المنشور

محنة الحرية في تاريخنا


في العصر الجاهلي هجا الشاعر طرفة بن العبد الملك عمرو بن هند، فكتب إلى عامله بالبحرين بأن يجهز عليه، فكان أن استدرجه وفصد كاحله وقتله على نحو مرعب. والشيء نفسه فعله النعمان بن المنذر مع عبيد بن الأبرص، وكان مصير الشعراء السود والصعاليك الحصار والعزل والخلع.

ويحفظ التاريخ كذلك أسماء خالدة ممن قالوا قولة الحق بوجه العسف من أمثال أبي ذر الغفاري وعروة بن ورد والشنفري ومالك بن الريب وأبو الأسود الدؤلي وابن حزم الأندلسي وسواهم، وكان نصيب الكثير من الفلاسفة وأهل الفكر التشريد والسجن والقتل غيلة وظلماً، كما حدث مع غيلان الدمشقي والحلاج والسهروردي وغيرهم.

وفي التاريخ الحديث اضطهد الدكتور طه حسين وهوجم، وسواه واجه الكثير العديد من أشكال المضايقة والتشهير، لا بل والقتل.

لكن تاريخنا عرف كذلك لحظات من الازدهار والتقدم في المعارف وفي الفلسفة والإبداع، تلك اللحظات التي أدرك فيها أولو الأمر أن الحرية هي مناخ الإبداع والعلم. وينقل التاريخ أن الخليفة المأمون قرّب إليه الكثير من الجدليين والنظار وأهل المعرفة والفقه، وكان يجادلهم بنفسه، وأنتجت تلك اللحظة الذهبية الثراء الفكري في الحضارة العربية، لتستفيد منه أوروبا لصنع نهضتها، بعد أن دخل عالمنا العربي الإسلامي بياته الطويل.

نقول هذا الكلام عن العلاقة بين الفكر والحرية في زمننا »الداعشي« الأغبر هذا، وفي وقت تشتد فيه وطأة القيود على حرية التكفير، وتتعدد فيه مصادر السلطات التي تصادر حرية التفكير والمعتقد.

في السابق كان الحاكم هو من يعاقب المفكر أو المبدع إذا ما اختلف معه، أما اليوم فإن قوى فكرية واجتماعية وسياسية تمارس سلطة أشد من سلطة الحكومات، وتتوسل أساليب الضغط والابتزاز على من يختلف معها، وتجري العودة إلى نصوص روائية وقصصية وإبداعية مختلفة صدرت في أزمنة قديمة أو حديثة ليجري تصيد جمل وعبارات منها وعزلها عن سياقها ضمن النسيج الإبداعي والدعوة لمعاقبة أصحابها بحجة خدش الحياء العام.

إذا ما استمرت مثل هذه الموجات، فعلينا أن نجمع كل نسخ «ألف ليلة وليلة» من المكتبات والبيوت، وأن نفعل الشيء نفسه مع الشعر الغزلي الجميل في العهود الأموية والعباسية والأندلسية، ونلقي في مياه النيل بروايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس.

وكي لا نبلغ هذا المبلغ ما أحوجنا لصحوة العقل وصوت الحكمة وسداد الرأي، إنقاذاً لأنفسنا وثقافتنا.


 حرر في: 03/09/2015

اقرأ المزيد

الحرب ووحشيتها المتوارثة


كانت الحروب، وستبقى كذلك، وفقاً للقراءة المبدئية لبقايا غرائز الإنسان الوحشي التي ما زالت تسكن دواخل إنسان الحضارة المعاصرة، وسيلة العيش والاغتناء لدى الإنسان القديم والإنسان المعاصر على حد سواء. وكان هذان محفزيها الأساسيين منذ الأزل، منذ أول جريمة وحشية اقترفها الإنسان بحق أخيه الإنسان، منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل. وتلعب بعض العوامل

البيولوجية والأنتروبولوجية (علم الإنسان) والتضاريسية والمناخية والاجتماعية والثقافية في تشكيل النزعات الحربية لدى مختلف الشعوب والأمم. وهذا ما يفسر أن بعض هذه الشعوب والأمم كانت وما زالت أميَل إلى خوض الحروب من غيرها، فكان أن عُرفت بالشعوب الحربية. بينما هناك من الشعوب والأمم التي لم تخض حرباً على الإطلاق.
 
ويذكر لورانس ه. كيلي الأستاذ في جامعة ألينوي، في كتابه «الحرب قبل الحضارة»، إن ما يقرب من 90-95% من المجتمعات المعروفة على مر التاريخ، قد شاركت على الأقل في حرب عرضية.

ومن نافلة القول إن أُولى الحروب كانت قد وقعت بين القبائل في صورة إغارات على نطاق صغير قبل أن يتطور نطاقها بين المدن المتنافسة والمتزاحمة أولاً، وبين الأمم من بعد، وبين الإمبراطوريات تالياً. وكانت الحروب في كثير من الأحيان سبيلاً لإنشاء الدول والإمبراطوريات، مثلما كانت سبباً في سقوطها وتفككها. ولكن ما أن ظهرت الدولة قبل نحو 5000 سنة، حتى أخذت وتيرة النشاط العسكري في مناطق كثيرة من العالم، في الارتفاع، وأدى ظهور البارود وتسريع وتيرة التقدم التكنولوجي إلى انتعاش ظاهرة الخروج لخوض الحروب الحديثة.

