور المراكز العامة في هذه العملية.

فتجاوز مثل هذه القضايا الشائكة عبر اتفاق معلن، كان سيساعد حتماً على ضبط خيارات وتوجهات المعارضة واتخاذها منحى مغايراً تماماً. ولكن الواقع المؤسف أن السلطة أصرت على المضي في سياساتها بصورة منفردة، ودون أي اعتبار لرؤى المعارضة التي كانت تتحاور معها، وأبدت الكثير من المرونة من أجل التوصل إلى اتفاق «اللحظة الأخيرة» عبر البحث عن قواسم مشتركة في قراءة وتفسير مضامين النقاط الخمس التي جرى طرحها بشكل مربك وعاجل كما رأينا، ثم جرى فرضها على المعارضة للقبول بها كأمر واقع، وفي إطار رؤية أحادية للسلطة التي كانت تسعى إلى اختزال كل الأزمة وتداعياتها السلبية في مسألة الانتخابات فقط. بينما لقوى المعارضة وجهة نظر تتلخص في اعتبار العملية الانتخابية مجرد وسيلة أو بوابة للمشاركة السياسية الفعلية لإنتاج سلطة تشريعية تتحقق معها الإرادة الشعبية، تكون قادرةً على مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية.

وهذه الرؤية ترى العملية الانتخابية مجرد محطةٍ لنقل البلد إلى مرحلة جديدة، تتجاوز المرحلة القائمة بكل سلبياتها. وطبعاً هذا أمر غير قابل للتحقق دون اقتناع السلطة بحاجة البلد إلى تسوية شاملة وعادلة للأزمة، وليس مجرد خطوات تجميلية أو ترقيعية.

وكما يرى ويلمس الجميع فإن المعطيات والوقائع على الأرض لا تسمح بوجود سوى مؤسسة صورية تحاصرها العديد من القيود والإجراءات التي يستحيل معها صدور أي تشريع أو قرار لا يحمل ختم موافقة الحكومة عليها.

وقد جاءت التشريعات الأخيرة والمراسيم الإضافية لتشديد قبضة السلطة على هذه المؤسسة بصورة شاملة، وإحكام الحصار عليها، وهو ما يعني إفراغ هذه المؤسسة التشريعية من أي محتوى ديمقراطي تعدّدي، وإبقاء البعد الطائفي في مسارها ومخرجاتها.

لكل هذه الأسباب وغيرها كان قرار القوى السياسية المعارضة بعدم جدوى التعاطي مع هذه العملية، لا ترشحاً ولا انتخاباً، نظراً لاستحالة توافرها على ما يصب في مصلحة البلد ومصالح مواطنيه.

وربما هناك من يظن أو يرى في هذا الخيار خطأً أو ضرراً، ولكن المعارضة يقيناً، قد تجاوزت بقرار المقاطعة خطأ أكبر وضرراً أسوأ. وسوف لن يطول الوقت لاكتشاف هذه الحقيقة، ولعل المستقبل يكون خير شاهد على مدى صوابية ومبدئية هذا القرار.
 


صحيفة الوسط البحرينية 
 الإثنين 03 نوفمبر 2014م

اقرأ المزيد

انتصار تونس عودة الإسلام السياسي إلى حجمه الطبيعي



لئن كانت التجربة الحداثية التونسية هي من أكثر التجارب العربية تقدمية وبروزا، فإن خروج تونس من الانتخابات التشريعية الأخيرة منتصرة بالمعنى السياسي للكلمة، من شأنه أن يؤسس لمرحلة جديدة من التجربة الديمقراطية الواعدة، حيث تم إجراء هذه الانتخابات بسلاسة وهدوء، ودون ضوضاء أو تدافع سياسي، واختار التونسيون ممثليهم بكل حرية، مما حدا بالمراقبين إلى القول: إن تونس قد أصبحت اليوم «المختبر» الذي ستُصنع فيه تجربة الديمقراطية في العالم العربي، الذي ما يزال يموج بالفوضى والاضطرابات، فبعد نجاح العملية الانتخابية لم يعد مهما – أمام انتصار تونس – من ينجح: اليمين أم اليسار أم الوسط، النهضة أم نداء تونس، ومن سيفوز بتشكيل الحكومة ورسم ملامح المرحلة القادمة؟


