المنشور

نواب.. غيابهم أقوى من حضورهم..!!


يفتقد كثير من النواب، بل معظمهم – حتى لا نقع في فخ التعميم – الى شواهد تؤكد تكدس المآخذات التي يسجلها الناس على أدائهم الهزيل والبائس معاً، هؤلاء النواب ليسوا اكثر ترفعاً عن شواهد لما حدث من فواجع برلمانية في الفصل التشريعي السابق، وكان أسوؤها تلك التي تخلى النواب طواعية عن صلاحياتهم في المراقبة والمساءلة والمحاسبة والاستجواب، في مشهد اختلط فيه سوء الأداء بسوء التمثيل السياسي وبالغايات والدوافع والمصالح المتشابكة، ووجدنا نواباً في موقف عميق في دلالته وهم يضعون ويقرون «حباً وكرامة» القيود التي جعلت من المجلس النيابي منزوع الدسم، وهذا موقف لم ولن يسجل ضد مجهول، بل ضد نواب ومن كانوا نواباً يفترض انهم كانوا يمثلون شعب البحرين نكلوا بقيم المساءلة والمحاسبة، وهي التي تشكل مرتكزات العمل البرلماني الحقيقي في كل برلمانات العالم، زهقوا روح هذه المرتكزات، وشيعوها على الطريقة المعروفة للجميع.. هل تذكرون..؟!! 

ما قصر عنه المشهد البرلماني في الفترة الماضية او الراهنة تعوضه التصريحات الشرهة لنواب هذه الايام والمحفزة على زيادة قناعتنا بانه لن تكون هناك في الفترة المقبلة «لملمة» لما أهدر من صلاحيات، او مفاجأة لإنجاز، او دهشة إعجاب لأداء، وهذه حقيقة قد يكون النواب، او بعضهم على معرفة بها اكثر من غيرهم، ويبدو انه لا فرق عندهم، والأيام المقبلة كفيلة بترسيخ هذه القناعة حين يطرح للتداول قريباً أكثر من ملف في المقدمة منها التقرير الجديد لديوان الرقابة المالية والادارية وسنجد كيف سيتم التعاطي مع هذا التقرير، وكيف ستكون مخرجات هذا التعاطي، وإن كنا لا نتوقع جديداً له وزن وقيمة واعتبار يمكن ان يشكل الخلاصة سوى المراوحة والحلقة المفرغة وتأكيد المؤكد من ردح وشعارات مشروخة وتصريحات يتعثر فيها الكلام الفارغ بالمعميات الساذجة، وكل ما ألفناه وحفظناه، وليس اكثر من ذلك، رغم ان المعضلة هي ان هذا الوقت على وجه الخصوص يفترض ان يكون وقت مساءلة وحساب والتحرك لدفع عجلة الإنتاج البرلماني الى ما يلبي ولو الحد الأدنى من طموحات الناس الذين لايرون بالعين المجردة ثماراً تؤتى وكأنهم في انتظار «غودو»..!!
انتزاع الصلاحيات البرلمانية الحقيقية هي المسألة الأكثر إلحاحاً الآن، وليس الاستثمار في تضييع الوقت والهدف بكثير من الإبداع والبراعة، وكأن ثمة من يريد لنا ان نعود دوماً الى نقطة الصفر التي لا نعرف فى الحقيقة اين هي..؟ ولماذا يراد ان نبقى عند هذه النقطة او قريبين منها او عند حدودها؟ هل لاننا لا نملك أرضاً صلبة في واقع ارادة الاصلاح؟ او ان هذه الارادة غير كافية او لا يراد لها ان تذهب الى حيث يجب ان تذهب؟ هل لأن العمل البرلماني ينظر اليه ويتم التعامل معه من باب لزوم ما يلزم؟ ولماذا لا يكون عودة بل انتزاع الصلاحيات التي اهدرت للمجلس النيابي، واضافة الجديد إليها من أولويات النواب؟ هل يكشف ذلك عن عجز النواب عن تحرير انفسهم من المراوحة والتوقف عن أداء شعائرها؟ على اي حال، وفي كل حال لا يتوجب علينا ان نجهل او نتجاهل بان الحال الهامشية هذه لا يمكن ان توجد وان تعاش وان تستمر إلا في وسط يقبل بها، او يتجاهلها على الأقل، وان الناس لا يمكن ان يضلوا قادرين على ابتلاع مزيد من الاهتراء في أداء النواب، حتى لو نال هؤلاء إشادات مناسباتية من هنا او هناك..؟

ليس عودة الصلاحيات هي وحدها التي يجب ان تكون من أولويات النواب، وإنما يضاف إليها ضمن ما يجب ان يضاف جرعة معقولة مما أسماه ماكس فيبر بـ «أخلاق المسؤولية» التي يستشعر فيها المرء حساباً لمواقفه وأفعاله وأقواله، ونحسب ان هذه مسألة تفرض نفسها على خلفية اكثر من سبب، نكتفي باثنين، الأول يتمثل في الكلام الذي قاله نواب حين الإعلان عن كتلة برلمانية لهم، قالوا ما معناه ان الشارع غير راضٍ عن مجلس النواب، والمجلس اخفق في استخدام ادواته الدستورية، وان العمل البرلماني المتميز والريادة في العمل التشريعي والرقابي وتعزيز الديمقراطية لخدمة المجتمع البحريني سيكون نهج الكتلة القادم، ورغم ان تجربتنا مع الكتل التي تشكلت على مدى السنوات الماضية أثبتت ان هذه الكتل أعجز ما تكون عن تحقيق نقلة نوعية في الأداء البرلماني والتعاطي الأمثل مع ما يهم الناس، ولكن ليس أمامنا في شأن الكتلة الجديدة إلا القول، إن المحك هو الذي سيبين الى اي مدى هؤلاء النواب مؤتمنون على تعهداتهم وأقوالهم؟ والى اي مدى يمكن لهم ان يتحصنوا بشجاعة من يمثلون؟ أما السبب الثاني فهو يفرض نفسه على خلفية ما أثاره نواب بحق زميلة لهم، والقارئ الضعيف الذاكرة يمكن ان يرجع الى أرشيف بعض الصحف المحلية ويتمعن في اللغة التي خرجت الى العلن، انها لغة تكشف القعر الذي وصل اليه من لا يجب ان يصل الى قعر، فالنائبة انتقدت اداء النواب وطالبت بتقييم الأداء من جهة محايدة، ودعت الى تولية الأفضل في المناصب القيادية في المجلس النيابي، وقيمت من منظورها الشخصي أساسيات اتخاذ القرارات في المجلس بالاضافة الى وضع الاداء الإداري داخله، فما كان من بعض النواب إلا المسارعة الى مهاجمة زميلتهم ووصفهم لها بـ «الأنا» والأستاذية، وباحثة عن الشهرة وعن بطولات وهمية، وبأنها معقدة نفسياً ومن هاجس محاربتها، ولم ينسوا ان يسألوا الله لها السلامة من عقدها النفسية، واعلنوا بانهم بصدد رفع شكوى ضدها الى هيئة مكتب المجلس.

المشكلة ليست في رأي النائبة المعنية، ولا في موقف النواب المعنيين حيالها، المشكلة ان من يفترض بهم ان يكونوا في طليعة المؤمنين بالعمل الديمقراطي وبحرية الرأي، ومرحبين بالنقد والانتقاد، وبالاختلاف والتفرع وتعدد الآراء والمواقف لا يتحملون انتقاداً ولا رأياً ولا ملاحظة لا تتوافق مع هواهم، ألا يعني هذا في أبسط تحليل ان حال مجلسها النيابي ليس طبيعياً، رغم انه لم يكن طبيعياً على الدوام اذا ما قارناه بدول العالم المتقدم التي يفترض ان يتعلم نوابنا منها، تعلموا كيف يساءلون ويحاسبون، وكيف يتقبلون النقد من دون «بهارات» او «تهويل»، وكيف يتجنبون الإخفاق، وكيف لا يدخلون في سباق يذهب بالعمل البرلماني الى «الهاوية»، او يكون فيها بعض النواب حكوميين اكثر من الحكومة، تعلموا.. المهم الا تتعلموا على حساب الوطن والشعب، وإلا فان غيابكم سيكون أقوى من حضوركم..!! 
 