في كتابه «من الحرب» (Vom Kriege) الذي نُشر في عام 1832، أي قبل عام من وفاته، يقول الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي كارل فون كلاوزفيتز (1780-1833)، عن الحرب، «إنها عمليات مستمرة من العلاقات السياسية ولكنها تقوم على وسائل مختلفة». بمعنى أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. ويسترسل في توصيفها قائلاً «إنها نزاع بين المصالح الكبرى يسويه الدم، وإن السياسة هي الرحم الذي تنمو فيه الحرب وتختفي فيه الملامح التي تكونت بصورة أولية، كما تختفي خصائص المخلوقات الحية في أجنتها…». وهي في التحليل الأخير – ودائما بحسب كلاوزفيتز – «صراع أفراد وأنانيات وإرادات». وهي لذلك، من وجهة نظره، «مسألة حتمية».

ولعله بإشارته إلى «الأنانيات والإرادات»، يقترب كثيراً من المفهوم السياسي الذي ينسبها إلى صراع الطبقات . بيد أن الطبيب النفسي النمساوي ، مؤسس مدرسة علم النفس الفردي، ألفريد إدلر (7 فبراير/شباط 1870-28 مايو/أيار 1937)، يخالف هذا الرأي. إذ يعتبر «أن الحرب ليست استمراراً للسياسة بوسائل أخرى وإنما هي جريمة شاملة تقترف بحق المجتمع البشري، وهي جريمة منظمة وتعذيب ضد الأخوة».. مستنداً في ذلك إلى مذهبه القائل إن قوة الدفع الشريرة في حياة الإنسان، تكمن في الشعور بالنقص الذي يكبر مع الطفل في ظل شعوره بتوفر الآخرين على قدرة أفضل منه للعناية بأنفسهم والتكيف مع بيئتهم، ما يؤدي لظهور اتجاهات عصابية أنانية لديه وإلى انسحاب من العالم الواقعي ومشاكله، والتعبير عن كل ذلك بإرادة غير عاقلة للقوة والسيطرة، المفضية حكماً إلى نوع من السلوك الضد-اجتماعي الذي يمتزج فيه الاستبداد مع التفاخر المفضيين إلى الطغيان السياسي.

بعض علماء النفس مثل إي. إف. إم. ديربان وجون باولبي يزعمون أن الكائنات البشرية هي بطبيعتها ميّالة للعنف، وأن هذه العدوانية يغذيها العزل والإسقاط، فتنتقل شكوى الشخص من التحيز إلى الكراهية الموجهة ضد الآخر من الأعراق والديانات والقوميات أو الأيديولوجيات الأخرى. وبموجب هذا التنظير فإن الدولة القومية تستطيع الحفاظ على النظام في المجتمع المحلي وخلق متنفس للاحتقانات الاجتماعية من خلال الحرب. ويأتي عالم النفس الهنغاري الأمريكي الجنسية فرانز ألكسندر (1891-1964) ليدعم هذا المذهب بقوله «إن السلام لا يوجد حقاً، وإن الفترات التي ينظر إليها على أنها سلمية هي في الواقع فترات التحضير للحرب في وقت لاحق، أو عندما تكون الحرب متوقفة بإرادة قوة عظمى، مثل باكس بريتانيكا (عبارة عن فترة من السلام النسبي سادت أوروبا في الفترة من 1815-1914، ظهرت خلالها هيمنة الإمبراطورية البريطانية على العالم، حيث لعبت بريطانيا دور الشرطي العالمي). لمَّا كان ذلك، وكانت الحرب فطرية في الطبيعة البشرية – كما تذهب هذه المزاعم – يصبح تجنبها حينئذ أملاً ضئيلاً جداً!

هذه النظريات التي تفسر أسباب اندلاع الحروب من منظور نفسي ، سرعان ما ستتهاوى لحظة إنزالها على الحقائق التاريخية القياسية. فلم يذكر التاريخ أن حرباً قامت بناءً على رغبة صادرة من عامة الناس، وإنما يذكر بصورة قاطعة بأن معظم الحروب، إن لم يكن كلها، قد أشعلها الحكام الذين يسوسون مواطنيهم والذين عادةً ما يجرونهم إليها من دون أن يكون لهم في كثير من الأحيان خيار لتفادي الانخراط فيها.
 
فالحرب تنشب إذاً بسبب الهوس بالسلطة من جانب مثل هؤلاء القادة الذين يقفزون إلى السلطة ، في أغلب الأحيان في أوقات الأزمات حين يختار أفراد الشعب الزعيم الحاسم الذي يقدم نفسه لهم على أنه منقذهم من الأزمة ، فإذا به يقود البلاد إلى الحرب بعد ذلك. وهنالك التفسير الديموغرافي لأسباب ودواعي اندلاع الحروب، الذي تمثله هنا تحديداً نظرية توماس مالتوس (1766-1834) السكانية التي يقول فيها إن الغذاء في العالم ينمو على شكل متوالية حسابية (2، 4، 6…)، بينما ينمو السكان على شكل متوالية هندسية (2، 4، 8، 16…). وإن الحل الوحيد لجسر هذه الفجوة المتعاظمة بين نمو الغذاء ونمو السكان، هو خوض الحروب للتخلص من فائض السكان، أو من خلال انتشار الأمراض والأوبئة والمجاعة.
 
بعيداً عن كل هذا التنظير والتفسير والتأويل للحروب وأسباب نشوبها ، فإن العالم ، رغم ادعائه القطع التام مع عصور الوحشية والجهل والتخلف الغابرة، وانتمائه لحضارة القرن الحادي والعشرين المعاصرة، فإنه ما زال يتصرف بوحي من بقايا غريزة البقاء الوحشية، وذلك بسباقه المحموم لمراكمة أكثر أسلحة الدمار الشامل فتكاً بالبشر والحجر، وتسجيل إنفاقه العسكري أرقاماً فلكية تعكس الاستعداد الدائم والمتوثب لشن الحرب في أية لحظة من لحظات الجنون الاستحواذي التوسعي.
 