بالرغم من ان هذه الانتخابات قد أعادت الإسلام السياسي الى حجمه الطبيعي بعد ان كان في انتخابات 2011م استحوذ على 41% من مقاعد البرلمان، وذلك لأن التجربة التونسية قد أسست بذلك كله -رغم جميع التحديات والصعوبات والمخاطر التي تحيط بها – لنموذج عربي واعد للتداول السلمي على السلطة.
نجاح تونس اللافت – وسط محيط إقليمي مضطرب – يعود إلى عدة عوامل، من أهمها في تقديري:


أولا: نضج الشعب التونسي وتطلعه الدائم إلى تحقيق الحرية والديمقراطية وفق نظره واقعية متوازنة لا تغرق في الإيديولوجي، حيث يتميّز المجتمع التونسي بتركيبة اجتماعية منسجمة تحتل ضمنها شريحة الفئة المتوسطة مكانة أساسية من مجموع السكّان. وتعتبر هذه الشريحة صمّام الأمان والضامن الأساسي لتماسك البناء المجتمعي ولقوّة النسيج الاجتماعي وللاستقرار الاجتماعي بالرغم من الصعوبات الاقتصادية الجمة


ثانيا: قوة المجتمع المدني التونسي الذي أسس لكتلة جبارة قادرة على فرض المعادلات السياسية أو التأثير فيها، حيث انتهت أسطورة النخبة وبرزت في المجتمع ما يمكن ان نسميه قوة الفاعلين الاجتماعيين، من نقابات (خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة) وأحزاب ومؤسسات ثقافية واجتماعية وحقوقية ونسوية، من كافة الفئات، حيث توجد في تونس منظمات شعبية هي أقرب إلى منتديات ثقافية ومهنية، تبرز آراء مختلف الحساسيات الفكرية والفئات الاجتماعية، وتشارك في ممارسة السلطة من خلال الضغط على الهيئات المنتخبة.


حيث كان واضحا أن لقيام مجتمع مدني حر، تعددي، لا بد من وجود مجموعة من المنظمات والمؤسسات والهيئات، التي تعمل في ميادين مختلفة بصفة مستقلة، مثل الأحزاب السياسية، والجمعيات بمختلف أهدافها، والنقابات التي تدافع عن مصالح أعضائها، والمنظمات التي تهتم بالدفاع عن الأفراد وعن قضايا معينة، والأندية الرياضية والترفيهية وغيرها. وتوفر كل مكونات المجتمع المدني قناة للمشاركة الاختيارية في المجال العام وفي المجال السياسي، وتعد أداة للمبادرة الفردية المعبرة عن الإرادة الحرة، والمشاركة الإيجابية النابعة من التطوع، قصد المساهمة في التطوير والتحديث.


ثالثا: دور المرأة التونسية كقوة مجتمعية وثقافية نضالية، في مواجهة الاتجاهات المحافظة التي برزت إبان حكم النهضة، وخصوصا عندما شعرت المرأة بأن مكتسباتها مهددة بالتراجع (خاصة في مجال الأحوال الشخصية) فاستنفرت قواها وصنع جهدها فارقا مهماً، فقد كانت المرأة التونسية إبان النضال ضد السياسات والنزعات الرجعية في مقدمة القوى المناضلة والرافضة لأي تراجع على صعيد المكتسبات الحضارية التي تحققت لها، ولذلك كانت من بين أهم القوى التي استنفرت قواها لمواجهة هذا التهديد الذي شكله الإسلام السياسي، ولذلك كان حضورها ونشاطها لافتا في هذه الانتخابات الأخيرة.


