المنشور

سيرة البيوت


في كتابه: «رأيت رام الله» أحصى مريد البرغوثي عدد البيوت التي عاش فيها، فبلغ رقماً كبيراً تجاوز العشرين.
في الأمر ما هو فلسطيني جداً، فرحلة الشتات الطويلة جعلت الفلسطيني يتنقل بين بلد وآخر ومدينة وأخرى ومنفى وآخر، وبالنتيجة بين بيت وآخر.

لكن في الأمر ما هو عام أيضاً يخص الناس جميعاً أو يخص الكثير من الناس، حين يجد المرء نفسه يتنقل عبر حياته في أكثر من بيت.

ولو أن الناس جلست لتروي سيرة هذه البيوت لكانت قد أحاطت بتفاصيل كثيرة، عديدة، حميمة في حياتها، تؤرخ لأدق الأمور وأكثرها قرباً للنفس.

أمر كهذا فعله هرمان هيسه وهو يكتب بعض سيرته الذاتية في «أيام من حياتي»، لكن ما كتبه هيسه ليس أكثر من «سكتش» أولي لرواية أو ربما لروايات، فالانتقال إلى منزل جديد لا يعني فقط بدء شيء جديد، كما يذهب هو إلى ذلك محقاً، وإنما ترك شيء قديم.

بل لعل ما يفعله الواحد منا إذ ينتقل إلى بيت جديد ليس تغنياً أو مديحاً له، وإنما استحضار للبيوت القديمة، أو للبيت الأخير الذي انتقل منه: «كيف للإنسان أن ينشئ الكلمات ويغني الأغنيات لخطوة لما تبدأ بعد، وكيف للإنسان أن يحتفي بالنهار قبل أن يحل المساء؟». الحق أن جل ما نفعله لحظة الانتقال للبيت الجديد هو التمنيات بأن يكون «بيتاً عامراً»، أو بتعبير هيسه: «غنعاش الآمال في القلوب»، وحث الأصدقاء على أن يتمنوا من قلوبهم حياة سعيدة للمنزل وأهله.

قال هيسه أيضا إنه يحتاج إلى سنة ويوم على الأقل للحديث عن المنزل، وعلاقته به ومشاعره نحوه، وإن بدا تعبيره هذا أقرب إلى الطرفة، لكنه يلامس فكرة جوهرية هي أننا لا نستطيع أن نصف الشيء في لحظته، وإنما بعد أن تفصلنا عنه مسافة كافية، سنة ويوم على الأقل بتعبير صاحبنا، لأننا لحظة الحدث نكتفي بأن نعيشه، وربما يكون الحدث نفسه مربكاً لنا فلا يعود بوسعنا الكلام بعده، إلا بعد حين.

حياة الواحد منا توزعت وتتوزع على بيوت عدة، ربما كان حرياً بنا أن ننطلق ونحن نستعيد كيف مرت هذه الحياة، من رواية سيرة هذه البيوت، وسيرة ما أحاط بها من أحداث، كوننا نحن كذوات، نتاج هذه البيوت التي تركت بصماتها في شخصياتنا، ربما من دون أن نحس بذلك، وغالباً من دون أن نعيه.
 
حرر في: 01/10/2015

اقرأ المزيد

هل يمكن القبول بتبييض الفساد من أجل إنقاذ الاقتصاد..!!


هذا سؤال مهم بات مطروحاً هذه اﻻيام وبشكل سافر، وتحديداً في كل من تونس أولاً، ومصر ثانياً، وهما البلدان اللذان زرتهما على التوالي مؤخراً، ووجدت في الأولى نقاشاً وتحليلات واعتراضات وحركات لمؤسسات مجتمع مدني وقوى وطنية واحزاب ونقابات مهنية حول مابات يعرف بقانون المصالحة الاقتصادية، ومن بينها حركة «مانيش مسامح» في دلالة على رفض المشروع المطروح من مؤسسة الرئاسة الذي يقضي بالتخلي عن الملاحقة القضائية لرجال الاعمال وكبار المسؤولين المتورطين فى جرائم فساد مقابل تخليهم عن جزء من أموالهم للدولة.