 
 27  اكتوبر 2015

اقرأ المزيد

دول التعاون وآلية «آي إن دي سي» لخفض الانبعاثات


في مؤتمر الأطراف السابع عشر لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (COP-17) الذي عقد في مدينة ديربان بجنوب إفريقيا نهاية عام 2011، تم إنشاء لجنة محددة الاختصاص (Ad Hoc Working Group)، أُطلق عليها اسم «مجموعة منهاج ديربان للعمل المعزز» (Ad Hoc Working Group on the Durban Platform for Enhanced Action – ADP)، وكلفت بمهمة محددة وهي العمل على وضع مسودة اتفاق جديد، أو بالتحديد وضع بروتوكول تنفيذي جديد لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ ليحل محل بروتوكول كيوتو الذي انتهت مدة سريانه (2008-2012)، على أن تكون مسودة هذا الاتفاق جاهزة للعرض والإقرار في عام 2015 الجاري ليبدأ سريانه اعتباراً من عام 2020، وأن يكون ملزماً لجميع الدول الأعضاء. وقد تمخضت مناقشات هذه اللجنة عن اتخاذ مؤتمر الأطراف الذي عقد في وارسو نهاية 2013 القرار رقم 1/CP.19 الذي دعا جميع الدول لتكثيف استعداداتها الوطنية لتقديم ما أطلق عليه «المساهمة الوطنية المعتزمة والمقررة» (Intended Nationally Determined Contributions – INDCs) تحقيقاً لهدف المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، من دون الإضرار بالوضع القانوني للاتفاقية، في التوصل لإقرار بروتوكول كأداة قانونية أخرى (محل بروتوكول كيوتو)، أو أي مخرجات اتفاق تملك قوة قانونية مستندة للاتفاقية ومطبقة على جميع أطراف الاتفاقية.
 
كما اتخذ مؤتمر الأطراف العشرين الذي عقد في ليما عاصمة بيرو نهاية العام الماضي القرار رقم 1/CP.20 تم بموجبه تكرار الدعوة السابقة للأطراف لتقديم مساهماتها الوطنية في التخفيف (Mitigation) قبل انعقاد مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين في باريس نهاية العام الجاري (في الربع الأول من عام 2015 للأطراف القادرة على فعل ذلك). كما تضمن القرار الجديد إضافة لم تكن موجودة في القرار السابق، وتتمثل في الحث على أن تشمل «المساهمة الوطنية المعتمدة والمقررة في التخفيف»، خطط الدول/الأطراف في ما يتعلق بالتكيف (Adaptation) المعززة لإجراءات التخفيف (Mitigation) .
 
وقد خص القرار رقم 1/CP.20 بالنص مسائل الوضوح والشفافية والفهم (Clarity, Transparency and Understanding)، التي من أجل تحقيقها، فإن من الممكن أن تتضمن المعلومات المقدمة من جانب الدول/الأطراف، بجانب أشياء أخرى، معلومات كمية حول إجراءات التخفيف المعتزمة، تشمل كما هو مناسب سنة أساس (Base year)، وإطار زمني وفترة/فترات التنفيذ، نطاق وحجم التخفيف، عمليات التخطيط، الفرضيات والمقاربات المنهجية، بما فيها تلك المتعلقة بتقدير وحساب انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن النشاط البشري، والإفادة أيضاً بقدر الإمكان بشأن طريقة التخلص منها، وكيف للدول/الأطراف أن تعتبر أن «مساهماتها الوطنية المعتزمة والمقررة» (في خفض الانبعاثات)، عادلة وطموحة في ضوء ظروفها المحلية، وكيف لهذه الجهود التي ستبذلها أن تسهم في تحقيق الهدف الوارد في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ التي تنص على أن «الهدف النهائي لهذه الاتفاقية وأي أدوات قانونية ذات صلة تقرها مؤتمرات الأطراف، هو التوصل، وفقاً لنصوص الاتفاقية، إلى تثبيت تركيزات غازات الاحتباس الحراري في الجو عند مستوى يمنع العبث الإنساني الخطير بنظام المناخ. ويجب التوصل إلى هذه النقطة التثبيتية خلال إطار زمني كاف للسماح للأنظمة الإيكولوجية (البيئية) للتكيف طبيعياً مع تغير المناخ، وضمان عدم تهديده للإنتاج الغذائي وتمكين التنمية الاقتصادية من التقدم بطريقة مستدامة”.

وفي واقع الحال لا يعتبر التاريخ المشار إليه آنفاً لتقديم الدول عروضها (في الربع الأول من عام 2015 الجاري)، قطعياً، فكثير من الدول لن تقدم عروضها قبل انعقاد مؤتمر باريس نهاية العام. كما أن العروض التي قُدمت حتى الآن لا تعدو أن تكون عبارة عن عروض أولية (Initial Offers)، سوف يعمل مقدموها على تقديم نسخ مطورة منها بناءً على ما ستسفر عنه جولات المفاوضات المقبلة على الصعد الأخرى، لاسيما التكيف والتمويل ونقل التكنولوجيا وبناء القدرات. ويفهم من مجمل المداولات ومن وثائق المفاوضات التي تصدر تباعاً عن الاجتماعات التحضيرية لمؤتمر الأطراف، أن عدداً من الدول، لاسيما منها الدول الجزرية النامية الصغيرة (Small-Island States – SIS) والدول الأقل نمواً (Least Developed Countries – LDC)، لن تكون مطالبة في واقع الحال بتقديم عروضها نظراً لهشاشة وضعها الطبيعي (المناخي) والاقتصادي الناتج عن تغير المناخ. بل إن البند رقم (11) من القرار 1/CP.20 الصادر عن مؤتمر الأطراف ال (20) الذي عقد في ليما العام الماضي، يؤكد على نحو صريح وواضح أن الأطراف «توافق أيضاً على أن الدول الأقل نمواً والدول الجزرية الصغيرة النامية (Small Island Developing States)، يمكن أن تقدم معلومات حول استراتيجياتها وخططها وبرامجها التنفيذية المتعلقة بالتنمية منخفضة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، التي تعكس ظروفها الخاصة المتصلة بالمساهمة الوطنية المعتزَمة والمقررة».

وقبل ذلك كان البند الرابع في القرار المذكور «يحض الدول المتقدمة الأطراف في الاتفاقية على تقديم وحشد الدعم المالي المعزَّز للدول النامية الأطراف في الاتفاقية لمساعدتها على اتخاذ خطوات معتبرة في مجالي التخفيف (Mitigation) والتكيف (Adaptation)، لاسيما للدول الأطراف الأكثر هشاشة وانكشافاً إزاء الآثار السلبية لتغير المناخ، وأن تقر هذا الدعم المالي غير القابل للاسترداد دول الأطراف الأخرى». بما يعني أن قسماً كبيراً من مساهمات الدول النامية، وبضمنها دول مجلس التعاون المنكشفة أكثر من غيرها أمام ما تُسمى «تدابير الاستجابة» (Response Measures) التي تتخذها الدول المتقدمة للوفاء بالتزاماتها في ما يتعلق بالتخفيف، ومنها الحد من استهلاك الوقود الأحفوري وعلى رأسه النفط – مشروط، على ما هو بائن في العروض المقدمة حتى الآن، بحصولها على الدعم المالي والتكنولوجي والفني القدراتي الذي يجب أن تحصل عليه أولاً من الدول المتقدمة.

