المنشور

قصة “مئة عام من العزلة”


في أحد أيام 1965 وكان يقود سيارته بين مدينة وأخرى في المكسيك، حيث كان يقيم، لمعت في ذهن غابرييل ماركيز فكرة روايته «مئة عام من العزلة». أرجأ كتابة الرواية طويلاً. شيء ما غامض كان ينبئه أنه ليس جاهزاً لأن يفعل ذلك. كان يخاف أن يبدأ، وكان عليه أن يقهر هذا الخوف، عن ذلك قال: «كان بين عمق الموضوع وإمكاناتي الكتابية الهزيلة مدى كبسطة جناحي طائر».

لكن الفكرة كانت تلح عليه. لا تعجبه الفكرة التي لا تقاوم الإهمال طويلاً، فإذا كانت جيدة ستظل تؤرقه ولا يغدو هناك مفر من كتابتها، وحين أزفت تلك اللحظة كان عليه أن يتفرغ إليها كلياً. ترك عمله ككاتب سيناريو. تخلى عن الكتابة الصحفية، وابتعد عن رفاق اللهو وأوقف جولاته اليومية على النوادي الليلية.

استغرق الأمر منه سنتين كاملتين كان خلالهما يعمل بحماسة شديدة. ولأنه لم يعد يعمل تراكمت عليه الديون وتمكنت عائلته من العيش بفضل مساعدات الأصدقاء الذين كانوا يدركون أهمية ما يكتبه ماركيز.

حين انتهى من كتابتها أطلع عليها زوجته لتأخذها إلى الناشر. لم تقرأ الزوجة المخطوطة، ومع أنها لم تشك بنجاح زوجها خلال سنتي الضيق المادي، إلا أنها قالت بوجل: «ماذا لو رفضت روايتك بعد كل الذي عانيناه». لكن الرواية نشرت وحققت الصيت الذي نعرف وبقية الحكاية معروفة.

هي الرواية الوحيدة بين رواياته التي تعهد بنشرها قبل أن ينتهي من تأليفها. هو يذكر جيداً أن مسودات رواياته الأولى كانت منسية، مهملة في جوارير بيته طوال سنوات. إحدى المخطوطات بعث بها إلى صديق سجين أحالها بدوره إلى ناقد أضاعها، وأخرى بعث بها إلى صديق يقيم في باريس كي يقرأها فنشرها دون استئذانه. وثمة مخطوطة كانت عبارة عن ملف أوراق ربط بربطة عنق اكتشفته زوجته، آخر الأمر، منسياً في حقيبة.

«مئة عام من العزلة» من وجهة نظر كاتبها تشبه لعبة ورق معقدة، فقد كان يطور تركيبها في أعماله السابقة. رموزها الأدبية متغلغلة في كتبه الأولى. وبرأي النقاد أن كل مؤلفاته قبل هذه الرواية المفصلية مهمة، ويعاد طبعها بأعداد هائلة، فحتى تلك المؤلفات كتبت بدقة وإحساس وعناية خطط لها وطورها، غير أنه كان عليه أن يتوجها بتحفة فنية، وأن يغلق دائرة ماكوندو بفيض خيال أخاذ، فجاءت تلك الرواية.
 
حرر في:  22/10/2015
 

اقرأ المزيد

الصراع الأمريكي – الروسي في المنطقة


بعدما تزاحموا، حد الاحتكاك، على الأرض، ها هي الأجواء العراقية والسورية تزدحم بهم. ولم يعد صراع الكبار على المنطقة، مقتصراً على الاشتباك الدبلوماسي والإعلامي شبه اليومي، إظهاراً لتصميمهم على تمسك كل منهم بالخطوط الجديدة للمصالح التي رسموها في حمأة الفوضى التي أشاعوها في المنطقة منذ العام 2011.

اليوم، وبعد أن كانت واشنطن تنفرد بحيازة امتياز تواجدها العسكري على الأرض وفي الأجواء العراقية، وتنفرد تقريباً بالأجواء السورية منذ أكثر من عام (حين بدأت طلعات الاستطلاع الأمريكية في شهر أغسطس/آب من العام الماضي) للإغارة على مواقع تنظيم «داعش» في المدن والمناطق السورية التي يحتلها، دخل اعتباراً من أواخر شهر سبتمبر/أيلول الماضي لاعب جديد انضم لمزاحمة الأمريكيين في الأجواء السورية، إنه سلاح الجو الروسي الذي اقتحم المشهد العسكري السوري بقوة أزعجت وأغضبت الأمريكيين. ففي بداية الأمر كان الروس يمارسون نفوذهم ويخوضون الصراع في سوريا بواسطة الدعم غير المباشر للنظام السوري، أما الآن فإنهم القوا بكل ثقلهم من أجل تعويم النظام السوري وإطلاق تسوية سياسية للأزمة السورية، على ما هو ظاهر على الأقل من تصريحات كبار مسؤوليهم.