رقعة الرفض الشعبي لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذى طرحته الرئاسة التونسية والمقرر عرضه على مجلس النواب للمصادقة عليه كان واضحا انها واسعة، لم يكن هذا الصدى مفاجئاً، فردود أفعال تلك الأطراف لا تدع مجالاً للشك على وجود قناعة بان المشروع محاولة مشبوهة لمجازاة حفنة من الفاسدين على سرقتهم لأموال الشعب، ومنحهم صكوك الغفران، وهناك من عده محاولة يائسة لتبييض سرقات لا تغتفر، محاولة تطرح في موضع غير موضع وفي توقيت غير قابل للهضم..!!، وبدا لافتاً وغريباً في آن انه لم يظهر من يشرح ويقنع الناس بالمشروع وينظر له ويسوقه لدى الرأي العام، بل ظهرت قيادات كبيرة في عدة احزاب وهي تتبرأ بأدنى صلة بهذا المشروع، وترى بان على الرئيس الذي يقف وراء المشروع ان ينجحه بدعم القوى المساندة له، وكأن لسان حالها يقول: «اذهب انت وقانونك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون»، وهناك من ابدى خشية من ان يكون قانون الطوارئ المفروض حالياً الملجأ الأخير لتمرير مشروع القانون بذريعة انه يسعى الى إنعاش الاقتصاد وتنمية مناطق البلاد..!!، ولا احد يعلم حتى الآن على الأقل كيف سيطوى هذا الملف !! 

ذلك يحدث فى تونس اما في مصر فثمة جدل أثير حول تعديلات لقانون الاجراءات الجنائية سمحت للدولة بالتصالح في الجرائم المتعلقة بالمال العام من قبل رجال الاعمال او ممن ليست لهم صفة وظيفية بالدولة، ولا ينطبق عليهم صفة «الموظفين العموم»، إذ ان كل موظف عمومي طلب لنفسه او لغيره عطية او هدية لأداء عمل من الاعمال المكلف بها او للامتنإع عنها يصبح مرتشياً ولا تصالح في هذه الجرائم، كما انها لا تسقط باستقالة الموظف العام او تركه الخدمة، ولكن هذا الجدل طغى عليه ملف ظل مسكوتاً عنه لسنوات وسنوات، هو الملف المتضخم للفساد، وجاء إلقاء القبض على وزير الزراعة وفى قلب ميدان التحرير لاتهامه بالضلوع فى الفساد بوزارته، ليظهر ما وصفه البعض بانه اول طلقة حرب حقيقية تخوضها الدولة ضد الفساد، وظهرت عناوين بعض الصحف مبشرة بان «حرب الرئاسة بدأت باصطياد الكبار»، الوزير المقبوض عليه حصل على هدايا وعقارات مقابل اجراءات تمليك مئات الأفدنة بالمخالفة للقانون فيما عرف إعلامياً بقضية الفساد الكبرى، وفى هذه القضية كرت سبحة الاشتباه وطالت وزراء ومسؤولين آخرين، وكان لافتاً ذلك التزامن بين هذه القضية مع القبض على برلماني سابق رئيس جمعية مكافحة الفساد متورطاً في رشوة واستغلال نفوذ، بل الأمر ذهب الى ابعد من ذلك حين أدرج اسمه في قوائم أبرز المتورطين في قضايا فساد..!! 

واذا كان من غير الواضح الى اين ستنتهي هذه القضية او تلك، الا انه يمكن القول ان من اعاجيب القضية الأولى المثيرة لكثير من علامات التعجب والاستفهام هو ان جزءا من الرشوة موضوع القضية كانت بمثابة تمويل ضخم وكبير للحج، حج لأفراد اسر المتهمين بتلقي الرشوة، وهو الأمر الذي فتح الباب لتساؤلات عن التدين حين يصبح فارغاً عن جوهره ومحتواه، وكيفية تقبل ان يكون الحج بأموال رشوة او كيف سيكون الحج مقبولاً وهو ممول بالرشوة..!!

نعود الى السؤال: هل يمكن القبول بتبييض الفساد من اجل إنقاذ الاقتصاد..؟!، استطيع رداً على هذا السؤال ان اجتهد وأقول بان من يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات وهى طائرة يمكن ان يخلص الى إجابة بان الناس في اي مجتمع والذين يعيشون وهم مكرهين على أوجه فساد تعطل التقدم والتنمية والاستثمار، لا يمكن ان يتقبلوا او يقبلوا فساداً من اي نوع وبأي مستوى يجثم على صدورهم وأنفاسهم، او يمرر الفساد تحت اي تسوية او ذريعة وكأن شيئاً لم يكن، ولا يمكن ان يتقبل الناس من عاثوا فساداً وهم يتحولون فجأة وغصباً عنهم من «علية القوم» ومواطنين صالحين، يكفي متابعة الرفض الشعبي لمحاولة تبييض الفساد فى تونس ومصر، وهو موقف تابعناه قبل ذلك في العراق ولبنان، وهو حتماً لن يختلف عن باقي دول المنطقة العربية التي هي اليوم بحاجة ملحة الى حملة عاصفة على الفساد. 