 
حرر في : 04/09/2015
 

اقرأ المزيد

متى يظهر «حنظلة» وجهه؟


 
في المعجم، فإن مفردة حَنْظَلٌ تُطلق على نبات بري مِنْ فَصِيلَةِ القَرْعِيَّاتِ، لَوْنُهُ بَينَ الاخْضِرارِ وَالاِصْفِرَارِ، وبِدَاخِلِهِ حَبَّاتٌ مُرَّةٌ وَسامَّةٌ. وفي الأمثال الشعبية يقال: أمَرّ مِنَ الحَنْظَلِ، كناية عن شدة المرارة، وهذا ما حدا بالشهيد ناجي العلي، الذي مرت مؤخراً ذكرى اغتياله في لندن برصاصة غادرة، لأن يطلق الاسم على صورة الطفل الحاضر في كل رسوماته، حيث قال: «أسْمَيْتُهُ حَنْظَلَةَ كَرَمْزٍ لِلْمَرَارَةِ»، مضيفاً بأن: «حنظلة هو بمثابة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية». كان ناجي العلي محقاً حين قال: «حنظلة هذا المخلوق الذي ابتدعته لن يغيب من بعدي، وربما لا أبالغ إذا قلت إنني أستمر به بعد موتي». وقد تساءلتُ في مقال سابق نشر في هذه الزاوية، قبل سنوات: مَن مِنهما تَشَبهَ بالآخر: ناجي العلي بحنظلة، أم حنظلة بناجي العلي؟ أين الأصل هنا؟ وأين الصورة؟ تلك هي المعادلة التي لا يمكن فكها أبداً.
 
لقد تماهى أحدهما في الآخر بحيث لم يعد بوسعنا أن نتصور ناجي العلي من دون حنظلة، أو أن نتصور هذا الأخير في سياق آخر خارج سيرة ناجي الذي عبر الحدود من فلسطين إلى لبنان طفلاً إبان النكبة الأولى، ليكون شاهداً على ملحمة التيه الفلسطيني.

وإذ كبر ناجي ظلَّ الطفل يقظاً، في صورة حنظلة الذي لا يموت، بدليل أننا في كل مرة نشاهد رسوم ناجي تنتابنا دهشة الاكتشاف الأول.

في كل رسوم ناجي العلي يظهر حنظلة مستديراً إلى الخلف، عاقداً يديه وراء ظهره، وهو يتأمل ما يدور أمامه، وحين سئل ناجي: متى سيظهر حنظلة وجهه؟ أجاب بالتالي: «عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته»، وهذا يعني أنه ما زال أمام حنظلة الكثير كي يستدير نحونا بوجهه.

أتكون مجرد مصادفة أن من اكتشف موهبة ناجي العلي في الرسم هو مبدع مثله، سبقه إلى الشهادة؟، ونعني به غسان كنفاني الذي شاهد ثلاثة أعمال من رسوم ناجي في زيارة له إلى مخيم عين الحلوة فنشر له أولى رسوماته في أحد أعداد مجلة «الحرية» عام 1961، وكان الرسم عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تُلوح.

كان المخيم مصهر تجربته الإنسانية والإبداعية، لذا كانت رغبته، التي لم تتحقق، أن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده.
 
حرر في: 01/09/2015
 

اقرأ المزيد

الحداثة بين الصحوة والشيخوخة


من مفارقات الحراك الاجتماعي السياسي في العالم العربي في الزمن الراهن، أنه في الوقت الذي تتضاعف فيه الحاجة إلى الحداثة، فكرة وممارسة، أمام سطوة الاتجاهات المحافظة والتكفيرية، التي تدفع بالأوطان نحو منزلقات وفتن دامية، فإن القوى الحداثية المنظمة تظهر شيخوختها وعجزها عن النهوض بالمهام الصعبة الملقاة على عاتقها.
 
تكفي نظرة على قوائم الأحزاب والتنظيمات المدنية المؤمنة بفكرة الحداثة، لنجد أن متوسط أعمار لا قياداتها وحدها، وإنما منتسبيها أيضاً، يجنح نحو الكهولة، لا بل الشيخوخة، وهناك تعثر في استقطاب دماء شابة جديدة تعوِّض رحيل أو عجز القيادات المخضرمة، التي يختار بعضها العزوف عن العمل الميداني والتفرج عليه وتوجيه الانتقادات للمنخرطين فيه للتعويض السيكولوجي عن كسلها وتقاعسها.

ينطبق هذا أيضاً على مؤسسات المجتمع المدني، كالنقابات والاتحادات النسوية مثلاً، حيث نجد الناشطات في سبيل حقوق المرأة وتمكينها عبر أطر المنظمات النسوية هن أنفسهن منذ عقود، فلا هن عدن يتمتعن بالحماسة والقدرات التي كن عليها عندما كن شابات، ولا هن قادرات على إحلال قيادات شابة جديدة تمتلك مهارات الجيل الجديد في قيادة هذه الأطر، لما عرف عن عزوف الجيل الجديد من الشابات، شأنهن شأن الشباب الذكور، عن العمل فيها.

بالمقابل، نجد أن التحركات الجارية في بلدان عربية كالعراق ولبنان ضد فساد الطبقة السياسية المتنفذة والمطالبين بدولة مدنية عصرية، وإنهاء المحاصصات الطائفية وتحكم النخب المذهبية والدينية، حديثة النعمة أو قديمتها، في أمور البلاد والعباد، تقوم أساساً على طاقات الشباب من الجنسين الذين يملأون الساحات المركزية في غير عاصمة، مذكرين إيانا بما جرى في ميدان التحرير بالقاهرة، أو في ساحات تونس وغيرها إبان الانتفاضات الشعبية.