الآن وقد عُلِم بتقديم جنوب افريقيا عرضها، كما أن الهند قدمت عرضها بعد يوم واحد من انتهاء الموعد المقرر لتقديم العروض وهو الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2015، أي في يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2015 الذي صادف مولد زعيمها المهاتما غاندي باعتباره رائد التنمية المستدامة، إضافة إلى قرب تقديم البرازيل عرضها حسبما رشح من أخبار حتى الآن، معتمدة عام 2010 كسنة أساس، فإنه لم يبق أمام دول مجلس التعاون سوى اتخاذ موقف محدد من جانبها، الأصل فيه هو أن تؤجل تقديمها لمساهماتها إلى ما بعد مؤتمر الأطراف في باريس، ولكن وبعد أن قدمت أو على وشك أن تقدم مجموعة Basic Countries عروضها، وبما أن عدم التقديم سوف يتم استغلاله سلباً للنيل من سمعتها، لذا فإننا نقترح أن تقدم دول التعاون الحد الأدنى من المساهمات كعروض مبدئية قابلة للتطوير بحسب مسار المفاوضات اللاحق، وألا تلزم نفسها بما يضيف أكلافاً إنتاجية جديدة لبعض قطاعاتها الاقتصادية الحيوية وفي مقدمتها قطاع الطاقة، وأن تنسق فيما بينها عملية تقديم العروض لتكون متزامنة التوقيت ومتوافقة في مستوى الالتزام وفي سنة الأساس المعتمدة. 
 



حرر في 25/10/2015

اقرأ المزيد

مآل الهبة الشبابية الفلسطينية


لم يضرب شباب القدس وشباب الضفة الغربية موعداً محدداً لانطلاق حركتهم الاحتجاجية ضد جور وطغيان الاحتلال «الإسرائيلي»، على نحو ما فعله شباب «الربيع العربي» مطلع عام 2011. فلقد تحرك المقدسيون من تلقاء أنفسهم بعد أن فاض بهم كيل السخط والغضب الساطع على المحتل الذي لم يعدم وسيلة لاضطهادهم عنصرياً وإذلالهم وتطفيشهم بتسليط قطعان المستوطنين عليهم من آن لآخر بقصد إنهاء ما تبقى لهم من وجود داخل الجزء الشرقي من مدينتهم الذي تحتله «إسرائيل» منذ 7 يونيو/حزيران عام 1967 لإلحاقه بقسمها الغربي الذي احتلته في عام 1948، رغماً عن صدور قرار من مجلس الأمن الدولي في عام 1967 تحت رقم 242 قضى بوجوب انسحاب القوات «الإسرائيلية» من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة في حرب 1967، والذي لم يجد طريقه للتنفيذ «بفضل» الاعتراض الأمريكي!
الآن، وفيما يشغل المحللون و«المراقبون» أنفسهم بالانخراط في جدل حول ما إذا كانت هذه الهبة الفلسطينية التي عمّت كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة وكذلك أراضي فلسطين التاريخية، ستستمر وتتطور إلى انتفاضة ثالثة أم أن مصيرها سيكون مصير هبات «الربيع العربي» التي انطفأت جذوتها بصورة كلية، مخلفة وراءها فوضى عارمة طاولت تقريباً كافة أرجاء المعمورة العربية – فيما يندلع هذا الجدل، يواصل الشباب الفلسطيني في كافة أرجاء فلسطين، انتفاضتهم ضد المحتل وممارساته العنصرية بنفس الزخم وبنطاق جغرافي أوسع ومشاركة جماهيرية أكبر.

«إسرائيل» التي أخرجت كل مخزون جبروتها وطغيانها وغطرستها، تبدو مفزوعة من هذه الموجة المتصاعدة من الغضب الفلسطيني.. حكومتها منخرطة في اجتماعات استثنائية الواحد تلو الآخر. وفي كل واحد منها يأمر رئيسها نتنياهو بمزيد من القمع الفاشستي الذي يتجاوز هدم منازل الفلسطينيين من دون السماح لهم بأخذ ولو ما يسترهم في العراء من أساسيات حاجياتهم قبل عملية هدمها.. إلى الترخيص بإطلاق الرصاص الحي على الصبية رماة الحجارة.. إلى فتح جبهة حرب جديدة ضد العرب الفلسطينيين سكان ال48.. وصولاً، وليس انتهاءً، إلى ابتزاز رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس وإرهابه، وذلك باتهامه بأنه يقود التحريض والتشهير ضد «إسرائيل». وذلك من أجل الضغط عليه ودفعه لاتخاذ إجراءات تطفىء لهيب الانتفاضة، رغم كل ما يبذله من جهود للتهدئة بشهادة جهاز الأمن العام (الشاباك) في جلسة الحكومة الأسبوعية الأحد 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، التي كشف موقع «واللا» الإخباري «الإسرائيلي» بعدها أن (الشاباك) أطلع الوزراء على التقديرات والمعلومات الاستخبارية الأخيرة حول الوضع في القدس والضفة، والتي أشارت إلى أن «رئيس السلطة، أبو مازن، يعمل ضد الإرهاب»، وأن هناك مسؤولين في حركة فتح وفي السلطة يعملون ضد «إسرائيل»، لكن أبو مازن نفسه يرفض الإرهاب وأمر الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالعمل على إنهاء العنف، وأن معظم الناشطين والعمليات التي سجلت في اليومين الماضيين، جاءت بقرارات شخصية من أفراد قرروا هم تنفيذها، ولم تكن مدفوعة من قبل تنظيمات».

ولأنها مفزوعة ومضطربة، فإن «إسرائيل» مرشحة للولوغ في حماقات تزيد الطين بلة وتحرج حماتها الأمريكيين والأوروبيين الغربيين. لذا فقد سارع «الرعاة الرسميون» لإعادة حقن الفلسطينيين والعرب بمخدر الوهم الذي ظلوا يحقنونهم به على مدار 67 عاماً من خلال إحياء اللجنة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا والتي كانت قد تأسست في عام 2002 بهدف القيام بدور الوساطة في عملية السلام على المسار «الإسرائيلي»- الفلسطيني. وهو دور غير مفعل في ظل انفراد واشنطن بملف قضية الشعب الفلسطيني، حتى إن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي تم تعيينه كمبعوث خاص لهذه اللجنة في يونيو/حزيران 2007 وأوكلت إليه مهمة تنظيم المساعدة الدولية للفلسطينيين والإشراف على المبادرات الرامية إلى دعم الاقتصاد والمؤسسات الفلسطينية تمهيداً لقيام الدولة الفلسطينية، استقال من منصبه في شهر مايو/أيار الماضي. ومع ذلك فقد ألغت اللجنة زيارتها إلى «إسرائيل» والضفة الغربية التي كانت مقررة الأربعاء 14 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وذلك بطلب من «إسرائيل»، والولايات المتحدة بطبيعة الحال، رغم أن الزيارة كانت على مستوى المندوبين لكل من أعضاء اللجنة الأربعة وبهدف محدد وهو إطفاء حريق الانتفاضة. وكما جرت العادة في كل عدوان تشنه «إسرائيل» ضد العرب والفلسطينيين، تفضل واشنطن إطلاق يد «إسرائيل» الإجرامية لتبطش وتخلق وقائع ميزان قوى على الأرض، بالتوازي مع إطلاقها وعود بتحرك دبلوماسي لحل «الإشكال» على نحو وعدها بإرسال وزير خارجيتها جون كيري الى المنطقة من دون تحديد موعد زمني للزيارة. هو الآخر سوف يأتي – إذا ما أتى أصلاً – ليقوم بدور الإطفائي لاحتواء ثورة الفلسطينيين على الاحتلال الذي ترعاه واشنطن إذا ما تبين احتمال غرق «إسرائيل» ورئيس حكومتها نتنياهو في ورطة محاولته تغيير الواقع الديني للمسجد الأقصى.