الفساد آفة ينخر المجتمعات، وحماية اي مجتمع من الفساد لا تضمنه غير الارادة وتجاوز الالاعيب والارتجالات العابرة، والشعارات الكاذبة، والخطب الرنانة، وكل مايؤدي الى غفوة تنافس غفوة اهل الكهف، تضمنه ايضاً الشفافية والمحاسبة والديمقراطية التي تتجلى في الرقابة الشعبية وممارسة حق المساءلة وحرية النقد والتعبير، وعدم جعل اي كان مهما كان مقامه ومنصبه فوق القانون او المساءلة.. لابد ان يدفع ثمناً فادحاً كل من سرق او اختلس او فسد او أفسد، او طوع نفوذه لخدمة مصالح خاصة.. من دون ان ننسى دور سيطرة الادارة الرخوة، وسوء اختيار القيادات، وتركز السلطات والصلاحيات في يد أشخاص غير مؤهلين، وضعف الجزاء القانوني، وغل يد سلطة القانون بما يحقق الردع العام، ذلك يوسع قاعدة وعملاء الفساد، ويجعل نمو الفساد يصبح امراً طبيعياً وانتشاره يصبح بلا عائق، هل نسينا ان ثورات الشعوب قامت اصلاً لتخليص البلدان من الفساد والفاسدين.
 
 
حرر في: 22  سبتمبر 2015

اقرأ المزيد

نحن والمستقبل


لا فكاك للأمم، ونحن من بينها، من بحث المستقبل، أكان المقصود به مستقبل السنوات القليلة المقبلة، أو مستقبلنا بعد عقد أو عقدين أو أكثر، أو بعد نصف قرن مثلاً أو قرن بكامله، لأن المستقبل، حتى ذاك الذي يبدو بعيداً اليوم، سيغدو في ومضة عين حقيقةً، علينا أن نعيشها بكل دقائقها، خاصة أن العالم الآن مشغول بما يدعى المستقبليات، لترجيح السيناريوهات الممكنة لتطوره في ظل واقع يندفع فيه هذا العالم بأقصى سرعة عرفها التطور البشري نحو آفاق واكتشافات وسياسات سرعان ما تتقادم لتحل بدائلها أخرى جديدة.

لقد تجاوز العالم حال السكون والبطء وحتى البلادة التي ميزت تاريخ الإنسان في العصور السحيقة يوم كانت الحضارات تُعمر طويلاً، أما اليوم فإن صورة العالم تكاد تتبدل كل ربع أو نصف قرن تبدلاً كلياً، إما بحكم الحروب والثورات والانقلابات السياسية، وما تفرزه من وقائع على الأرض، وإما بحكم ثورات العلم والتكنولوجيا والاتصال.

وإذا كان البحث الاجتماعي والسياسي العربي يشكو من علل كثيرة، فإن كبرى هذه العلل هي هذا الاستخفاف بالمستقبل وعدم تهيئة العدة لاستقباله، لذا كثرت المرات التي وجدنا أنفسنا فيها أمام كوارث، ربما كان بالإمكان تفاديها، لو أن صناع القرار اهتموا ببحث احتمالات التطور المختلفة.

والحق أن الاختبار والتجربة أمران صعبان في الدراسات التاريخية والاجتماعية، فكل واقعة من وقائع التاريخ المسلم بها قائمة بذاتها، وليس في الإمكان تصور ظروف يتكرر فيها وقوعها حتى يمكن الجزم بصحة ما قيل من استنتاج عنها، لذا يبدو طبيعياً ألا يتفق المؤرخون على ما هو مهم وما هو ليس كذلك.

ويبدو أن الحاجة الدائمة التي لا تنتهي إلى إعادة التأويل، حيث لا منجز نهائياً في هذا المجال، حين تصبح جميع الأحكام خاضعة لإعادة الفحص والتدقيق، هي ما يفسر ما ذهب إليه ابن خلدون في «المقدمة» من «أن التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الدول والسوابق من القرون الأُول، إلا أنه في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في علومها وخليق».