صحيح أن للقوى المدنية مشاركات لا تنكر في ذلك، لكن هذا لا يلغي حقيقة عفوية هذه التحركات، وحقيقة أن المشاركين فيها هم، في أغلبيتهم، غير منضوين في الأحزاب التقدمية أو هيئات المجتمع المدني، مع أن المطالب والشعارات التي يرفعونها تشكل صلب البرنامج الاجتماعي – السياسي لهذه الأحزاب والهيئات.

التجربة برهنت أن هبَّات الشباب العفوية غير المؤطرة، على ما فيها من حيوية وزخم واجتراح لمبادرات وأساليب عمل غير مسبوقة، تظل محكومة بعدم الخبرة وضعف الوعي السياسي، وبالتالي فإن هبَّاتهم هذه عرضة للقمع والاحتواء السريع من قبل الطبقات السياسية الممسكة بزمام الأمور، ما يضع قوى الحداثة المنظمة أمام مسؤوليات تاريخية كبرى.


حرر في: 31/08/2015
 

اقرأ المزيد

الدين العام والمعجزة الاقتصادية الصينية


فاجأني صديقي المحلل المالي الأسترالي بالقول: «لقد انتهت الصين»، فرددت عليه مستغرباً: كيف وهي التي تملك أكبر رصيد من الاحتياطي النقدي (بالعملة الصعبة)؟ فرد علي قائلاً: إن هذه الاحتياطيات يقابلها دين عام بنفس الحجم، طبعاً الصديق الأسترالي، كان يتحدث من واقع تأثر اقتصاد بلاده وعملتها الوطنية (الدولار الأسترالي) بشكل سريع بالانهيار الكبير والمفاجئ في أسعار أسهم البورصات الصينية، والذي بلغت نسبته نحو 30% في الأسابيع القليلة الماضية.
 
فهل فعلاً يأفل نجم الصين وعظمتها الاقتصادية التي أبهرت العالم بسرعة تعملقها واحتلالها للمرتبة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة، بقياس قيمة إجمالي الناتج المحلي؟ وهل يمكن أن يكون الدين العام الصيني سبباً في تعطل الماكينة الاقتصادية الصينية، وتراجع قدرتها على توليد وتائر النمو العالية التي عُرفت بها؟
 
سؤال كبير ويثير الرعب، الذي لا يقل عن رعب علائم نشوب الحرب، في أوصال أسواق واقتصادات العالم قاطبة، لأنه يتعلق بثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي من حيث إجمالي الناتج المحلي (10.4 تريليون دولار بنهاية 2014 بحسب صندوق النقد الدولي، بما يشكل 16.7% من الاقتصاد العالمي)، وأكبر اقتصاد إنتاجي في العالم، وأكبر دولة مصدرة للسلع والبضائع، وثاني أكبر دولة مستوردة للسلع والبضائع في العالم، وأسرع سوق استهلاكي نمواً، فضلاً عن الروابط والتشبيكات المعقدة التي نسجها مختلف قطاعات المال والأعمال الصينية مع نظرائها في مختلف أرجاء العالم.

على أية حال لو وضعنا هذا التساؤل في خانة المسار الثاني لعوامل حركة السوق والأموال الدوارة فيها، ونقصد به المسار غير الاقتصادي أو الفني الموازي للمسار الأول والأساسي المتعلق بالأساسيات الاقتصادية، فإننا بالتأكيد سنجد ما يثير القلق، ما إن نبدأ بتتبع ومطالعة ما تقذف به من معلومات وتحليلات الآلة الإعلامية الاقتصادية الضخمة في أوروبا والولايات المتحدة، والتي تعتبر أحد مصادر صناعة القرار المالي والاقتصادي الدولي، أما إذا وضعناه في مساره الأول والطبيعي، فسنجد ما يلي:
لقد وصلت نسبة إجمالي الدين الصيني (Total debt) الذي اختارته مجلة «الإيكونومست» قصداً، كمؤشر، لتهويل المشكلة الاقتصادية في الصين، إلى 250% من إجمالي الناتج المحلي، لكن هذا المؤشر يضم الديون الحكومية (أي الديون الحكومية الداخلية والخارجية المسؤولة عن سدادها الحكومة)، وديون الشركات والديون العائلية، هذا المؤشر إذا ما أخذناه، كما هو، في حالة الولايات المتحدة مثلاً، سنجد أن إجمالي ديونها (حاصل جمع مديونية الحكومة ومديونية الشركات ومديونية العائلات) يصل إلى 331.7% من إجمالي ناتجها المحلي، ومع ذلك فإن هذا لم يؤدِ إلى انفجار الاقتصاد الأمريكي من الداخل، على الأقل حتى الآن (أخذاً بعين الاعتبار أن هناك من مازال يعتقد أن ذلك سيحصل، وأن حدوثه مسألة وقت وحسب)، ومع ذلك ففي الواقع أن الدين العام (Public debt) الأمريكي، أي الديون الفيدرالية الحكومية الداخلية والخارجية، تبلغ نسبتها حالياً حوالي 104% من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، وفي الصين فإن هذا المؤشر (نسبة الدين العام إلى الإجمالي) لا تتجاوز نسبته 64% بحسب معهد ماكنزي العالميMcKinsey Global) Institute).
 