من هذه الزاوية يمكن القول إن استمرار وتصاعد زخم الانتفاضة الشبابية الفلسطينية الشاملة، مضمون ومؤمن وقوده «بفضل» فيض جنون نتنياهو وحكومته. وأنه رغم هذا الجنون القمعي المتصاعد الذي يواجه به نتنياهو هذه الانتفاضة الجديدة، إلا أنه وحكومته مرعوبان من مجاهل تطوراتها، وذلك برسم رسائله المستعجلة التي قيل إنه أرسلها عبر وسيط ثالث إلى رام الله وغزة، ومفادها أن «إسرائيل» غير معنية بتصعيد أمني مع القطاع تحديداً، إضافة إلى إعادة عرض الوعود المعسولة على رام الله بتقديم «تسهيلات» اقتصادية للفلسطينيين في سياق سياسة العدو المتعلقة بالسلام الاقتصادي مقابل الحفاظ على الهدوء في الضفة، وتشمل مجموعة من المشاريع مثل تشغيل خدمة ال 3G لشركات الاتصالات في الضفة الغربية، وكذلك الموافقة المبدئية على تشغيل ال2G في غزة، وتفعيل محطة الغاز في جنين، وتوقيع مذكرة تفاهم مشتركة حول إيصال الغاز الصناعي من خلال أنبوب إلى قطاع غزة، وبناء مدينة جديدة في الضفة (روابي)، والموافقة على إنشاء مدينتين جديدتين في شمالي الضفة، وغيرها من المشاريع الخدمية التي تنتهي عادة بلهاث الناس وراء لقمة العيش ورغدها ولو بالغرق في دوامة قروضها وأثقالها الطاردة للمزاج المقاوم.

بهذا المعنى فإن الخطر على هذا الحراك يأتي أولاً من مزيج القمع الهمجي المشدد والكيد «الإسرائيليين»، ويأتي ثانياً من حجم الضغوط الدولية والإقليمية التي بدأت تمارس على السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها أبو مازن، ويأتي ثالثاً من اعتماد الشباب الفلسطيني على خزين حماستهم لتغذية استمرارية حراكهم، على غرار شباب «الربيع العربي»، من دون أن تتوفر لهم قيادة مسؤولة وقارئة جيدة لميزان القوى وفرص إحداث تغيير فيه، فضلاً عن توفرها على رؤية واضحة لما هي تستهدفه في برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى.
 


حرر في 23/10/2015
 

اقرأ المزيد

لماذا لم يلتقِ تولستوي وديستوفسكي؟


تضعنا مذكرات زوجة الكاتب الكبير فيودور ديستوفسكي، آنا غريغورفينا، رغم صغر حجم هذه المذكرات في أجواء المناخ السياسي والثقافي الروسي، في الحقبة التي عاش فيها الرجل في نهايات القرن التاسع عشر، هو الذي عاصر عمالقة آخرين في الأدب الروسي مثل تولستوي وتورغينيف وغيرهما. صحيح أننا نمسك ببعض التفاصيل المهمة عن حياة ديستوفسكي وحالته الصحية المضطربة، الناجمة أساساً عن ملازمة مرض الصرع له، ولكننا نقع أيضاً على تلك العلاقة المعقدة والمركبة بينه وبين المحيط الأدبي والمجتمعي في تلك الفترة.
 
ويبدو محيراً بالفعل أن ديستوفسكي وتولستوي لم يلتقيا أبداً، رغم أنهما عاشا في الفترة ذاتها، وفي المدينة ذاتها. وترد في المذكرات إشارة إلى أن لقاء محتملاً بين الرجلين، كان سيأتي على سبيل المصادفة، في إحدى الأمسيات الأدبية لم يقع، لأن تولستوي حرص على أن يغادر المكان بسرعة رفقة صديق مشترك بينه وبين تولستوي، ربما ليتجنب هذا اللقاء تحديداً.
فيما بعد ألقى تولستوي باللائمة على ذلك الصديق في عدم إتمام اللقاء، في حديثٍ بينه وبين أرملة ديستوفسكي بعد وفاته، إلا أن المذكرات تورد واقعة أخرى تفيد بأن بين الرجلين مشاعر سلبية، قد تكون ناجمة عن شحنة من الغيرة المألوفة بين أهل الكار الواحد، وربما تعود إلى أسباب أخرى غير واضحة.

جرى ذلك عندما أقامت روسيا حفل تكريم ضخماً لذكرى الشاعر ألكسندر بوشكين. كان الجمهور، والشبيبة بشكل خاص، في تشوق لمعرفة ما يقوله عمالقة الأدب في روسيا عن شاعرها الأعظم، خصوصاً أن النخبة الثقافية والأدبية الروسية كانت منشغلة يومها بالسجال بين دعاة الخصوصية القومية الروسية الآتية من جذورها السلافية وعقيدتها الأرثوذكسية، إزاء دعاة التغريب والتشبه بأوروبا، وهو السجال الذي ما زال يلازم روسيا حتى هذه اللحظة، ومعروف عن ديستوفسكي مناصرته للرأي الأول، الذي يصادف هوى أكبر في الوجدان الجمعي الروسي.

ومن أجل المشاركة حضر من باريس تورغينيف التي كان يقيم فيها، وقصد منزل تولستوي طالباً منه ضرورة المشاركة، فسأل الأخير: وهل سيحضر ديستوفسكي الحفل، فأجابه تورغينيف بأن ذلك مرجح، فجاء رد تولستوي حازماً: إذاً لن أحضر، لأنه سيسرق الأضواء، وسيتحول الحفل من تكريم لبوشكين إلى تكريس لديستوفسكي.

لم يحضر تولستوي الحفل، وما توقعه حدث، فرغم الهجوم اللاذع الذي شنته بعض الصحف على مضمون خطاب ديستوفسكي، فإنه كان نجم الحفل بلا منازع.
 


حرر في: 18/10/2015

اقرأ المزيد

المجتمع المدني.. جديد ولا جديد..!!


في ظل موجات الجنون التي تحيط بنا من كل جانب ومن دون هوادة، والمتمثلة في حروب وصراعات وعنف وقتل واقتتال، وإرهاب وتكفير وتخوين، وجرائم ضد الانسانية، وشروخ في قيم العدل والعقل، نستقبل خبر منح جائزة نوبل للسلام لأربع من منظمات المجتمع المدني في تونس لكونها نجحت في صناعة توافق وطني، وتمكنت من قطع الطريق على من أراد احتكار الحقيقة الدينية والدنيوية، لم تكفر أحداً، ولم تخن أحداً، لم تقصِ او تشوه من سمعة احد، وتمسكت بالحد الممكن من قيم العقل والتسامح، بذلت جهداً من اجل ترويض القوى المتشددة بمقتضيات العمل الشرعي حتى وإن كان على مضض، فقد تصدى المجتمع التونسي لما اراد ان يقسم المجتمع الى كفار ومسلمين، ومن رفع السلاح ضد الدولة، واعتبر سيادة الشعب كفراً، والحرية الشخصية باطلة وفاسدة، والدولة المدنية والعلمانية بدعة وضلالة، واحسب ان ذاكرة من يتابع الشأن التونسي لا زالت تحتفظ بالشعارات التي حملتها قوى المجتمع التونسي والتي حملتها التظاهرات التي جابت شارع الحبيب بورقيبة، اهم الشوارع الرئيسية في تونس، فقد حملت عناوين «لا خوف ولا رعب.. السلطة ملك الشعب»، «خبز وماء والتطرف لا.. خبز وماء والسلفية لا»، وشعار «نعم للتفكير.. لا للتكفير»، و«المرأة خط احمر»، و«نعم لفصل الدين عن الدولة»، و«الايمان ايماني.. ارفع ايدك عن قراني»، والخلاصة، خلاصة كل حراك المجتمع المدني وقواه الفاعلة، تحقيق الوحدة الوطنية التي مرت حتماً بالمصالحة الوطنية الشاملة.. وكانت هذه هي سكة السلامة التي جعلت تونس تتجاوز حالة الانفلات الأمني واللا استقرار، واللا يقين، وحالة الخوف من وعلى المستقبل. 