رابعا: نضج القوى السياسية الأساسية (الإسلامية أو الليبرالية او اليسارية) والتي برزت كقوى معتدلة، تمتلك القدرة على إدارة الصراع لصالح تونس ولصالح الحرية، فحتى الإسلام السياسي التونسي في صورته التي تمثلها حركة النهضة، (في الحكم أو في المعارضة)، فقد كان واضحا انه ينأى نسبيا عن الخطاب التكفيريّ البدائيّ المتوحش، وكذلك التيار العلمانيّ الأساسي (في المعارضة أو في الحكم)، بدا واضحا انه لا يستمدُّ وجودَه أو قوته من معاداة الخصم الاسلامي، وإنما من مشروع مدني سياسي هو استمرار للتيار العام في الثقافة التونسية والتجربة السياسية النضالية خلال العقود الماضية.


خامسا: عدم تدخل المؤسستين العسكرية والأمنية في الشأن السياسي العام، فالقانون الانتخابي التونسي لا يسمح لأفراد المؤسسة العسكرية والأمنية بالمشاركة في العملية الانتخابية، كما لا يسمح لهما بالتدخل في الشأن السياسي بأي شكل من الأشكال، بما حرر التجربة الديمقراطية من أية ضغوط من خارج آليات عمل المجتمع السياسي..


سادسا: الاجماع الوطني على ادانة العنف ورفضه ومحاربته بكافة الوسائل ورفض أي شكل من اشكال التبرير بما ضمن القدر المطلوب من تحصين الجبهة الداخلية قبل كل شيء، وضمان إجماع وطني حول رفض الفوضى والعنف والخروج عن القانون.


إن هنالك مؤشرات مطمئنة على نجاح التجربة الديمقراطية التونسية، ويبدو ان المجتمع التونسي قد اختار النموذج الديمقراطي الذي يناسبه والذي لا يمكن ان يقتصر على الجوانب الفكرية والسياسية والحقوقية، لان حقوق الإنسان تبدأ بأبسط حقوقه المادية في العيش الكريم إضافة إلى حقه في الصحة والتعليم والعمل وهذا هو التحدي الأكبر الذي سوف يواجه أي حكومة جديدة.

جملة مفيدة


هناك اليوم، من يتحدث عن «انقلاب أبيض» على الثورة في تونس، استنادا إلى ذرائع كثيرة، من بينها عودة بعض رموز النظام القديم عبر أحزاب جديدة، للبرلمان والحكومة والحقيقة، أن مثل هذه المزاعم لا تصمد طويلاً أمام حقيقة أن الشعب التونسي، هو من اختار وقرر بملء حريته، وأن ليس كل من كان في موقع المسؤولية في العهد السابق، يستحق الإعدام السياسي وقانون العزل والحجر والاجتثاث وفقا للوصفة العراقية سيئة الصيت، كما أن ليس كل من جاءت بهم الثورة من (ثوار)، يستحقون التكريم والتبجيل أو حتى الحصول على مقعد في البرلمان..



جريدة الأيام
3 نوفمبر 2014

اقرأ المزيد

أفكار تغرد خارج السرب حالياً


أصدر المعهد الملكي للشئون الدولية (تشاتهام هاوس) تقريراً من 36 صفحة بتاريخ 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، تحت عنوان «البحرين: المجتمع المدني والخيال السياسي»، تطرق فيه إلى عدد من الأفكار التي يمكن أن تحرك الأجواء إيجابياً بعد فشل جهود الحوار الرسمية. البحث يسعى إلى توسيع المخيلة السياسية، ويتطرق إلى إمكانية تفعيل دور المناقشات غير الرسمية بين أطراف المجتمع، وتفعيل دور الشباب أيضاً، سعياً إلى مساهمات وجهود جديدة، على أمل أن يفسح لها المجال، لإيجاد حل سياسي من خارج الصندوق المغلق.