أين هي مراكز الأبحاث والدراسات المستقبلية في بلداننا؟ وإن وجدت فكم يخصص لها من موازنات؟ وما الجهد الذي يبذل في تهيئة العقول التي تعمل فيها؟


 
حرر في: 30/09/2015

اقرأ المزيد

عداوات الشعوب


لم يكن أحد ليتصور أن يأتي يوم من الأيام وتتحول العلاقات التاريخية القائمة بين الشعبين الروسي والأوكراني إلى علاقات تتسم بالعداء والبغضاء.. مثلما نتذكر جميعاً تدهور العلاقات التي كانت سائدة بين الشعبين الشقيقين الكويتي والعراقي نتيجة لجريمة الغزو العراقي لدولة الكويت الشقيقة التي نفذها نظام صدام حسين يوم الثاني من أغسطس/آب عام 1990…
 
لقد عدت مؤخراً من أوكرانيا التي أزعم أنني أعرف أهلها جيداً، وأعرف طبيعة العلاقات وعمق الروابط الاجتماعية والأسرية والنفسية التي تربط الأوكرانيين بالروس، والتي تضرب جذورها عميقاً في التاريخ المشترك للبلدين والشعبين الجارين والمتداخلين. إذ تذكر المصادر التاريخية أن أجزاء كبيرة من ما كان يسمى «كيفسكايا روس» كانت داخلة ضمن الدولة الروسية الإقطاعية القديمة. و«كيفسكايا روس» كانت آنذاك عبارة عن فيدرالية مرنة للقبائل السلافية الشرقية في أوروبا قامت خلال الفترة بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين.

وتعتبر الشعوب الحالية لبيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا وروسيا، ورثة تلك الحضارة. في القرن الرابع عشر الميلادي وقعت «كيفسكايا روس» تحت سيطرة إمارة ليتوانيا العظمى التي ضمت أراضي البلدان الحالية روسيا البيضاء وليتوانيا وأجزاء من أوكرانيا وروسيا ولاتفيا وبولندا وأستونيا ومالدافيا. وقد أسفرت حرب التحرير التي قادها بغدان خميلنيسكي عن تحرير أوكرانيا وروسيا البيضاء واتحادهما مع روسيا في عام 1654. وحتى الاتحاد الفيدرالي الذي أنشأته إمارة ليتوانيا العظمى مع مملكة بولندا في عام 1569 لتحدي الإمبراطورية الروسية، انتهى في عام 1795 نتيجة لتقسيم أراضي هذه الفيدرالية بين روسيا وبروسيا والنمسا.

في عهد القيصرة الروسية ألكسندرا الأولى (1801-1825)، كان النفوذ الروسي في أوكرانيا يؤمنه الجيش والإدارة الحكومية، لكن القيصر نكولاي استبدل في عهده (1825-1855) ذلك بإخضاع كل أوكرانيا للإدارة المركزية الروسية، حتى إن اسم أوكرانيا لم يكن يرد استخدامه إلا نادراً.

وبعد ثورة 1905، تمت إعادة الاعتبار للغة الأوكرانية، وتم السماح بتشكيل مجموعة أوكرانية برلمانية من نحو 50 نائباً في برلمان الإمبراطورية الروسية.

بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا في عام 1917، رفض القوميون الأوكرانيون دخول قوات الثورة (نواة الجيش الأحمر السوفييتي) أراضي أوكرانيا وحدثت مواجهات بين الطرفين، أعلن القوميون الأوكرانيون بعدها قيام جمهورية أوكرانيا الشعبية وانفصالها تماماً عن روسيا مع الإبقاء على الروابط معها. ولكن هذه الجمهورية سرعان ما سقطت في عام 1920 وتمت إعادة ضم أوكرانيا إلى روسيا فيما تم في العام التالي وتحديداً في 18 مارس/آذار 1921 إلحاق الجزء الغربي منها (منطقة ما وراء الكربات) ببولندا، وذلك بموجب اتفاق إنهاء الحرب السوفييتية البولندية التي استمرت من 1919 إلى 1921، والذي وقعت عليه كل من جمهورية روسيا السوفييتية الفيدرالية الاشتراكية وجمهورية أوكرانيا السوفييتية الاشتراكية من جانب وبولندا من جانب آخر.

ولكن ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية في عام 1945 التي انتصر فيها الحلفاء وبضمنهم الاتحاد السوفييتي، حتى تمت استعادة منطقة غرب أوكرانيا وإعادة ضمها لأوكرانيا. على أن تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً في 25 ديسمبر/كانون الأول 1991 قد فتح الباب من جديد أمام انفصال أوكرانيا عن روسيا. بل إن خطوات الانفصال قد سبقت التفكك الرسمي للدولة السوفييتية. حيث أعلن في 24 أغسطس/آب 1991 استقلال أوكرانيا وإعلانها جمهورية ذات سيادة.
 