تونس ما بعد 14 يناير 2011 وعلى حد وصف الكاتب التونسي العفيف الأخضر استيقظت فيها جميع الانانيات الفردية والجهوية، والدينية والدنيوية، وهذا يعني ان كل الأطياف والمشارب والطبقات والنخب والقوى والجهات بلا أدنى استثناء شاركت في البناء وتفادت حرب الجميع على الجميع.!! 

المجتمع المدني في تونس عريق ومفعم بالحيوية، ويمتلك ميكانزمات قوية رغم القمع الممنهج ايام زين العابدين، هذا ما استشعرته شخصياً خلال زيارتي الى تونس قبل نحو شهر، ولمست الى اي مدى هي مؤسسات المجتمع المدني متحررة من اجهزة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية، وكم هي تتمتع بقدرات تعبوية كبيرة، وفي المقدمة منها الاتحاد التونسي للشغل، فهو اتحاد له ثقل جماهيري ويبلغ عدد منتسبيه 500 الف عضو وله كلمة مؤثرة في تسيير دفة السياسة في البلد، وكذلك الحال بالنسبة لنقابة المحامين، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية لحقوق الانسان، كل له تأثيره ودوره واسهاماته في الحياة السياسية وفي خدمة المجتمع التونسي، فقد أتاحت اللجنة الرباعية إقامة نظام حكم دستوري يضمن الحقوق الأساسية للجميع من دون شروط تتصل بالجنس والأفكار السياسية والمعتقد الديني، وهو الأمر الذي شكل نموذجاً مميزاً ومشرفاً في الأداء السياسي، وجعل تلك المؤسسات الأربع تستحق بجدارة جائزة نوبل بعد ان قادت الحوار الوطني وأوصلته الى بر الأمان، وقدمت بحسب حيثيات منح الجائزة بديلاً سياسياً سلمياً لإرساء قواعد التحول الديمقراطي، حقق وفاقاً جنَّب البلاد الانزلاق في مسار العنف، ومكن من مد جسور الحوار بين قوى المجتمع، واثبت فاعلية هذا المجتمع في تشكيل الرأي العام وعلى التغيير وانجاح التحول الديمقراطي.

يا ترى، هل يمكن ان يكون هذا النجاح لقوى المجتمع المدني التونسي بمثابة رسالة للمعنيين في الدول العربية، يتقبلونها برحابة صدر، يتفهمون مغزاها، فهي رسالة وبشكل لا لبس فيه تقول انه لا بد من النهوض بواقع مؤسسات مجتمعنا المدني، وانه ليس من حل لمشاكلنا التي تضربنا في العمق، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، الا بمجتمع مدني حقيقي، غير مكبل بالقيود، وغير مهدد بالالتباسات المفتعلة والتفاسير المتآمرة عليه والمشككة فيه، لا يستخدم كإسفنجة لامتصاص الاعتراضات والشكاوى، ولا يواجه بالشك والريبة والمكائد والشبهات والتهديد من السلطة، الرسالة تقول أيضاً بانه لا فائدة من منظمات مجتمع مدني صورية، او هشة، او صنيعة انتهازيين يظهرون كأبطال، او جماعات اصحاب المصالح يستهدفون الدعاية والشهرة والإعلام والمال تصرف اهتماماتها في الشكليات وأرخص الاهتمامات، وجعل هذه المنظمات «تحت الطلب»، او تحت هيمنتها او تحت ارادة الغير، وكأنها قاصرة او ناقصة أهلية، همهم امتيازات ومصالح خاصة وان يكون لهم حضور، وان يتصدروا الصفوف والواجهات، لانه من دون مؤسسات او جمعيات او نقابات او اتحادات يهيمنون عليها، ويسيرونها كيفما شاءوا لا مكانة لهم ولا «رزة» وهم في منطق الناس لا اعتبار لهم رغم انهم يقدمون انفسهم في ثوب الوطنية..!!

هل يمكن ان تفهم الرسالة في الدول العربية على ذلك النحو، وهل ندرك حقاً بان العلاقة الصحية التكاملية بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني أمر في غاية الإلحاح والأهمية، وانه من الخطأ ان نكرر دائماً على مسألة الشراكة مع هذه المؤسسات من غير إدراك ان مضمون علاقة الشراكة يفترض وجود روابط التكامل والتعاون والتنسيق، كما يشترط توفر سمات الندية والاستقلالية لكل من طرفيه إزاء الآخر.. وعلى هذا الأساس لا بد من إدراك ان وجود المجتمع المدني الفاعل والمؤثر في كل موقع وقطاع، يعني وجود دولة القانون والديمقراطية، والمشاركة السياسية، وبناء المواطنة وتحقيق التلاحم والانتماء الوطني. وكذلك إدراك بان المجتمع المدني هو مضمون الدولة الحديثة، والدولة الحديثة شكله السياسي، وهما معاً يشكلان النظام الديمقراطي.

عدم إدراك تلك الحقيقة معضلة، من المؤكد انه حان أوان مواجهتها، والبدء بعملية نهوض حقيقي لواقع مؤسسات المجتمع المدني بامكانياتها الخلاقة وقواها الحية، نهوض لا يهمش المجتمع المدني ولا يغيبه ولا يجعله مستباحاً، او كماً مهملاً خارج نطاق الفاعلية والتأثير، وسيكون من الخطأ الفادح ان يصبح هذا الهدف فرضية وهمية رغم انه بات مهماً إيلاء «الأوهام» قسطاً من التأمل الجدي..!!
 
 
حرر في:   20  اكتوبر 2015

اقرأ المزيد

البوصلة الفلسطينية


الموقف من فلسطين، ومن حق شعبها في العودة وإقامة دولته المستقلة، هو المعيار الذي به يُقاس اتجاه بوصلة موقفنا العربي: حكومات وقوى وتشكيلات سياسية، ولا حاجة لبذل جهد كبير لرؤية أن العرب أضاعوا بوصلتهم، ففلسطين التي طالما وصفت بقضية العرب المركزية كفت عن أن تكون ذلك بالنسبة لهم، وقد نجاسر بطرح السؤال: هل كانت هي حقاً كذلك بالنسبة لهم يوماً؟

العالم العربي غارق في الحروب والفتن والاقتتال الأهلي، وباتت الأراضي العربية مستباحة لجحافل الإرهابيين والتكفيريين والقتلة الآتين من كل حدب وصوب، ليمعنوا في البشر قتلاً وذبحاً وسبياً وتهجيراً، وفي الحجر تدميراً وحرقاً، وتصفية ما في هذه المنطقة من حضارة وثقافة وتراث، فيما كبرى الدول تصفي الحسابات، فيما بينها، على أراضينا العربية بالذات، كأن قدر هذه المنطقة أن تكون مسرح اختبار الإرادات لها.

لقد تحقق للعدو الصهيوني الكثير مما كان يحلم به، لا بل وخطط له وشجع عليه: إغراق المنطقة في الفوضى وحمامات الدم، وحروب الطوائف والقبائل والملل، لينعم هو بالاستقرار والطمأنينة، فالكل منشغل بنفسه، ولا وقت لأحد لأن يدير وجهه نحو فلسطين.