البحث يتعرض إلى آثار الأزمة منذ اندلاعها في مطلع العام 2011، والتي لا تضر فقط باقتصاد البلاد ونسيجها الاجتماعي؛ ولكنها أيضاً تساهم في تعميق التوترات الطائفية وزيادة خطر العنف. ينطلق البحث من اعتبار فشل جهود الحوار سبباً مباشراً في احتمال تطرف المعارضة، وإضعاف العناصر الإصلاحية داخل كل الأطراف. فما نشهده من فرض قيود مشددة على حرية عمل الجمعيات والتعبير والنشاط السياسي لا تسكت أصوات المعارضة الأكثر صخباً، وإنما تقمع المعتدلين الذين ستحتاجهم الجهات الرسمية في نهاية المطاف إذا كانت تود التوصل إلى حل سياسي دائم للأزمة.

ويشير البحث إلى أن من النتائج السلبية لانسداد آفاق الحل السياسي عبر الحوار مع المعارضة، أن الكثير من البحرينيين ينتظرون الحلول من التفاعلات خارج بلادهم، ولكن هذا التوجه يُعبّر عن يأس وتسليم الأمور للمجهول.

الورقة البحثية ترى إمكانية كسر الجمود عبر نشاط مدني – فيما لو منح له الحيز السياسي – للتواصل بين فعاليات خارج الأطر التقليدية بهدف تطوير تصورات واحتمالات ممكنة لمستقبل البحرين، لا تنحصر فقط بالعمل البرلماني المنشود مستقبلاً، وإنما أيضاً ما يتعلق بالوضع الاقتصادي، وطريقة التعامل مع الوضع الأمني، وكل ما يتعلق بالهوية الوطنية المفترض أن تكون جامعة لكل الفئات.

الورقة البحثية تشير إلى أفكار يمكن أن يتداولها الشباب البحريني حول العديد من الخيارات لتسوية سياسية توفر درجة من الاستقرار وتفسح الطريق لإصلاح حقيقي عبر نهج أكثر استدامة يعالج الأسباب الجذرية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) والتي أدت إلى حدوث الانقسامات الخطيرة داخل المجتمع، وهذا النهج ينبغي أن يختلف عن الطرح الذي تحدث عن محاصصة طائفية لا يمكن أن تخرجنا من الأزمة.

 صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4436 – الخميس 30 أكتوبر 2014م