جدير بالذكر أن نسبة المديونية الحكومية إلى إجمالي الناتج المحلي، هو مؤشر عادة ما يستخدمه المستثمرون لقياس مدى قدرة الدولة على سداد ديونها في المستقبل، ولهذا المؤشر تأثيره بطبيعة الحال على تكلفة استدانة الدولة ومعدل العائد على سنداتها التي تصدرها وتطرحها للاكتتاب العام، لاسيما طرحها في أسواق المال العالمية.
 
تحتفظ الصين باحتياطيات نقدية بالعملة الأجنبية بلغت في يوليو الماضي 3.651 تريليون دولار انخفاضاً من 3.993 تريليون دولار في شهر يونيو من العام الماضي (بنك الشعب الصيني البنك المركزي)، إلّا أن هذا الاحتياطي يضعها على رأس قائمة الدول في العالم من حيث هذه الاحتياطيات تليها اليابان باحتياطيات بلغت في شهر يونيو/‏حزيران الماضي 1.242 تريليون دولار (صندوق النقد الدولي)، أيضاً فإن الصين أضافت في شهر يوليو/‏تموز الماضي 19 طناً من الذهب بما قيمته 700 مليون دولار (بسعر الأونصة في نهاية شهر يوليو الماضي البالغ 1658 دولاراً)، إلى احتياطياتها من الذهب لتبلغ 1677.30 طن، وهي تحتل المرتبة السادسة في العالم في الاحتياطيات الذهبية بعد كل من الولايات المتحدة وألمانيا وصندوق النقد الدولي وإيطاليا وفرنسا. علماً بأن الصين هي أكبر منتج للذهب في العالم.
 
أيضاً، علينا أن نتذكر، أنه في حين كان الزعماء الصينيون السابقون يعملون على تحفيز النمو كلما شعروا بحدوث تباطؤ في نمو الاقتصاد، فإن الرئيس الحالي خي جيبنغ، قد اختط في عام 2013 ما أسماه ب «سياسة الاعتيادي الجديد» (New normal)، والتي يتم بموجبها التركيز بصورة أقل على النمو الاقتصادي وبصورة أسرع على «الإصلاح الهيكلي» (Structural reform). وهنا فقد كان لتغيير بعض الضوابط المالية (Fiscal rules) دور في تصعيب الإنفاق من جانب الحكومات المحلية، ولعل انخفاض معدل التضخم إلى أدنى مستوى له منذ خمس سنوات (1.1%) وتراجع مؤشر أسعار المنتجين، يفصحان عن أن الحكومة الصينية هي نفسها التي عملت حتى وقت قريب على كبح النمو.

والحال أن شريحة كبيرة من الدين العام الصيني سببها مسارعة الحكومة الصينية اعتباراً من عام 2009 لسد الثغرات التي خلفتها الأزمة المالية التي حدثت في الولايات المتحدة، وانتقلت إلى أوروبا، على الاقتصاد الصيني.

لكن في نهاية المطاف فإن أضرار العوامل غير الاقتصادية (النفسية وغيرها) قد لا تتمكن الأساسيات الاقتصادية من احتوائها في مهدها، فتكون سبباً في تداعي واجتياح آثارها حتى المواقع الحصينة في الاقتصاد الصيني، لاسيما في ظل الأوضاع المضطربة التي يمر بها الاقتصاد العالمي.
 


حرر في 30 أغسطس 2015

اقرأ المزيد

المبادئ العامة للعمل النقابي – الحلقة 2

إكمالاً للمقالة السابقة حول مبادئ العمل النقابي:



رابعاً: مبدأ القيادة الجماعية:-
من المبدأ الأساسي أن تتخذ القرارات في النقابة بناءً على قرار رأي الأكثرية ولكي يكون القرار النقابي صلباً بعيداً عن الأنانية الفردية وبعيداً عن أي توجه خارج الإطار النقابي وخاصة عندما تكون النقابة في محك ومواجهة مع إدارة الشركة أو المؤسسة وبالتالي مسؤولية الجميع في المواجهة والتحمل لجميع العقبات والنتائج.
 