لكن وسط هذا الظلام كله هناك الاستثناء العظيم، شعب فلسطين ذاته، الذي أصاب زعيمه الراحل ياسر عرفات كبد الحقيقة حين وصفه ب«شعب الجبارين»، الذي علمته التجربة المرة ألا يعول على البلدان العربية وألا ينتظر نجدتها، وعمَّقَ الواقع العربي السوداوي الراهن من قناعة الفلسطينيين هذه، فخرجوا بصدور عارية، وبقبضات الأيدي وحدها، كما عهدناهم طوال عقود، وكما أبهروا العالم كله في انتفاضيتهم الشعبيتين، الأولى والثانية، يواجهون آلة القتل الصهيونية في القدس وفي أراضي الضفة الغربية وغزة، وحتى في الأراضي الفلسطينية التي يقيم عليها العدو الغاصب كيانه منذ عام 1948.

الشعب الفلسطيني هو استثناؤنا العظيم في لحظتنا الكالحة، وهو يتصدى وحيداً لتهويد القدس والضفة الغربية كاملة بتوسيع الاستيطان بنطاقات غير مسبوقة، لينجز العدو بأسرع وتيرة مخططه في سد الباب بوجه أي إمكانية فعلية لقيام الدولة الفلسطينية، معولاً على أن كل الظروف باتت مؤاتية له بعد أن عمَّ الخراب المنطقة.
أمرٌ واحد غير مؤاتٍ للعدو، ولن يكون مؤاتياً يوماً ما، إنه الشعب الفلسطيني السابق في البصر والبصيرة للجميع، بمن فيهم قادته، وهو يصنع أسطورةً كبرى، أسطورة حية من لحم ودم ودموع، أسطورة شعب وهب الحجر السر والسحر وعبأه بالنشيد.
 


حرر في: 15/10/2015

اقرأ المزيد

حماس أمريكي‮ ‬لافت لمؤتمر باريس لتغير المناخ


كما توقعنا في مقال سابق، كلما اقترب موعد انعقاد مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين  ( Conference of Parties) في باريس (من 30 نوفمبر/‏‏تشرين الثاني الى11 ديسمبر/‏‏كانون الأول 2015) كلما ارتفعت وتيرة التحشيد الأمريكية والأوروبية من أجل ضمان خروج المؤتمر بوثيقة اتفاق جديد لتغير، المناخ «بحلة جديدة» تحل محل بروتوكول كيوتو الذي انتهت مدة سريانه في نهاية عام 2012. ففي الثالث من أغسطس/‏‏آب 2015 أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع وكالة حماية البيئة الأمريكية (  EPA) خطة الطاقة النظيفة ( Clean Power Plan) كأول خطة على المستوى الوطني تضع معايير محددة تستهدف خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في محطات الطاقة الكهربائية بنسبة 32% بحلول عام 2030 مقارنة بمستوياتها في عام 2005. على أن يبدأ تنفيذ الخطة في سبتمبر 2016? ولكن مع إعطاء الولايات فترات سماح تقدم خلالها عروض تخفيف ( Mitigation) مبدئية وتطلب بموجبها تمديد لمدة سنتين لتقديم عروضها النهائية. وقد تمت تعبئة الإعلام الأمريكي للترويج والدعاية لخطة الرئيس أوباما والحديث بزهو عن ريادة الولايات المتحدة للجهود العالمية المكرسة لمكافحة آثار تغير المناخ. وأدرج الإعلام الأمريكي هذه الخطة ضمن مجموعة المبادرات الأمريكية الرامية لخفض الانبعاثات بنسبة 71% في عام 2020 مقارنة بمستواها في عام 2005 ارتفاعاً إلى 26-28% في عام 2025.

لم يكد يمضي شهر على إعلانه «خطة الطاقة النظيفة» حتى قدم الرئيس أوباما نفسه من جديد كأكبر مبادر في العالم لمكافحة آثار تغير المناخ، وذلك بقيامه بزيارة استعراضية في الثاني من سبتمبر/‏‏أيلول 2015 إلى القطب الشمالي هي الأولى لرئيس أمريكي من أجل جذب الأنظار في أمريكا والعالم للتغيرات المناخية وتأثيرها في العالم. حيث أطلق الرئيس الأمريكي من هناك تحذيراته من مخاطر تغيرات المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض وذوبان الجبال الجليدية التي تؤدي إلى ارتفاع مستوى المحيطات، وقال إن عدداً من المناطق في أمريكا قد لا يكون عليها التعامل الآن مع هذه المسائل، لكن سيكون عليها القيام بذلك لاحقا، وما حدث هنا هو بمثابة جرس إنذار لأمريكا، ويجب أن يكون جرس إنذار للعالم أيضاً. كما نُظّم بالتوازن مؤتمر دولي كُرِّس خصيصا لمناقشة قضايا القطب الشمالي تحدث فيه الرئيس أوباما قائلاً «إن الولايات المتحدة تعترف بأنها تلعب دوراً كبيراً في زيادة درجات الحرارة على كوكب الأرض وتتقبل مسؤوليتها للمساعدة في معالجة هذه المشكلة. وأضاف أن «المنطقة القطبية الشمالية تشعر بالفعل بتأثيرات تغير المناخ»، مشيراً إلى أن ألاسكا تشهد «أسرع معدلات تآكل الشواطئ في العالم، وهو ما يهدد القرى الساحلية». ولربما لاحظ المتابعون للتطورات المتسارعة بشأن مؤتمر الأطراف المقبل في باريس ولسير التحضيرات الجارية له، أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما راح يكثر من تصريحاته حول تغير المناخ وتعمد رفع سقف التوقعات حول مؤتمر باريس المرتقب، حتى ليخال للمرء أن الرئيس أوباما يريد أن يكون فارس مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين، حيث يتطلع إلى التألق من خلال تقديم أداء استعراضي مبهر للمبادرات التي اتخذها في بلاده كرائد للمرحلة الثانية الجديدة من البرنامج العالمي لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. مع أنه معلوم لدى الجميع أن أمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم تقريبا (معها في الحقيقة فقط أفغانستان والسودان) التي رفضت الانضمام إلى بروتوكول كيوتو، وفجأة تظهر اليوم كأكثر المتحمسين لنجاح مؤتمر باريس. وما من تفسير لذلك إلا لأنها تريد الانتهاء سريعا من صداع بروتوكول كيوتو، رغم انتهاء سريان مفعوله، وإحلال بديل له سريعا أيضاً ليكون سارياً على جميع الدول، المتقدمة والنامية على حد سواء، كما كانت تصر على ذلك وما زالت، غير معترفة بالتطبيق العملي لمبدأ المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة للدول في الانبعاثات
(Principle of Common But Differentiated Responsibilities) المنصوص عليه في الاتفاقية الإطارية الدولية لتغير المناخ.   
 ومن فرط حماسها هذه المرة لاتفاق جامع شامل، بادرت الولايات المتحدة لتعجيل إرسال «مساهمتها المعتزَمة والمقرَّرة وطنيا» (Intended Nationally Determined Contributions – INDCs). ولكنها اختارت أن تلزم نفسها فقط بمسؤولية الانبعاثات المصدرة اعتبارا من عام 2005 وليس عام 1990 كسنة أساس كما هو منصوص عليه في بروتوكول كيوتو. أي أنها غير مسؤولة حيال انبعاثاتها للخمسة عشر عاما السابقة لسنة الأساس التي اعتمدتها  2005.
 