اقرأ المزيد

عبدالله خليفة … المبدعون لا يموتون

في عام 1975 كانت تجري مباراة في  بين قطبا كرة القدم في المنامة ، ناديين
النسور ( الأهلي حاليا) والعربي ( النجمة حاليا ) في أستاد مدينة عيسى ،
بعد هجمة 23 أغسطس 1975م على الحركة الوطنية البحرينية ( التحرير والشعبية )
، بحوالي شهر ونصف ، لا أذكر التاريخ بالضبط ، قبل إطلاق صفارة البدء من
قبل حكم المباراة ، وقف الجميع دقيقة صمت حداداً على وفاة أم أحد أعضاء
نادي العربي ، في تلك المباراة التي أتينا لمشاهدتها ، لم نعرف ذلك الشخص
الذي توفيت والدته ، بعد عامين وتحديدا في عام 1977، التقي بالزميل والصديق
عيسى خليفة في مدرسة المنامة الثانوية للبنين ، تكونت بيننا صداقة وزمالة 
( مجموعة من الطلبة ) ، أذكر منهم الرفيقين المحامي محمد سلمان و الراحل
جمال مرهون ، أخبرنا صديقنا عيسى ، بان تلك الوقفة  ( دقيقة الصمت حدادا )
قبل بدء المباراة بين النسور والعربي ، في عام 1975م ، كانت على والدته
المتوفية ، و الشخص المعني  كان شقيقه المدرس  المعتقل  عبدالله خليفة ضمن
كوكبة من مناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية والجبهة الشعبية في البحرين
، الذين تم أعتقالهم في هجمة 23 أغسطس عام 1975م ، وتم حل المجلس الوطني
في 26 أغسطس في عام 1975م ، وسادت في البلاد أجواء من القمع والترهيب ،
وازدادت شراسة وقساوة الحملة الرجعية على الحركة الوطنية البحرينية بعد
أغتيال الكاتب عبدالله المدني في عام 1976م ، عرفنا بان المناضل المعتقل
عبدالله خليفة ، بأنه قصاص (  كاتب قصة قصيرة ) ، و أخبرنا الصديق عيسى
خليفة ، بأن شقيقه  عبدالله ، قد صدرت له مجموعة قصصيه باسم ( لحن الشتاء )
في عام  1975م ، قبل أعتقاله وحل المجلس الوطني في 26 أغسطس من عام 1975م ،
المجلس المنتخب  أعضاءه  في 7 ديسمبر من عام 1973م ، تكونت بيننا صداقة
نحن الطلبة الأربعة ، وكنا نزور صديقنا عيسى خليفة في بيته ( بيوت العمال )
في فريق اللينات القضيبية ، تلك المنطقة الفقيرة من المنامة ، التي كتب
عنها كثيراً الراحل الروائي عبدالله خليفة في قصصه ورواياته ، طلبت من
الصديق عيسى ، استعارة قصة ( لحن الشتاء ) ، للقراءة وأعادتها إليه ، بعد
أن قرأتها شعرت بأنها قصة جميلة تعبر عن ( القصص الواقعية ) ، في أحدى قصص
لحن الشتاء ، كان يخاطب ( عامل البناء ) علي بأن يعود إلى وطنه البحرين ،
وأن الشرطة لا تعرفك لقد كبرت يا علي ، فيما بعد عرفت بأن  ، المقصود في
القصة ، هو المناضل العمالي علي مدان أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني
البحرانية ، والذي أمتهن  في شبابه لسنوات مهنة البناء  وكانت مصدر رزق له
في تلك الفترة ، قضى المناضل الروائي الراحل عبدالله خليفة في سجون البحرين
ست  سنوات ، أفرج عنه في عام 1981م ، كان السجن محطة له ليؤسس لمشروعه في
كتابة الروايات الطويلة ، ولكي يبحر باشرعته في عباب البحر وأمواجه
المتلاطمة  و يكتب في الفلسفة و التاريخ و التراث العربي والإسلامي ، لهذا
أصبح يطلق عليه من قبل العديد من المثقفين العرب بأنه موسوعة فكرية وثقافية
لغزارة أنتاجه الأدبي والثقافي ، أن رحيله المبكر خسارة فادحة للفكر
والثقافة في البحرين والمنطقة ، أنه مبدع وناقد شجاع ، ودائما يطرح الآراء
النقدية الفكرية التي  تشكل موضع خلاف وجدل في أوساط المثقفين بما فيهم
الماركسيين ، كتب بتاريخ15/08/2014م ، في عموده اليومي ( أفق ) جريدة أخبار
الخليج ، قائلا: تداخل اليسار في الشرق مع ولادات الرأسماليات الحكومية
فيها ، كانت هذه لحظة لقاء معقدة وتركيبية ، وذات إشكاليات متعددة ، تضافر
فيها اليسار الغربي مع الشمولية الشرقية ، والرغبة في القفزة النهضوية مع
الاستبداد ، وتسريع الحداثة مع هياكل اقتصادية متخلفة جامدة ، وتم جلب أحدث
الأفكار التقدمية لوعي شعوب تعيش في قرون سابقة .