كما تلاحظون، هناك وطأة قرون من العلاقة غير المستقرة المشوبة بالكثير من النعرات القومية، الانفصالية والانعزالية، غير المتوازية، المغذاة بخليط من مشاعر الغبن والإلحاق القسري. ومن نافلة القول إن هناك بالتأكيد حساسيات قومية وعقائدية وجهوية في كل المجتمعات العالمية. وهو حصاد تاريخنا الإنساني بحلوه ومره على أي حال. وهذه الحساسيات تطفو وتخبو على فترات زمنية متباعدة، تمليها في معظم الأحيان أحوال ضيق العيش والتكالب على مصادره، وفي بعض الأحيان تمليها عوامل خارجية تتصل بالصراعات الدولية التي لا تستبعد حلبته أي أداة مؤثرة ومرجحة للكفة ومنها العمل بوسائل شتى لإثارة الحساسيات الدينية والإثنية والقومية، وهو سلاح تجيد أجهزة المخابرات الغربية وواجهاتها الإعلامية استخدامه بكثرة، خصوصاً في الأوقات التي تشعر فيها بحدوث تراجع في قدرات بلدانها الاقتصادية التأثيرية وتنافسيتها. وما يلفت أن أجهزة الاستخبارات الصينية والروسية تعزف عن اللجوء إلى هذا السلاح في صراع النفوذ الذي تخوضه كل من الصين وروسيا مع الغرب، إلا أنها تركز عوضاً عن ذلك، بصورة أساسية ومتجاسرة، على سرقة المعلومات الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية.

في الأزمة المتفاقمة بين روسيا وأوكرانيا، والتي وصلت ذروتها إلى نشوب أعمال حربية نتج عنها خسارة أوكرانيا لأجزاء من أراضيها وبروز أزمة لاجئين ومشردين لدى طرفي النزاع الأصيلين، روسيا وأوكرانيا، لاسيما أوكرانيا التي شهدت مدنها عمليات نزوح جماعية للعائلات التي تضررت في مناطق النزاع، وعطفاً على مسألة الحساسيات والنعرات التي ظهرت خصوصاً لدى الأوكرانيين في أعقاب استقلال الجمهوريات الخمس عشرة، التي كانت تأتلف الاتحاد السوفييتي، عن بعضها البعض، فواقع الحال المستند إلى معايشة لصيقة يؤكد أن الأوكرانيين لم يكونوا إبان العهد السوفييتي في وارد الشعور بالغبن أو التهميش، مثلما أنهم لم يظهروا أي نزعات قومية انفصالية أو ضغائن ضد الروس كما كان حال التشيكيين والهنغاريين على سبيل المثال. فلقد كان وضع أوكرانيا مميزاً داخل الاتحاد السوفييتي، إذ كانت تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد روسيا. فقد كانت جمهورية لها علمها ولغتها وسيطرتها على مواردها، ولها تمثيل أيضاً في الأمم المتحدة شأنها شأن روسيا وروسيا البيضاء.
 
وبرغم عدم توصل الطرفين الأوكراني والروسي حتى الآن إلى اتفاق نهائي ينهي حالة الحرب والعداء بين الجانبين في المناطق الحدودية، فلا وجود لمزاج معادٍ للروس في أوكرانيا، إذا ما استثنينا وسائل الإعلام الأوكرانية الحكومية وقسم من الطبقة السياسية ذات التشبيك المصلحي المعقد مع أسواق روسيا وأسواق أوروبا. ومع ذلك فإن الاتجاه نحو تعزيز وتعميم استخدام اللغة الأوكرانية على حساب اللغة الروسية في العلاقات الرسمية وفي الحياة العامة، هو اتجاه قوي وواضح، وأن الجيل الأوكراني الجديد سوف لن يتحدث اللغة الروسية كلغة شقيقة موازية للغة الأوكرانية الأم، كما كانت الأجيال السابقة. وهي سياسة ممنهجة تتبعها السلطة الحالية في كييف الموالية للغرب بصورة سافرة كيداً ونكاية بالجارة روسيا التي كانت حتى الأمس القريب شقيقة.
 