وهكذا أصبح القطبان الكبيران يتواجدان وجهاً لوجه على الساحة السورية بأهداف متضادة حد التصادم. ففي حين تسعى واشنطن منذ فبراير/شباط 2011 لإطاحة النظام السوري الذي يقوده بشار الأسد، فإن موسكو تعمل منذ ذلك الحين على عدم تمكين واشنطن من تحقيق هدفها. واللافت أن روسيا دخلت على خط المواجهة تحت العنوان نفسه الذي ساقته واشنطن لبدء طلعاتها وغاراتها داخل الأراضي السورية، وهو محاربة «داعش». ولكن سرعان ما تبين افتراق القطبين في استهدافاتهما. ففي حين تقتصر غارات الأمريكيين على مواقع منتخبة لتنظيم «داعش»، فإن الروس وسعوا مروحة استهدافاتهم لتشمل، إضافة إلى «داعش»، ميليشيا فرع تنظيم القاعدة في سوريا الموسوم بجبهة النصرة، وكل التنظيمات الإسلامية المسلحة التي تقاتل النظام السوري. فكان أن احتجت الولايات المتحدة على ذلك وطالبت موسكو بوقف غاراتها، واعتبر رئيسها باراك أوباما أن موسكو ستمنى بالفشل في سوريا، غامزاً من قناة تصعيد الدعم العسكري الأمريكي للجماعات السورية المسلحة بهدف إفشال الغارات الروسية.

ولكن الذي حدث أن قطبي الصراع اضطرا، على ما يبدو، لعقد جولات تفاوضية من أجل التوصل إلى بروتوكول لتنسيق طلعاتهما الجوية في الأجواء السورية لتفادي الاصطدام، وهو ما تم التوصل إليه بالفعل بعد ثلاث جولات من المباحثات. مع أن كثافة طلعات الطيران الحربي الروسي في الأجواء السورية، تجعل من الصعب على الطيران الأمريكي أو الطيران «الإسرائيلي» الذي دأب على الإغارة على مواقع الجيش السوري من آن لآخر، التحليق بحرية في الأجواء السورية من دون الاصطدام العرضي بالمقاتلات الروسية. هو اتفاق محض تقني، كما يقول الطرفان، ولكن ليس من دون مدلول سياسي يتعلق بأفق التسوية المرتقبة بينهما بشأن الملف السوري، إنما في إطار صراع النفوذ المتجدد بينهما في الشرق الأوسط. فالقطبان يريدان على نحو بائن تجنب المواجهة بينهما، ولذلك فقد تفاهما على شطب أي احتمال لحدوث تصادم «عرضي» بين طيّاريهما في الأجواء السورية، واضعين المنافسة بينهما في الإطار المقبول لمصالحهما وتوفيقها لاحقاً.

ولربما تكون هذه أول حالة فريدة يسجلها تاريخ الحروب، من حيث تواجد طيران حربي في أجواء بلد ثالث لقطبين متضادين ومتصارعين على الظفر به كمنطقة نفوذ مغلقة للفائز به. وهي مفارقة لها أكثر من دلالة استراتيجية كونية، ربما تكون إحداها إعادة تشكيل، جزئية أو كلية، للخريطة الجيوسياسية للمنطقة.