ويضيف : أسرعت قوى سياسية في تنميط موديل سياسي يساري نهضوي رأت فيه الشفرة
الموجزة والمتكاملة وجعلت من الدكتاتورية طريقة سياسية لحل كل هذه
الإشكاليات .
كتب  في يوليو من نفس العام مقال أخر ، عن عزوف المثقفين والسياسيين عن
العمل في منظماتهم الفكرية والسياسية والأدبية ، قائلا: الأجيال الجديدة من
المثقفين والسياسيين لا يجدون أطراًً يعملون بها ، ويطورون تجاربهم ،
وتقوم الانشقاقات بعزلهم وإضعاف تجربتهم حتى تتردى الثقافة الوطنية ويتمكن
الانتهازيون من تخريب الثقافة الوطنية .
الراحل الكبير المناضل و الروائي عبدالله خليفة ،  شكل أضافة نوعية لقضايا
الفكر والثقافة في البحرين والخليج والوطن العربي  ، فهو كاتبا وباحثا
يساريا مميزا ، يحاول تفكيك المعقد وتبسيط المفاهيم النظرية ، وفق منهجية
فكرية مغايرة للسائد في الفكر الماركسي ، لهذا يثير الجدل  والخلاف في
أوساط المثقفين الماركسيين ، ولا تروق للعديد منهم كتاباته بالرغم من أنه
مستلهما جيدا للمادية الجدلية والفلسفة والتاريخ  ، وموظفاً قراءته للنظرية
الماركسية  في كتاباته ومؤلفاته انطلاقاً من الواقع الذي يعيشه ، لكي
يتعرف ويتعمق المرء في السجال الفكري والسياسي الذي كان دائماً يطرحه ويعبر
عنه في كتاباته و مؤلفاته ، يتطلب قراءة معمقة فيها ، ودعوة المهتمين في
شئون الفكر والثقافة لعقد ورش عمل حولهما .
رسام الكاريكاتير البحريني الفنان خالد الهاشمي ، كتب عن وفاة الروائي عبدالله خليفة هذه العبارة ( المبدعون  لا يموتون ) 
فاضل الحليبي

اقرأ المزيد

الدرس اليساري من تونس


نتائج الانتخابات التونسية : سقوط النهضة أم سقوط الثورة ؟ سقوط النهضة هو ما أجمعت عليه التعليقات والتحليلات السياسية في تونس وخارجها . شذ عن هذا الاجماع ناطق باسم النهضة حسب النتيجة نكسة لا هزيمة، وآخرون حسبوها تراجعا مؤقتا . أما الكلام عن سقوط الثورة فكان نادرا ، وكان نابعا من خيبة ومن رغبة في أن يكون الرابحون هم أهل الثورة من اليسار لا أن يعود النظام القديم برموز جديدة قديمة .

حصل اليسار ، بحسب التصنيف اليساري القديم للكلمة، على خمسة ونصف بالمئة من أصوات الناخبين أو من عدد النواب في المجلس الجديد وكان ترتيبه الرابع بين القوى السياسية ، بعد نداء تونس والنهضة والاتحاد الوطني . فهل يمثل هذا الرقم الحجم الفعلي لليسار ؟

لقد بات من الضروري والملح، بعد تجربة الانتخابات التونسية خصوصا والربيع العربي عموما ، وضع تعريف جديد وبرنامج نضالي جديد لليسار، بهما يقاس نجاحه وفشله، وبموجبهما يغدو مقياس الحجم الفعلي متناسبا طردا مع تقدم العملية الديمقراطية لا مع عدد الفائزين من المرشحين الذين يصنفون أنفسهم في جبهة اليسار.  
انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية أعلن نهاية اليسار بنسخته وبرنامجه القديمين، ولا يغير في هذه الحقيقة مكابرة قيادات الخطاب الخشبي والجمود العقائدي  وعدم اعترافها بذلك. ربما كانت المكابرة ناجمة عن طرح السؤال اليساري بطريقة مغلوطة ، لأن السقوط المدوي في بداية التسعينيات دفع بعض سيئي النية من المبغضين وبعض ضعفاء النفوس من المحبين إلى التساؤل عما إذا كانت ثمة حاجة إلى وجود اليسار، فكان من الطبيعي ، حينذاك ، أن ينكمش هؤلاء على أنفسهم ليقاوموا موجة الإبادة والزوال، ثم جاء الربيع ليكشف عن عمق الهوة بين مطالب اليسار القديمة ومطالب الحركة الشعبية الربيعية.

بعد ربع قرن على ذاك الانهيار ، وبعد سنوات على الربيع العربي، وبعد أن ثبتت حاجة الأوطان لوجود يسار ما ، بات على اليسار أن يعترف باستحالة استمراره في صيغته القديمة ، وآن له أن يستيقظ من وهلة السؤال عن موته ، ليجيب على سؤال البحث عن ولادته الجديدة ، عن كيفية إعادة بناء نفسه.