 
حرر في: 18/09/2015

اقرأ المزيد

الوجه الآخر للهجرة


مَن يده في النار ليس كمن يده في الماء، لذا لا يحق للرائي من بعيد أن يطالب من يتهددهم الموت في كل لحظة، حرقاً بالبراميل المتفجرة أو ذبحاً بالسكاكين أو قتلاً بالقذائف والرصاصات الطائشة والموجهة، أن يمكثوا مكانهم حتى يأتيهم الموت.

ما من أحد يترك بلاده وأرضه وبيته، وفي ذهنه ألا يعود ثانية إلا إذا كان مكرهاً، فاراً من بطش ديكتاتورية مقيتة، أو من مذابح أمراء الحروب من كل ملة، وهذا ما تضطر إليه اليوم الآلاف المؤلفة من السوريين، وقبلهم فعل ويفعل العراقيون، من دون أن ننسى الجرح الفلسطيني النازف على شكل نكبات متتالية.

حين تشتعل الحروب، فإن الأقل حظاً في التعليم والمعرفة وظروف العيش، الذين ليس لديهم ما يبيعونه كي يتدبروا ما يدفعونه لمافيات التهريب، يصبحون وقوداً لها، بالقتال في صف إحدى الفرق المتقاتلة، وبأجسادهم ودمائهم تصب النيران على أوار الحروب التي يجني ثمارها في نهاية المطاف أمراؤها. وفي ظروف انعدام فرص النضال السلمي الديمقراطي الذي يستقطب عادة النخب المدنية، وطغيان الاستقطابات السياسية والعرقية والمذهبية، لا تجد هذه النخب من ملاذ لها سوى الهجرة، التي من أجلها يضحون بكل ما ادخروه.

في الحصيلة تُفرغ المجتمعات العربية من صفوة العقول، من أطباء ومهندسين وأكاديميين ومثقفين وأدباء وفنانين.

لقد رأينا هذا بأوضح صورة في حال الفلسطينيين أولاً، ورأيناه في حال العراق فيما بعد، حين هام أفضل ما فيه من كوادر ومثقفين على وجوههم في أراضي الله الواسعة هرباً من بطش الديكتاتورية في البداية، التي سرعان ما استبدلت بديكتاتورية لا تقل سوءاً عنها بعد الاحتلال الأمريكي، حيث لم تعد بعده إلا النخب الحزبية المستفيدة من الوضع الجديد، فيما ظل أصحاب الكفاءات المختلفة في منافيهم القريبة والبعيدة، لتنضم إليهم قوافل جديدة.

هَبْ أن المحنة السورية الدامية انتهت غداً أو بعد غد. من سيعيد بناء سوريا المدمرة، ممزقة النسيج، وقد فرّ منها خيرة أبنائها وبناتها، هذا غير الآلاف المؤلفة من الشبان الذين قتلتهم الحرب أو شوهت أجسادهم؟ وثمة سؤالان أخيران: أليس هناك ما يثير الريبة في أن بعض الغرب يظهر تعاطفه مع اللاجئين السوريين، ويظهر استعداداً لاستيعاب أعداد ليست بقليلة منهم؟

ألا يستطيع هذا الغرب، وهو الممسك بمفاصل القرار الدولي، أن يعالج أساس المشكلة وينهي محنة سوريا، بدل حمل أبنائها على الرحيل منها؟ 


 
حرر في: 27/09/2015

اقرأ المزيد

نخرج من الذات أم نعود إليها؟


أحد الكتاب تصوَّر أن الإنسان يخرج أحياناً من ذاته، تماماً كما يفعل حين يترك بيته ويخرج إلى الشارع، إذ يحدث أن يتحرر الإنسان من تبعات كثيرة تضغط على كاهله، من هواجس تعذبه، أو من ضغوط حياتية تسبب له قلقاً لفترة مؤقتة.
أفرد كولن ويلسون حيزاً كبيراً من كتابه «خفايا النفس» للحديث لما سماه الخروج من الذات.

كان ويلسون اهتم بدراسة عالم الرؤيا (الأحلام)، وعدَّ ما يشاهده الإنسان في المنام بمثابة تقديم ذكريات تجارب الإنسان الواقعية في صورة أخرى جرت إعادة تشكيلها، ولكنها تتضمن بالضرورة عناصر من الواقع.

إن العقل في فترات تراخيه يفسح المجال لتقدم تلك العناصر الكامنة أو المستقرة في العقل الباطن، لكن كاتباً آخر يتحدث عما سماه «الذهاب إلى الذات». مفهومان متناقضان إذاً.