وما دمنا في إطار الفرضيات غير المؤسسة على بيانات ومعلومات رصينة، يصبح من نافلة القول، والحال هذه، وربما تأكيداً لذلك، أن المنافسة بينهما لا تقتصر على سوريا، وإنما بدأت تمتد إلى العراق. صحيح أن الولايات المتحدة قد سبقت روسيا إلى العراق تحت يافطة محاربة “داعش”، ولكن روسيا تعتبر أن الولايات المتحدة قد استحوذت على إحدى أكثر الدول العربية صداقة وشراكة مع روسيا بعلاقات تمتد أربعة عقود ونصف العقد (منذ قيام النظام الجمهوري في العراق في عام 1958 حتى الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله في عام  2003 . ولذلك ما إن شاهدت حكومة بغداد نتائج «العمل» الروسي في سوريا حتى أرسلت إشارات إلى روسيا تطلب فيها المساعدة نفسها التي حصلت عليها سوريا، بإعراب رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في أول أكتوبر/تشرين الأول الجاري أنه يرحب بالتعاون مع أي جهة تساعد على الحرب ضد تنظيم «داعش» في بلاده. فسارعت موسكو لتلقف هذا الطلب والرد الإيجابي عليه، ما أغضب واشنطن التي كانت أعربت عن استيائها لبغداد من استضافتها مركز معلومات استخباراتي عراقي- سوري- روسي- إيراني مشترك. وكي تقطع الطريق على الروس قامت واشنطن بإعادة استعراض جهدها العسكري في محاربة «داعش» في العراق وأرسلت على وجه السرعة يوم الثلاثاء 20 أكتوبر رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية الجنرال جوزيف دنفورد إلى بغداد، الذي أعلن من هناك أن بلاده “تستبعد فرص أي حملة جوية روسية في الأراضي العراقية في المستقبل القريب”.

فارتفعت حرارة الصراع والتنافس بين القطبين. الولايات المتحدة، وبعد تقاعس أضجر الحكومة العراقية، أصبحت فجأة في سباق مع الوقت لتمكين القوات العراقية التي دربتها من تحرير مدينة الأنبار هي بنفسها من دون مشاركة سلاح الجو الروسي ولا الحشد الشعبي الذي تدعمه إيران. بالمقابل فإن إيران ومن خلال الحشد الشعبي ودعم سلاح الجو الروسي، تريد أن تنتزع الأضواء كمحرر لكافة المناطق العراقية بعد تحرير مدينة صلاح الدين بمشاركة الحشد الشعبي.

في سوريا أيضاً، يتكرر السيناريو نفسه، فبعد أن دخل الروس على خط «الأجواء» السورية واختطفوها من الأمريكيين الذين كانوا يجوبونها بدعوى محاربة «داعش»، لم يجد الأمريكيون من يتكئون عليه بعد تبخر القوات التي دربوها وخصصوا لها 500 مليون دولار، لم يبقَ منها موالياً سوى خمسة، بشهادة أحد كبار مسؤوليهم العسكريين أمام إحدى لجان الكونغرس – لم يجدوا سوى وحدات الشعب الكردي للسيطرة على بعض المناطق لتقوية موقفهم التفاوضي قبل أن ينجح الروس في تمكين الجيش السوري من دحر الميليشيات التي عول عليها لإطاحة النظام السوري، وإعادة بسط سيطرته على الأراضي السورية. ولكن التنافس شمل حتى هذه «التفريعة» في الكعكة السورية، حيث سمح الروس لأكراد سوريا بفتح ممثلية لهم في موسكو.

الأحداث تجري تباعاً وسريعاً، وهي تؤذن، على ما هو ظاهر على الأقل، بقرب تسوية وإغلاق الفصل السوري من “الربيع العربي”.
 
حرر في: 30/10/2015

اقرأ المزيد

ديستوفسكي وتولستوي ثانيةً


على صلةٍ بما تناولناه الأسبوع الماضي حول سبب عدم التقاء تولستوي وديستوفسكي، مع أنهما عاشا في الوقت نفسه وفي المكان نفسه، وقعتُ، بالمصادفة البحتة، على إشارة شديدة العمق أوردها المفكر المغربي عبد الله العروي في حوار مطوَّل قديم معه تلفت النظر إلى أن ما بين الرجلين من ودٍ مفقود يتخطى حدود الغيرة.

في رواية «المراهق» يحكي ديستوفسكي قصة فتى ولد سِفاحاً من أحد النبلاء تنكر له، فتبناه قن كان في خدمة عائلة هذا «النبيل» الذي ترك روسيا وهاجر إلى أوروبا، لكنه ما لبث أن عاد إلى وطنه ثانية لتمر العلاقة بينه وبين الابن الذي تنكر له، بمسار ينقلها من التنكر إلى الاعتراف، ومن الكراهية إلى الحب.