خامساً: مبدأ العمل الجماعي أو الشورى:-
القرارات الفردية دائماً تأتي ناقصة، وربما تقود إلى أخطاء جسيمة تدفع فيها النقابة ثمناً باهضاً لذلك القرار الجماعي من قبل إدارة النقابة وقاعدتها أيضاً يأتي قراراً متكاملاً وحتى لو كانت فيه بعض الشوائب، تتحمل فيه الإدارة كامل المسؤولية حول ذلك.
أما القرارات التي تصدر بشكل فردي ممثلاً برئيس نقابتها ضارباً بعرض الحائط كل الأعضاء في مجلس الإدارة فهو قرار فردي مبني على ديكتاتورية الفرد الواحد والقرار الواحد.
وهنا يتحمل المسؤولية كاملة وليست إدارة النقابة وإذا جسدنا هذا العامل ضمن تجاربنا النقابية والعمالية فعلى سبيل المثال عندما انسحب العاملون في نقابة ألبا من اللجنة العمالية بالمنبر التقدمي هل كان انسحابهم قراراً صائباً، هل كان القرار الجماعي بقناعة تامة، هل كان الانسحاب بمحض إرادة أعضاء اللجنة أم كان الموقف عاطفياً مع رئيس نقابتهم الذي اتخذ هذا الموقف مسبقاً لأسباب معروفة لدى الجميع.
ونتيجة القرارات الفردية البعيدة عن مصلحة الطبقة العاملة ماذا انتجت؟.
لقد أنتجت مزيداً من الانقسام في صفوف الطبقة العاملة البحرينية، وتحولت النقابة إلى نقابتين في الموقع الواحد، وتحول الاتحاد إلى اتحادين بالرغم من قناعتي كنقابي وككاتب بالتعددية النقابية كمبدأ دولي تقره القوانين الدولية ومنظمات حقوق الانسان وكان فرضه دولياً لمراعاة حقوق الجاليات الأجنبية التي لا يوجد لها تمثيل ضمن الهياكل النقابية في دول الخليج  ، ولكن لكل  قاعدة استثناء … قلنا أيضاً إذا  التعددية تم توجيهها  بهدف سلبي على وحدة الطبقة العاملة فنحن ضدها وإذا كانت أيضاً  ذات نزعة طائفية فلسنا معها فموقفنا واضح وهو ضد التعددية التي تقصم ظهر البعير  … فهذه هي فلسفة العمل النقابي…
ففائدة الإستعانة بذوي الخبرة مسألة ضرورية لمجلس إدارة النقابة التي تفتقر لذوي الخبرة من الشخصيات النقابية القديمة أمام المنعطفات التاريخية في المواجهات  وأعطي مثالا حول ذلك ففي أحداث فبراير 2011 قرر البعض من النقابيين في نقابة الـتأمين في الشركة المتحدة للتأمين  المتأثرين بالوضع السياسي في البلد وتعاطفهم مع الشارع بشكل قوي حيث أرسلوا رسائل نصية بزج العاملين في جسر المك فهد بالإضراب، وهنا فمن حنكتنا في مجلس إدارة النقابة وعلمنا التام بحيوية حركة الجسر من الناحية الإقتصادية فقررنا بشكل جماعي بعدم الإضراب، وبهذا كان قرارنا صائباً ولولا الخبرة التي نمتلكها لكانت كارثة على النقابة ومجلس إدارتها بينما شمل الإضراب في المكاتب الأمامية لكل شركات التأمين.


سادساً: مبدأ المسؤولية الفردية :-
أحياناً تتخذ إدارة النقابة قراراً بالإضراب في موقع معين أو العكس وحينها تكتشف إدارة النقابة بأن أحد قواعدها يحرض ضد قرار النقابة ولا يلتزم به فمن حق إدارة النقابة أن تتخذ قراراً بفصله من النقابة أو تتخذ أية عقوبة أخرى ضده بناء على مسؤوليته الفردية المنافية لقواعد ونظام النقابة.
 


سابعاً: مبدأ المراقبة والمحاسبة :-
من الضروري جداً أن يحاسب مجلس إدارة النقابة أعضاء المجلس أولاً وأعضاء النقابة ثانياً حول الالتزام في الاجتماعات و متابعة المهام الملقاة على أي عضو في النقابة والحرص من الجميع بالتقيد بالنظام الأساسي للنقابة ولوائحها الداخلية فغياب الرقابة داخل المنظمة النقابية تفقد النقابة مصداقيتها لدي القاعدة من النقابيين ومن حق إدارة النقابة محاسبة أي عضو خرق النظام الأساسي للنقابة بالعقوبة التي تراها إدارة النقابة مناسبة له وأحيانا تصل العقوبة إلى درجة الفصل من النقابة  في ما يتعلق بالفساد وخيانة الأمانة ومن حقه قانونياً الطعن لدي المحاكم المختصة باسترجاع عضويته إذا ثبتت براءته.


ثامنا: مبدأ النقد والنقد الذاتي :-
النقد والنقد الذاتي كما يقال هو خبزنا اليومي وبدونه لا يمكن للتنظيم النقابي بالاستمرار، المراجعة النقدية   تنطبق على الجميع بدون إستثناء سواء عضو نقابة أو عضو مجلس إدارة نقابة أو عضو قيادي في الإتحاد العام وهذا يتطلب الشجاعة الكاملة بالجلوس أمام القاعدة والصراحة أمامهم تجاه الخطأ الذي تم ارتكابه والعمل على تصحيح مساره وعدم تكراره مستقبلاً وللتعليق حول هذه النقطة نأخذ موقف الاتحاد العام لنقابات وعمال البحربن عندما أتخذ قراراً بالإضراب العام على مستوى البلد أثناء أحداث فبراير  2011 إبَّان الربيع العربي , ربما القرار في نظر البعض كان صائباً من منطلق عاطفي ويراه آخرون بأنه خاطئاً من الناحية العقلانية والقانونية فأنا لا أريد أن أخطئَ جهة على حساب جهة أخرى ولكن من الواضح غياب المصارحة والجلوس مع الذات كانت حلقة مفقودة تمنينا أن تكون هناك دعوة حول هذا الموضوع ومن يقول أن هناك تمت دعوة فأنا كاتب المقال كنت حينها رئيس نقابة التأمين وممثلاً في المجلس المركزي لم أتلقَ أية دعوة بهذا الخصوص وطالبنا حول ذلك ولكن لا توجد آذان صاغية .
فالمراجعة النقدية لا تعني أن موقفك خاطئاً ولا تعني أيضاً أن موقفك صائباً ….
فالجلسة النقدية هي ضرورية في كلا الحالتين لتكون مرجعية تاريخية للطبقة العاملة من حقها أن تتطلع عليه.
 


تاسعاً: مبدأ تقبل الرأي المعارض:-
أولاً التوجه السياسي ليس مرفوضاً لأي عضو في النقابة أو الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين , ومن حق أي عضو أن يكون له توجها سياسياً فلا يوجد نص قانوني يحجر على عضو النقابة أو الاتحاد بعدم انتمائه السياسي لأي تنظيم , ولكن خلافنا من هذه الزاوية ألا يعكس وجهة نظر التنظيم السياسي في الشأن العام النقابي وأن لا يخضع إدارة النقابة أو إدارة الإتحاد تحت تصرف تنظيم سياسي بشكل مباشر أو غير مباشر , يأتمر بأوامرهم ويلتزم بقراراتهم على حساب مبدأ التنظيم النقابي , فهنا المعارضة للرأي الآخر تكون في موقعها أما اتخاذ موقف مضاد  ضد أي عضو نقابي بمجرد أن يختلف معي فكرياً, فهذا يتنافى مع المبادئ النقابية فعلينا أن نحترم الرأي والرأي الآخر.
 