الأمم المتحدة أيضا تم تشغيل ماكنتها بكامل عدتها لممارسة أكبر حملة تحشيد لإنجاح مؤتمر باريس، وأمينها العام بان كي مون يتواصل بشكل مباشر عبر الخطابات الرسمية مع زعماء البلدان النامية لحثهم على المشاركة الشخصية في أعمال المؤتمر من أجل إحراج وفودها الفنية وإجبارها على الموافقة على القضايا الخلافية الرئيسية (التخفيف وتوزيع حصص التخفيف وفترات السماح والتكيف وتدابير الاستجابة والتمويل ونقل التكنولوجيا وبناء القدرات. كريستيانا فيغيريس ( Christiana Figueres) السكرتيرة التنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ التي توافي بان كي مون أولاً بأول بآخر ما يستجد من تطورات بشأن التحضيرات الواسعة لمؤتمر باريس، هي الأخرى لا تكاد تتوقف عن التصريحات والفعاليات التي لا تخلو من العلاقات العامة الموجهة لتضخيم أهمية المؤتمر وخروجه باتفاق ملزم لجميع الدول الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (عددها 196دولة بما فيها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وجزر نيوي (  Niue) المرجانية وجزر كوك القريبة منها والتابعة جميعا لنيوزيلندا والاتحاد الأوروبي). في المؤتمر الصحفي الذي عقدته فيغيريس في بون في ختام الاجتماع الثالث التحضيري الذي عقد في بون خلال الفترة من 31 أغسطس/‏‏آب إلى 4 سبتمبر 2015 أكدت للصحفيين في لهجة مشددة «بأننا نريد في باريس نص اتفاق قانوني وليس إعلاناً سياسياً». كما أكدت بأن المؤتمر سيحظى بتمويل سخي وان فرنسا التي كلفت وزير خارجيتها لوران فابيوس لرئاسة مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين، أظهرت كرمها في تمويل تنظيم وانعقاد المؤتمر، وانه سيتم تمويل حضور الدول النامية الفقيرة والأقل نموا لاجتماع بون التحضيري الثالث الذي سيعقد خلال الفترة من 19 إلى 23 أكتوبر/‏‏تشرين الأول المقبل». كما وجهت الشكر للجزائر على تقديمها في ذلك اليوم “مساهمتها المعتزَمة والمقرَّرة وطنيا”.
 
 
حرر في 18/10/2015

اقرأ المزيد

وحدة ثقافة الخليج العربي


ساجلتُ في كتابات سابقة، منتقداً، لا بل ورافضاً، مفهوم الهُوية الخليجية، خاصة إذا انطوى على نية مضمرة أو معلنة لإظهار شيء من التمايز أو حتى الافتراق عن عمقنا العربي، فلا أرى في هذه المنطقة إلا هوية عربية، تمتد عميقاً في التاريخ، وهي ما زالت تغتني بروافد الثقافة العربية الأخرى، إما بحكم تواصلنا وعيشنا المشترك مع أشقائنا العرب، أو بما تحمله وسائل المعرفة إلينا من إبداعهم، وغني عن القول إننا، بدورنا، نقدم مساهمتنا في هذه الثقافة العربية، كوننا أحد روافدها.

ولسنا ننكر أن كل منطقة من المناطق العربية تمتلك خصوصيات معينة تُميزها في بعض الأوجه عن المناطق الأخرى، وليس هناك ما يعيب في البحث في الخصوصيات ومحاولة فهم خلفياتها التاريخية والثقافية والنفسية، لكن ما نحن بصدد نقده عند الحديث عن الهوية الخليجية هو الميل المَرضي للتمايز عن باقي الشعوب التي تجمعنا وإياها الهوية العربية المشتركة، فإذا ما استمرأنا الحديث عن هُوية خليجية، سنجد أنفسنا بعد حين مشغولين بتفكيك هذه الهُوية ذاتها إلى مجموعة هويات فرعية، ليدور الحديث عن هوية كويتية وأخرى سعودية وثالثة إماراتية ورابعة عمانية.. إلخ، في اتجاه إبراز خصوصيات وفرادة كل هوية من هذه «الهويات»، فطالما ارتضينا تفكيك الأصل، سنمضي قدماً في تفكيك المكونات الجزئية، فلا نعود بعد ذلك نبصر الموحد والجامع، وإنما المفرق والمجزئ.

الحق أن ما يتعين علينا إبرازه هو وحدة الثقافة في هذه المنطقة، وبشيء من الإبحار في التاريخ الثقافي القريب سنقف على سيرة عدد من الأدباء والمبدعين الخليجيين الذين يصعب نسبتهم إلى بلد خليجي بعينه.

وفي بواكيره البحثية التفت الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه: «لمحات من الخليج العربي» إلى هذه الحقيقة مُقرراً أنه من المستحيل تجزئة دراسة الحركات الأدبية في الخليج من دون الالتفات، التفاتاً قوياً ومُركزاً، إلى أمثالها من الحركات في الأجزاء الأخرى، ومن لا يفعل ذلك لن يخرج بدراسة منهجية متكاملة سليمة.

والأمثلة على ذلك تترى فالشاعر ابن المقرب العيوني ولد في الإحساء وأقام في البحرين فترات طويلة، وولد خالد الفرج في الكويت لكنه عاش، طويلاً، في البحرين، ومثله فعل البحريني عبد الرحمن المعاودة الذي عاش فترة في الشارقة قبل أن يستقر في قطر، وعاش وعمل الأديب العماني عبد الله الطائي في البحرين والإمارات قبل أن يعود ليستقر في مسقط رأسه عمان.
 
حرر في: 14/10/2015
 

اقرأ المزيد

الوطن.. ونظافة اليد والضمير..


يحتفل العالم وبالتحديد بعد يومين، «15 اكتوبر» باليوم العالمي لغسل اليدين، آخر شعار لهذه المناسبة «نظفوا أيديكم لإنقاذ الأرواح»، والهدف الدائم لهذه الاحتفالية رفع الوعي بأهمية غسل اليدين، وتعميم سلوك يخلق محيطاً خالياً من الفيروسات والأمراض، ولا نعلم ما اذا كانت هذه المناسبة ضمن اهتمامات جهابذة من دأبوا على الاهتمام بالمناسبات الدولية والاحتفاء بها والصرف عليها، ليس من جيوبهم بالطبع، ام ان الظروف التقشفية الراهنة ستفرض صرف النظر عن هذه المهمة الجليلة، علماً باننا في غمرة التذكر والتذكير لن ننسى ان هناك ما تكدس من التجارب من فعاليات واحتفالات، يضاف اليها زيارات وجولات نظمت بمناسبات وعناوين وشعارات مختلفة، أقيمت بأي ثمن، بكل الأثمان من دون جدوى تذكر..!!

 في لسان العرب، النظافة هي النقاوة، وقيل ان النظافة من الإيمان، ولكن دعونا نبتعد عن المفهوم التقليدي للنظافة، وان لا نحصر هذا المفهوم في نظافة اليد، او جمع الأوساخ والنفايات ومظاهر القذارة، وكل ما يمكن بالنهاية ان يرسخ القناعة بان النظافة هي سلوك ووعي وعقلية، دعونا نأخذ المفهوم من منطلق يتعدى المعنى التقليدي، فنظافة اليدين، او نظافة المظهر لا تعني النظافة الكاملة، بل المقصود النظافة في جميع دلالاتها، فهي في هذا السياق تعني النظافة مما يشين، من نهب وسرقة ورشاوى وفساد، وبيع الذمم والمبادئ والقيم والأخلاق، والتفريط في الأهداف الكبرى والصغرى، وتداول الشعارات، لا شيء غيرها، وهي اكثر من ان تحصى، في الإجمال هي شعارات لا تحقق مردوداً يذكر سوى انها تجعلنا نراوح في المكان، وتجعل من هب ودب من الانتهازيين والمنافقين والهتافين يستفيدون من وضع يخلق انطباعاً عن العمل والانجاز، والتذرع بانه ليس في الامكان ابدع مما كان..!!