العمود الفقري في قضية اليسار القديم هو سؤال العدالة ، أي ما يتعلق بتوزيع الثروة وإزالة الفروقات الطبقية وطي صفحة استثمار الانسان للأنسان، الخ. وإذا كان صحيحا ما قاله ماركس، وهو صحيح ، أن الحياة توضح لنا الحقيقة بأفضل مما توضحها الأفكار( أنها أهم من جميع أفكارنا)  فقد اثبتت تجربة قرن من حياة الاشتراكية المحققة وقرنين من حياة الماركسية، أن الأولوية في حياة البشرية المعاصرة هي لسؤال الحرية لا لسؤال العدالة، من غير انتقاص من أهمية السؤال الثاني.

كمال جنبلاط عنون فصلا من فصول كتابه ، “من أجل لبنان” المنشور بالفرنسية : ” ما نفع الخبز من غير الحرية ؟” ولئن كان جنبلاط قد استشرف باكرا مخاطر غياب الحرية في المشروع الاشتراكي، وفاجأ الشيوعيين اللبنانيين في عيدهم الخمسين (1974) بخطاب شجاع، أنذرهم فيه، وأنذر من خلالهم كل اليسار العربي، من مغبة الاستخفاف بحاجة الشعوب إلى الحرية، فلا الخطاب ولا هزيمة المشروع الاشتراكي كانا كافيين لإقناعهم بأن البرنامج الأفضل للتغيير الثوري ليس ذاك الذي نتمناه ونتخيله ونحلم به ويستحيل تحققه، بل الذي يتماشى مع مسار التاريخ والذي تفسح له الحياة (الحدود التاريخية بالتعبير الماركسي) المجال إلى التحقق.

بات على اليسار العربي أن يقر من غير تردد ، بأن الربيع العربي ، أيا تكن شرارته ، ( البحث عن العدالة في حادثة بوعزيزي ، أو الانتفاضة ضد عنف الإجهزة الأمنية في مصر وضد حكم الفرد والعائلة وغياب القانون في ليبيا، أو ضد استبداد الحكم الوراثي في اليمن وسوريا ، أو استبداد نظام المحاصصة  في العراق ولبنان) بأن الدافع المشترك وراء جميع الشرارات هو البحث عن الحرية، أي عن إسقاط أنظمة الاستبداد الجمهوري والملكي والأوليغارشي والانكشاري والوراثي والعسكري، والبحث عن آلية حديثة لبناء دولة قوامها تداول السلطة لا تأبيدها ، مع كل المستلزمات المتمثلة في بناء المؤسسات والاحتكام إلى الدساتير والقوانين وإلى السلطة القضائية ، الخ. الخ .

الانتخابات التشريعية التونسية، بهذا المعنى، انتصار لا يرقى إليه الشك للربيع العربي، بصرف النظر عن نتائجها التفصيلية. وهي انتصار، حتى لو كان الفائز فيها حزب النهضة الاسلامي، لأن لهذا الحزب فضلا في إيصال الربيع التونسي إلى نهاياته السعيدة، متمايزاً عن أصوليات إسلامية أخرى يعمل بعضها على بناء دولة الخلافة التي تكفر ما عداها ، وبعضها الآخر على محاربة الالحاد ، فيما وافق هو على دستور ينص في أحد بنوده على حرية الضمير، وليس فقط على حرية الاعتقاد.
كل اليسار العربي، لا التونسي وحده، معني بهذا الدرس المستفاد، ليعيد بناء نفسه وليستعيد دوره مدافعا حقيقيا عن الحرية والديمقراطية ، وليناضل، بالتالي، من أجل عدالة منشودة ، قد يكون اسمها الاشتراكية ، ولم يحسن اليسار القديم رسم خريطة الطريق الصحيحة للوصول إليها.
 
 
الكاتب:    محمّد علي مقـلـّد
كاتب يساري من لبنان
30 أكتوبر 2014
من موقع جريدة المدن الالكترونية

اقرأ المزيد