عاشراً: مبدأ موضوعية الاختيار:-
الموضوعية هي من الضرورة أن تصب في المصلحة العامة لأعضاء النقابة، فلا يمكن تحديد مشروعٍ يهدف إلى ذاتية يستفيد منها فرد أو مجموعة محددة على حساب المصلحة العامة , فيجب الاختيار الذي يأتي موضوعياً ومدروساً يساهم الجميع قي وضع أساسياته ويخدم الجميع بشكل خاص والطبقة العاملة بشكل عام.
 
 
الكاتب:علي الحداد
من مجلة “التقدمي” العدد 93
يوليو 2015


 


لقراءة الحلقة الأولى من موضوع
  المبادئ العامة للعمل النقابي – الحلقة (1)
إضغط على الرابط:  

http://www.altaqadomi.com/ar-BH/ViewArticle/6/5340/Articles.aspx

اقرأ المزيد

لغات جلال الدين الرومي


استوقفتني وأنا أقرأ مؤلف إحسان الملائكة عن جلال الدين الرومي صفحتين أو ثلاث تتحدث عن علاقة التفاعل بين اللغات التي تَشكل وعي الرومي على تخومها، في إطار حديث عن مصادر تكوين شخصيته ومعرفته.
 
وسأشرح ذلك بإيجاز، فجلال الدين الرومي يتحدر من جذور تركية، ولكنه وضع كتبه بالفارسية، بحكم نشأته في خراسان، ونفهم أنه لم يكن يجهل التركية، لكن هذه اللغة لم تكن بلغت الشأن الذي صارت عليه فيما بعد، حيث إن اللغة كائن حي ، تتطور مع تطور حضارة الناطقين بها.

في الأصل كانت التركية لغة محدودة محصورة في القبائل المنعزلة في وسط آسيا، قبل أن تغتني مع توسع نفوذ السلاجقة بالكثير من قواعد ومفردات اللغة الفارسية، وإذا أخذنا بالاعتبار أن الفارسية ذاتها تأثرت كثيراً باللغة العربية، فإن الكثير من مفردات هذه الأخيرة وجدت مكانها في المعجم التركي، بالنتيجة.

لكن الرومي كان يتقن أيضاً اللغة العربية بدليل أنه كان يطرز آثاره بها، حسب تعبير الملائكة، فقد درسها على يد كبار أدبائها وعلمائها، سواء في مسقط رأسه أو في الشام التي أتاها فيما بعد.

المدهش ليس هذا، فقد كان الناطقون بهذه اللغات الثلاث متجاورين، ويبدو مفهوماً أن يتمكن رجل بموهبة الرومي منها جميعاً.

المدهش هو معرفته باللغة الإغريقية، ففي الأصل كان يحسن التكلم باللهجة الدارجة منها عن طريق علاقاته بنصارى الروم المقيمين في آسيا الصغرى منذ العصر البيزنطي، وفيما بعد تعلم القواعد الكلاسيكية للإغريقية لتغدو المؤلفات المكتوبة بها أحد مصادر معرفته، ويقال إنه كان لهذه المعرفة أثر في تعلق بعض الرهبان بفكره ومنهجه الصوفي.
هذه السيرة درس في تفاعل الثقافات والحضارات، فهي تنبهنا إلى كيف اغتنت الحضارة العربية الإسلامية بمنجزات اللغات والثقافات الأخرى التي بلغ الإسلام ديارها، وإلى الأثر العميق الذي تركته حضارتنا في الحضارات الأخرى، وحسبنا هنا ما أشرنا إليه عن تأثير اللغة العربية في اللغتين الفارسية والتركية.

هذا ليس درساً في التاريخ، وإنما هو درس للحاضر أيضاً، لا للعرب والمسلمين وحدهم، وإنما لكل الثقافات والحضارات الأخرى، فما من ثقافة تتطور بشكل منفصل عن الآخرين، وإنما بالأخذ والعطاء في علاقتها بسواها من الثقافات والحضارات، خاصة في عالم اليوم الذي ييسر الاتصال والتفاعل بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية.
 
حرر في: 30/08/2015

اقرأ المزيد

إهانة الذاكرة الوطنية الفلسطينية


يستوقفنا خبر قيام حركة «حماس» الممسكة بزمام الأمور في قطاع غزة بتغيير اسم «مدرسة الشهيد غسان كنفاني» في رفح إلى اسم آخر. هل يتخيل أحدنا أن هناك من يجرؤ على إهانة الذاكرة النضالية والإبداعية، لا للشعب الفلسطيني وحده، وإنما لمجمل حركة التحرر الوطني العربية، والحركة الإبداعية العربية بهذه الطريقة الفجة، حين تنال من ذكرى مناضل ومبدع بهذا الحجم؟
 
للأسف هناك من يجرؤ. وثمة واحد من دافعين ، حدا بمن قام بهذه الخطوة لأن يفعلها، فإما أن يكون جاهلاً بالقيمة الرمزية العظيمة التي يمثلها غسان كنفاني، وهذه مصيبة، لكن المصيبة الأكبر هي أن يكون الدافع خطوة مدروسة ومقصودة لمسح الذاكرة الوطنية الفلسطينية التي تشعر حركة «حماس» إزاءها بنوع من الغربة، لأنها تمثل قيماً ثقافية وحضارية عميقة لم تظهر قوى «الإسلام السياسي» حتى اللحظة تمثلها لها.