النظافة، هي نظافة الذمة، والتي في ضوئها لا يخشى المرء من المحاسبة، ليس محاسبة القانون فقط، رغم ان البعض لا يحسب له حساباً، بل محاسبة الضمير، حين لا يلقى الضمير في سلة المهملات تكون النفوس محصنة من الشهوات والمخالفات والتسيب واللامبالاة، او ما يشكل سلوكيات غير مسؤولة تواجه في المقابل بمنظومة القيم التي تجعل الانسان متمسكاً بطهارة اليد والضمير، وصامداً امام الخلل الرهيب الذي بات يصيب هذه المنظومة في الفكر والمواقف والتعاملات والسلوك، مما ترك اثاراً عميقة في واقعنا وعمق من مظاهر الجنوح والانفلات واستشراء الفساد، وهذا القسط الوافر من الرداءة والسواد الضمائري المتمادي بغير انتهاء، وكأن ثمة من يصر على المضي للانحطاط المردوم تحت أكوام الكثير من الممارسات واكوام من الشعارات المنمقة، واحسب ان هذا أمر لا يحتاج الى اجتهادات. 

النظافة، تعني أيضاً ضمن ما تعنيه، نظافة الانسان من المتاجرة بالدين، بهموم الناس، بالقيم والمبادئ، بالتوقف عن تغييب الحدود بين الخطأ والصواب، او الحلال والحرام، بعدم شرعنة الرشوة بتسميتها اكرامية، او عمولة او مكافأة، واستباحة كل ما يعد إثماً ولا شرعية له، بعدم استغلال المنصب، بعدم الإساءة لكل صاحب كفاءة او موهبة او محاصرته او تحجيمه او تهميشه، او تجاهله، وضرب كل عناصر التميز والتفوق، النظافة، نظافة الانسان ونظافة الضمير تعني أيضاً القدرة على عدم الانجرار وراء كل ما يضاعف من هموم الناس ويعمق من حال هذا الواقع المأزوم بكل تجلياته، كما تعني القدرة على إرادة الفعل، والقدرة على تجاوز المظاهر والشكلانيات التي تضعف الرؤية، وتجعلنا نضيع في متاهات الوقائع المستجدة والضياع في متاهاتها، تعني عدم طأفنة كل شأن وطني وعدم الاستسلام الى من يريد ان يجعلنا دمى يحركها التعصب والنفس الطائفي وكل ما يفتك بواقعنا ويرسم صوراً جارحة انسانياً ومدمرة سياسياً، اظن بانه يجب ان تكون لدينا بقايا همة تسمح لنا بالنظر بان النظافة تشمل أيضاً نظافة العقول والقلوب وما ينتج عن ذلك من نظافة التفكير والسلوك والضمير – نعود اليه مجدداً – فهو وحده الذي يؤنب ويذكر بفداحة الاخطاء، هو الذي يميز بين الخطأ والصواب، بين ما هو حق وباطل، بين ما هو خبيث وطيب، بين العدل والظلم، بين الفهم للمسؤولية تجاه الوطن والتفريط في هذه المسؤولية، والمشكلة فيمن يعيش أزمة ضمير، حينها نجد ضمائر مستترة لا محل لها من الإعراب، او ضمائر ميتة لا خير فيها، اصحاب هذه النوعية من الضمائر لا يتورعون عن الإتيان بتصرفات مشينة يندى لها الجبين خجلاً، مارسوا السفاهات والموبقات بحق الناس والوطن، وكانت لهم إسهاماتهم في خلق واقع مأساوي كامل المواصفات والأوصاف، واقع لا يتوقف عن اعادة تدوير نفسه، منهم من ظهر لنا ولازال في صورة التقي الورع، او المفكر او الناشط او الكاتب او السياسي، وهناك من يستظل ويحتوي بغير ذلك من التسميات، واحسب ان كثر من الناس باتوا مدركين حيال هؤلاء بان مظاهر الإيمان ليست دليل تقوى، والادعاء بحب الوطن ليس دليلاً على حب الوطن، وليس من أوهمنا منهم بانه انسان وطني في أسواق البورصة الوطنية هو كذلك فعلا، الوطنية عندهم لهم فيها مآرب اخرى، وهؤلاء ينطبق عليهم القول انهم لا يعرفون من الوطن سوى جهلهم به..!! 

اختم بسؤالين لا ادعي البراءة في طرحهما، الاول هل يمكن ان نكون قادرين على أخذ العبر والدروس وتجنب الاخطاء والسير نحو التغيير المطلوب، تغييراً في الظروف وفي المناخ والافاق بما يلبي التطلعات الحقيقية لأبناء الوطن و تنظيف ما يزخر به واقعنا من خطايا وأخطاء والتي بات أمر مراجعتها ضرورياً الآن..؟

السؤال الثاني: هل سنحتفي باليوم العالمي لنظافة اليد بعد يومين أم لا..؟!!
 
حرر في:   13  اكتوبر 2015

اقرأ المزيد

الثقافات الفرعية بين التعايش والتوتر


ليس تعدد الثقافات في المجتمعات ظاهرة خاصة بالمجتمعات النامية، بما فيها بلداننا العربية الإسلامية، التي باتت اليوم ساحة صراع، دموي في الكثير من الحالات، بين ممثلي هذه الثقافات، فالعديد من البلدان الأوروبية، لا بل والولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، هي ذات مجتمعات متعددة الثقافات والتحدرات الإثنية والدينية، وحتى هذه الدول «المتقدمة» شهدت حروباً على خلفيات دينية وثقافية، وما زالت تشهد أوجه توتر خفي بين التكوينات الثقافية والعرقية فيها.

وفي تشخيصه للثقافات الفرعية لاحظ مؤلف «التحليل السياسي الحديث» روبرت دال حقيقة أن نيوزيلندا والسويد والنرويج وأيسلندا، على سبيل المثال، تتمتع بتجانس ثقافي شبه تام يفسر المستويات المنخفضة للصراع فيها، وعلى النقيض من ذلك نجد أن الثقافات الفرعية التي لا حصر لها في الهند، مثلاً، تفسر ارتفاع مستوى التجاذب بين هذه الثقافات داخلها.

وبالقياس لما يجري اليوم في العالمين الإسلامي والعربي يبدو مثال الهند هنا غير موفق، فرغم كثرة الثقافات الفرعية فيها وحالات التجاذب الناجمة عن ذلك تبدو الهند حالاً متقدمة في احتواء أو استيعاب هذا التجاذب، والسبب في ذلك عائد في تقديرنا إلى استقرار الممارسة الديمقراطية في هذا البلد مهما شابها من عيوب، وهو الأمر غير المتوفر في عالمنا العربي.

شيء قريب من هذا القول نستشفه من المقارنة التي يعقدها الرجل بين حالي بلجيكا وسويسرا، فإذا كان مستوى التجاذب أو الصراع بين الثقافات الفرعية في الأولى أكثر حدةً، فإن انخفاضه في الثانية عائد إلى نجاح سويسرا، رغم وجود أربع مجموعات لغوية فيها وديانتين وولاءات إقليمية قوية، في تجنب أي تمييز خطر بين الثقافات الفرعية فيها.
ولا يمكن تجاهل النموذج الأمريكي في هذا المجال. الولايات المتحدة الأمريكية نجحت نسبياً فقط في تجنب الصراعات بين شعب يتسم بكل هذا التنوع، لكن لا يمكن غض الطرف عن التمييز ضد الأمريكيين من أصل إفريقي، حتى بعد تصفية نظام العبودية، وميراث هذا التمييز كان سبباً مباشراً للتوترات الداخلية حول حقوق الأمريكيين الأفارقة.

وتبدو مفردة التمييز تحديداً، هي المدخل الصحيح لمقاربة هذه المسألة، فحين تنجح المجتمعات في التغلب على هذا التمييز، بصوره كافة، بين مواطنيها، وتؤمّن الحقوق المتكافئة للجميع، فإنها تنجح أيضاً في خفض مستوى التوترات، الحادة أو الخفية، إلى أدنى مستوى، ويحدث العكس تماماً، حد بلوغ الانفجارات الدامية، حين تخفق في ذلك.
 
 
حرر في:  13/10/2015

اقرأ المزيد