تنكر هذا «النبيل» لابنه هو تنكر المثقف لأمه روسيا بسبب تأخرها المادي والثقافي يومها عن الغرب، واعترافه المتأخر بابنه هو أوبةٌ إلى أحضان الوطن وإدراك مكانته في تاريخ الإنسانية. واستوقفت العروي حوارية في الرواية يتناول فيها ديستوفسكي كاتباً لم يسمه، لكنه لم يكن سوى غريمه تولستوي، بعبارات تنم عن سخرية لكنها عميقة ومعبرة.
يقول ديستوفسكي على لسان إحدى شخصيات الرواية: «ما يعجبني عند مؤرخ النبلاء (يقصد تولستوي) أو بالأحرى عند أبطاله هو الجمال، ذلك الجمال الذي تبحث عنه باستمرار حسب قولك.

يأخذ الكاتب المذكور النبيل منذ طفولته وصباه فيصور حياته داخل أسرته، يتابع خطواته في هذه الدنيا، يصف أولى مسراته وأول أحزانه، وكل ذلك بأمانة لا تجحد وصدق لا ينكر.

إنه بحق محلل النفس «النبيلة». ولا يسع القارئ إلا أن يعترف بأنه صادق ومحق، وأن يغار منه.

نعم يغار منه، لكن ما أكثر أطفال روسيا الذين يفتحون أعينهم على البشاعة والقبح، بشاعة آبائهم وقبح المحيط الذي يعيشون فيه، فيلحق أنفسهم جرح لا يندمل أبداً.

يشعرون منذ الصغر أن الحياة كلها مصادفة وفوضى واصطدام، فهؤلاء يحسدون الكاتب المذكور وأبطاله، بل يعادونهم ويمقتونهم.

في هذا النص نعثر على تمييز ديستوفسكي بين مادته الروائية (البشاعة والتناثر) وبين مادة تولستوي (الجمال والنظام). إنه تمييز مبني على أساس اجتماعي بين الطبقة النبيلة المسيطرة وبين طبقة الفلاحين الأقنان قبل وبعد تحريرهم، حيث تعم الأمية والفقر والتعاسة.

نحن إزاء قامتين عملاقتين عبر كل منهما عن روسيا الغامضة، لكن كل واحد منهما نظر للأمر من زاويته الخاصة، فكانت لكل منهما روسياه.
 
حرر في: 25/10/2015
 

اقرأ المزيد

تلويحة الغيطاني الأخيرة


هي مرحلة تأفل، تودع رموزها واحداً تلو الآخر، لكن إرثهم لا يغيب، ولن يغيب. جمال الغيطاني آخر هؤلاء، الذي غطَّ في غيبوبة دامت أشهراً قبل رحيله، لتحيا روحه في الكتب التي تركها لنا علامة على ذلك الزمن، الذي كان للحياة وللكفاح ضد الهزيمة والانكسار مضامين أخرى، مختلفة، عن مناخ الردة العربية الراهن.

متشائماً ترك الدنيا خلفه، لم تعد السماء هي نفسها، ولا الوجوه، وكأن هذا الشعور القاسي بالخيبة وراء اختياره الرحيل مسرعاً، فيما كان بوسعه أن يبدع أكثر، ويقاوم بعزيمة أشد، ولكن ما لم يقوِ عليه جسد الغيطاني في أشهره الأخيرة، سيقوى عليه الأدب الذي خلفه، والشخوص التي صنعها علامات على رفض الهزيمة، وإصرار على المضي إلى الأمام، حتى لو كانت دون ذلك عقبات وبرازخ.

في مناخ مصر التقدمي في الخمسينات والستينات نضجت شخصية الغيطاني، ليغدو واحداً من مقاومي الطغيان والاستبداد لا في الأدب وحده، وإنما في الحياة أيضاً، وطوال حياته الأدبية لم يكتف الغيطاني بكونه مبدعاً، روائياً وقاصاً وكاتب سيرة، وغائصاً في بحور كتب التراث، وإنما أيضاً شغيل ثقافة، كما تجلى ذلك في إدارته ل «أخبار الأدب»، التي هي، عن حق، من أفضل الصحف الثقافية الأسبوعية في مصر وفي العالم العربي.