أحدهما يشرح كيف يخرج الإنسان عن ذاته ويتحرر، ولو لوقت، من ضغوط النفس، وآخر يدعو إلى العودة للذات، وكلاهما صحيحان، تبعاً للحال التي يجري عنها الحديث.

هذا الكاتب كتب يقول ما معناه إنه كان يجد دائماً الإمكانية في الانسحاب إلى داخل النفس، إلى «تلك البقعة المتوارية في كل شخص، بقعة الصمت والانطواء». لكنه، ورغم استخدامه لمفردة نقيضة للمفردة التي استخدمها كولن ويلسون، يكاد يصل إلى النتيجة ذاتها، فهو يذهب إلى داخله، «إلى ذلك الفراغ غامق اللون» الذي يخص المرء وحده، عندما يجد أن الخارج يصبح عبثياً أو غير مفهوم، ويدعو للتأمل قوله إن لديه ما يشبه الستارة السرية التي يشدها عند الحاجة، فيحجب العالم الخارجي عن عالمه الداخلي.

ويظل السؤال ماثلاً: هل حقاً بوسعنا، هكذا بمجرد أن نشاء، إقامة الحاجز الحديدي بيننا وبين الواقع حين نشعر بأن مثبطاته كثيرة، وأن الانكفاء إلى الذات هو الملاذ؟ حتى الانكفاء ليس خياراً بأيدينا، لأن ضغوط الخارج علينا هي من القوة بحيث إن التحرر منها ليس عملية إرادية، وإنها تظل تلاحقنا حتى في المنام حين تصبح الرؤيا أو الحلم ذاكرة وقائع الحياة كما يقر ويلسون.

جوهر هذه المعاناة أننا دائمو البحث عن منطقة تصالح مع الذات. حين يعجز المرء عن التصالح مع المحيط، لأن ما فيه من مثبطات فوق قدرته على التحمل، فإن التصالح مع الذات هو رافعة القوة التي تعيننا لا على البقاء فحسب، وإنما على العطاء.
 
حرر في: 28/09/2015

اقرأ المزيد

مسيرة الفساد المظفرة ..!!


تحدثنا عن ارتباط الطائفية بالفساد، وخلصنا الى انها احد أوجه الفساد الفاقع، وانه لا يمكن فصل احدهما عن الآخر .. ينامان فى مخدع واحد وينجبان ما يشرع السرقة والرشوة والهدر المالي والمنافع وعقد الصفقات والمشاريع المضروبة التي لا تمت برائحة طيبة للمنفعة العامة، ويفتح الممرات الحرة المنظمة التي تجعل المجتمعات التي ينخرها الفساد اكثر تفككاً وانفلاتاً وتسليماً للمشيئة الطائفية بدرجة فائقة الفجاجة، ومن لاحظ وعاين وتابع المشاكل، كل المشاكل من أي مستوى ، وفي أي وزن، التي ظهرت الى العلن، ورأى الناس في لبنان والعراق والذين ساروا في اﻻيام الماضية في الساحات ومشوا وراء همومهم وأوجاعهم وانتقالهم من وضع سيئ الى وضع أسوأ، ويتأمل الشعارات التي رفعت، يكتشف او يزداد قناعة بهذا الارتباط بين الطائفية والفساد ..!! 

اليوم ، نعاود الحديث عن الفساد ، ولكن من زاوية اخرى نحسب انها تمثل وجهاً اخر من أوجه هذه الآفة التي لها قدرة فائقة على التناسل وطاقة مذهلة على الظهور بصور وأوجه مختلفة، وكم هو بالغ السوء ان نجد من يلعن الفساد ويهجوه ويناهضه ويظهر فى صورة المحارب له، فيما هو واقعاً ينام في مخدع الفساد، ويتحالف معه من الباطن، ويجعله يسرح ويمرح كيفما يشاء، والنتيجة حكايات غريبة، قد تكون مسلية، لكن مع الأسف تتخللها فصول من الكآبة والحزن والأسى وحتى القرف.

الوجه الآخر الذي نتناوله اليوم كأحد وجوه ومشتقات الفساد، يدخل في زاوية ترتبط بالإدارة والمسؤولية، الادارة عرفاً تعني بتأمين حاجات الناس ومعاملاتهم، واذا كانت الادارة تفتقد الكفاءة، جامدة فى بنيتها، معقدة في تنظيمها، مسرفة في أكلافها، غير واضحة في تعاملاتها ، مقيدة في حركتها، تتقيد بالروتين والبيروقراطية، جامدة ومنغلقة، ترفض التغيير والتحديث الحقيقي وتتمسك بالشكليات وبالاستراتيجيات التي لا تحقق شيئاً على ارض الواقع، لا تتحرك ولا تنجز شيئاً الا بتعليمات وتوجيهات، هىي ادارة عقيمة وعبء على المواطن والوطن والاقتصاد، هي ادارة عاجزة عن معالجة المعضلات ومواجهة التحديات وتفتح أبواباً لصور شتى من صور الفساد ..!