يلفت النظر أن الحركة التي غيرت اسم المدرسة استبدلته باسم الباخرة التركية «مرمرة» التي حملت عدداً من النشطاء حاولوا فك الحصار على غزة منذ سنوات، ولاحظ محمد مكاوي،عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الميل لاستبدال تسميات المؤسسات التعليمية وفق صبغة حزبية واحدة أو أيديولوجية دينية معينة.

تستحق ذكرى الشهداء من ركاب الباخرة «مرمرة» الذين سقطوا بنيران العدو الصهيوني التكريم، ولكن ألم تجد “حماس” إلا الشهيد غسان كنفاني لتزيل اسمه عن المدرسة التي تحمله منذ أكثر من عشر سنوات، فيما كان بالوسع أن يطلق اسم الباخرة على أي مدرسة جديدة أو أي مرفق آخر؟

ليست المرة الأولى التي تظهر فيها «حماس» ازدراءها للإبداع الفلسطيني ورموزه، فقد ظهر ذلك في الطريقة التي تعاملت بها مع رحيل الشاعر الكبير محمود درويش حين أفتوا بأنه لا يجوز الترحم عليه، ولا الدعاء له بالجنة، بل إنهم عمدوا إلى تشويه سيرته والإساءة إلى مواقفه، ولا يبدو هذا غريباً على «التيارات الإسلامية» الموغلة في المحافظة، والعاجزة عن إنتاج وعي إنساني وثقافي حقيقي.
 
تظهر التجربة أن علاقة أي قوة سياسية أو مجتمعية بالثقافة والفن والإبداع هي المجس الحقيقي لمدى تعبير هذه القوة عن الوجدان الحقيقي للشعب، كون تلك الفضاءات هي المجسدة لأرهف وأجمل ما لدى الشعوب من آمال وتوق لمستقبل سعيد بآفاق إنسانية وحضارية، وهي التجربة التي تسقط فيها قوى «الإسلام السياسي» المرة تلو الأخرى. 



 
حرر في: 27/08/2015
 

اقرأ المزيد

نحنُ الرقيب


الرقيب هو نحن، حتى وإن كان الرقيب في الأصل خارج ذواتنا إلا أنه مع الوقت احتلنا، سكننا، حتى بتنا هو وبات هو نحن. منذ أصغر وأبسط تفصيل في حياتنا اليومية، منذ أن نصحو حتى ننام، وربما حتى حين ننام يحضر الرقيب الذي وإن كان في جزءٍ منه صُنعة ما هو خارجنا، فإنه في جزء آخر، لا يقل أهمية عن صُنعتنا نحن أيضاً.
 
نكرر القول: لسنا من افتعل الرقيب ومن أوجده، لكننا شركاء في صنعه، والتماهي معه حتى وإن كنا ضحاياه، أسمعتم كيف تتماهى الضحية مع جلادها؟ تلك هي حالنا مع الرقيب.

قد يغفو الرقيب الخارجي، قد تأخذه سِنة من نوم، لكن قرينه في داخلنا لا ينام، يقظ وحاضر ونشط.

لا أعرف كيف تميز معاجم اللغة بين المراقب والرقيب، لعلهما يعطيان في اللغة الدلالة ذاتها، ولكني لأمر ما أظن أن المراقب هو الشخص المتأمل، الذي يراقب الظواهر والناس والحياة من حوله في رغبة منه، عميقة، للمعرفة، وللاكتشاف وللمقارنة ولاكتساب الخبرة.
 
أما الرقيب فإنه يحمل في اسمه دلالة سلبية، فهو الذي يضعك تحت المجهر لا رغبة في التعرف الى ذاتك، في الاقتراب المرهف من أحاسيسك ومشاعرك والبواعث العميقة لسلوكك كما حال المراقب، وإنما لإرباكك، لعد أنفاسك وحصر خطواتك، فما إن يسكنك الشعور ذاك حتى لا تبارح مطرحك وتقص جناحيك كي لا تراودك نفسك في التحليق.

الرقيب هو أنت أيضاً، هو نصفك الآخر، فما إن يداهمك الشعور بأنك مكشوف عليه، حتى تتيقن من أن مساحة حريتك، عفويتك، انطلاقك تبقى مشدودة لأغلال ثقيلة، تنوء بحملها.
 
كي نبحر بعيداً، كي نكتشف مرافئ وعوالم جديدة، علينا أولاً أن نحاصر رقيبنا الداخلي، الذي صنعناه بأنفسنا تماهياً مع الرقيب الخارجي، فالحرية تبدأ من دواخلنا، من حريتنا كذوات، من رغبتنا في المغامرة والاكتشاف وولوج المجهول وتحدي السائد. الرقيب الداخلي هو قيدنا الأقوى، هو أسرنا الذي اخترناه بإرادتنا، ولكي نحرر هذه الإرادة، علينا فك هذا الأسر، تحرير المعاصم من آلام قيوده والذهاب بعيداً إلى المتاهات المفضية إلى الفضاء الحر، إلى حيث النفس في فطرتها، في البراءة التي جبلت عليها، إلى الحرية التي ولدتنا أمهاتنا عليها قبل أن يستعبدنا الرقباء الذين صنعوا أنفسهم أو الرقباء الذين صنعناهم نحن أنفسنا وجعلنا من دواخلنا سكنى لهم.
 


حرر في: 26/08/2015

اقرأ المزيد