كان الغيطاني الأقرب بين أدباء مصر من أبناء جيله إلى العملاق نجيب محفوظ، هو الذي دون ما دار في مجالسه، وحاوره غير مرة حوارات معمقة، مطولة، وحين أوشك، ذات مرة، أن ينهي حواراً ممتعاً مع محفوظ نشره في أحد أعداد «أخبار الأدب»، فاجأه محفوظ بالقول: «لكن لم تسألني عن أحوالي الآن عندما أكون بمفردي في النهار»، وأضاف: «أصلي عاوز أقولك أنا بقضي وقتي إزاي.. عارف أنا باعمل إيه؟».

ثم أنه شرح ماذا يعمل: «أستعيد الأغاني التي أحفظها من أيام سيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم». وقال إنه يحب جداً أغنية عبدالوهاب: «من قد إيه كنا هنا.. من شهر فات ولا سنة».

الرجل الذي حذر من الخوف، هو القائل: «لا داعي للكتابة في حال خفنا»، كان يدرك «أن لكل شيء نواة، منها يبدأ الحضور، وإليها ينتهي الغياب»، وأن ما نرغبه، أو نرغبه، على حدٍ سواء، يحل حيث لا نتوقع. لذا باغته الزمن قبل أن يسأل سؤال نجيب محفوظ. لقد أسرع في المضي.
 


حرر في : 21/10/2015
 

اقرأ المزيد

تاريخ ثقافي سابق للنفط


  
من يطلع على ما وصلنا من أشعار ومقالات ومراسلات جيل رواد النهضة وأعلام التنوير في الخليج الذين عاشوا ونشطوا في نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين يفاجأ بجرأتهم في إثارة أسئلة كبرى في ظروف الحصار والعزلة، وفي التواصل مع المشروع النهضوي العربي في الحواضر العربية، وحرقتهم للحاق بأشقائهم العرب الذين تهيأت لهم أسباب العلم والمعرفة.

لذا كان هؤلاء الرجال هم من أدخل للمنطقة المطبعة والتعليم والصحف والمسرح وفنون المقالة والقصة كما فعل الشيخ عبد العزيز الرشيد بإصدار مجلة «الكويت» في بدايات عام 1928، التي وصفها صديقنا أحمد الديين بأنها بحقّ مجلة كويتية بحرينية، حيث انتقل ناشرها ومحررها من الكويت إلى البحرين، وأقام فيها معظم أيام عمر المجلة القصير، وكما فعل عبد الله الزايد حين أصدر جريدة «البحرين» في نهاية الثلاثينات واستمرت في الصدور لمدة ست سنوات. وكان على هذا النفر من رواد التنوير أن يواجهوا عسف المستعمر واضطهاد المؤسسات المحافظة والجهلاء من أبناء قومهم.

هذه العلامات في تاريخ الخليج الثقافي هي رصيد لمثل التنوير والنهضة والتحديث والعقلانية. ومن أسف أن كتاباتهم ومراسلاتهم، بما في ذلك المراسلات بين بعضهم البعض أو مراسلاتهم مع رموز النهضة في العالم العربي كتلك التي تمت بين أمين الريحاني وشكيب أرسلان ومع مثقفين ومجلات في مصر وبلاد الشام ما زالت مجهولة وغير متداولة.

يستدعي الأمر مبادرات ثقافية تنطلق من المنجز في قراءة التاريخ الثقافي للمنطقة، ليس فقط بهدف جمع المادة وتدوينها وتوثيقها وإعادة نشرها، وإنما أيضاً دراستها وفق رؤية منهجية علمية بهدف تقديم بانوراما سوسيو ثقافية عن التحولات التي شهدتها بلدان المنطقة تحت تأثير الأحداث الكبرى في الوطن العربي وفي العالم يومذاك. للأسف فإن المثقف الخليجي في كل جيل يبدأ من الصفر تقريباً، منقطعاً عما سبقه، لذا تكثر وتتعدد البدايات عندنا ولا ينشأ التراكم، حين تتعين علينا المقارنة بين حماسة الرعيل الأول من المثقفين في بلدان المنطقة لمشروعهم الثقافي والاجتماعي وبين حال الخيبة التي تستحوذ على الجيل الراهن.

بل إن المقارنة يمكن أن تصح أيضاً بين الوضع الراهن، وما كان عليه بين نهاية الستينات ومطالع الثمانينات الماضية، التي مثلت فرصة ذهبية لتشكيل مثقف خليجي ذي حساسية نقدية، وصاحب رؤية عصرية، لكن ذلك لم يحافظ على قوة الدفع التي بدأ بها.


حرر في: 19/10/2015

اقرأ المزيد