والمسؤول عرفاً، هو الذي يفترض ان يقوم بواجباته المؤتمن عليها على خير وجه وبشكل يحقق افضل النتائج، ان اخطأ يصحح أخطاءه، لا يمارس عملية الهروب الى الامام،  والمسؤول الذي لا ينجز، يكتفي بالتصريحات وبالوعود والنوايا الطيبة، لا يؤدي مهام عمله كما يجب، ويعجز عن اتخاذ القرار في الوقت المناسب، او ينتظر كل قرار من فوق، ولا يمتلك رؤية، ولا منهجية إدارية فاعلة، يكرس الشللية، ويعيق إعلاء قيم الجدارة والعلم والنزاهة، ولا يتواصل مع الناس او يفتح مكتبه او مجلسه الا لدواعي البهرجة الاعلامية و»الشو الاعلامي»، وتتلاحق نقاط السلبية في أدائه، هو مسؤول في أحسن الأحوال وافضل التفسيرات مشروع فساد، او مشارك بوعي او بدون وعي في صنع الفساد وتدعيم أركانه.

الفساد لا يعني فقط الرشوة، ولا الهدر، ولا التجاوزات المالية او الإدارية، كتلك التي تكشف عنها دون جدوى تقارير تلو تقارير لديوان الرقابة المالية والادارية، بل يعني أيضاً المسؤول الفاشل، الفاشل يخطط دوماً للفشل، ويعني أيضاً العاجز عن ابتكار حلول لمشاكل ومطالب الناس، والمتنصل من مسؤولياته، او الذي تعود ان يرميها على غيره، او تعود ان يكتفي بعرض العقبات التي حالت دون تنفيذ خططه، او تعود ان يعرض على الناس وعوداً ومشاريع واستراتيجيات لا احد يعلم مصيرها ، ولا احد يحاسبه عليها، والمسؤول الذي ألف ان يتخذ مواقف سلبية من اي خطوة إصلاحية حقيقية إما خوفاً على مصالح مختبئة في ثنايا نظام إداري ضعيف، وإما حماية لسلطات قائمة على الالتباس وغياب الشفافية، والمسؤول الذي يفسح المجال لهيمنة جمعية من الجمعيات، او تيار من التيارات السياسية او الدينية او الطائفية او المذهبية التي ينتمي إليها ويجعلها تسيطر على مفاصل العمل والقرار هنا او هناك، والمسؤول الذي ينتمي الى عقلية لا تفهم الادارة كخدمة عامة، هذا المسؤول لاعب رئيسي في توطين قيم وسلوكيات ولوبيات الفساد، وفي تشكيل فرق دوري الفساد.

هل يمكن ان تتقدم وتتطور الدول على يد مثل هذه النوعية من المسؤولين ..؟ الا يعني وجود هؤلاء تعطيلاً للقدرات التي نملكها، وإلغاء للاحتمالات المشرقة التي يمكن ان تصادفنا وتمر في طريقنا، الا نعي ان أي مجتمع يبقى على هؤلاء يعني انه يخل بموازين المسؤولية مما يسمح بفتح أبواب للفساد والتجاوزات والهدر، وبناء أعمدة رئيسية لتغلغل الفساد في مفاصل المجتمعات، والدول، وهذا ملف لا نريد تضخيمه بحيث نصل الى اليأس، ولا نريد تبسيطه بحيث نصل الى الخيبة، ولكنه أعمق مما نتصور، واكبر من ان يوكل الى أطراف او أشخاص يفترض ان يكونوا اول من يقتلعهم اي تحديث او تطوير او إصلاح، حتى وان بدوا مسايرين ومواكبين في المظهر، لأنهم يماطلون ويعترضون في الجوهر، وهذا أمر واضح يشار اليه دونما عناء ..!!

تابعوا الأسس التي نهضت بأمم وشعوب، وتعلموا من دروسها .. تعلموا منها فعلياً، وكل ما نرجوه ونتمناه الا يكون التوق الى تعلم هذه الدروس واستيعابها مجرد حلم ..!!
 
 
حرر في:  15 سبتمبر 2015

اقرأ المزيد