المنشور

الاقتصاد العالمي نحو الخروج من المراوحة



ليس
سهلاً توصيف الحالة التي يمر بها الاقتصاد العالمي. فهو يجتاز منذ حوالي
عام مدة من تذبذبات غير مريحة ومفاجئة في أسعار السلع المستقبلية، مثل
النفط والمعادن، وأسعار الأوراق المالية. مع أن هذه التذبذبات لاسيما
تذبذبات أسعار الأسهم لا يمكن التعويل عليها في حسم الحساب الختامي لمحصلة
إجمالي الناتج في نهاية العام، خصوصاً منها العوامل الفنية، غير
الاقتصادية، (مثل الشائعات السياسية والاقتصادية، والاضطرابات بأنواعها،
وأعمال الصيانة الدورية الرئيسية في المصافي ونحوها) المؤثرة على
التذبذبات، إلا أنها للأسف الشديد، هي التي اختطفت قصب السبق وخطفت الأضواء
خلال الفترة الماضية والجارية من عوامل الأساسيات الاقتصادية المتعلقة
مباشرة بقوى السوق، عرضاً وطلباً، وذلك نتيجة ل«فيض» بؤر التوتر المتفجرة
في غير بقعة عالمية. 


ولذلك يمكن القول إن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة هي أقرب للمراوحة
(Wobbling)، إن جاز التوصيف. فمحركاته الأساسية تعمل على الاحتفاظ بوتيرة
حركته ومنع ارتداده، بانتظار الظروف المساعدة للتحرك قدماً إلى الأمام،
والمتمثلة في زوال العوامل الكابحة التي تعبر عنها المتغيرات التالية: 


أسعار منخفضة للنفط وشريحة من سلع المدخلات الصناعية الأساسية مثل
البلاتينيوم الذي وصل إلى حوالي 1000 دولار للأونصة منخفضا بنسبة تفوق 30%
مقارنة بالعام الماضي؛ والفضة التي هبطت إلى 16 دولارا للأونصة دولار
والألمنيوم الذي وصل إلى نحو 1590 دولاراً للطن في سبتمبر/أيلول الماضي في
سوق لندن للمعادن، انخفاضا من حوالي 1990 دولارا قبل عام؛ وخام الحديد الذي
هبط إلى حوالي 56 دولارا للطن انخفاضاً من 93 دولاراً قبل عام. وفي حين
تستفيد من هذا الانخفاض في أسعار هذه السلع الدول المستوردة لها ويعزز
مكاسبها وحصاد إجمالي ناتجها المحلي، فإنه يشكل ضغطاً كبيراً على مصدري هذه
السلع.


استمرار عدم ظهور علامات مشجعة على مغادرة الاقتصاد الصيني
لخانة التباطؤ الاقتصادي وإظهاره بوادر زخم انتعاشية، بانتظار ما ستسفر عنه
سياسات تحفيز الطلب على إجمالي الناتج في السوق المحلي.


التذبذبات
الحادة التي تظهر بين الفينة والأخرى في أسواق المال العالمية على وقع
انتظار ما ستسفر عنه سياسات التثبيت الاقتصادي في الصين وفي عدد من البلدان
الأوروبية.


احتمالات تسجيل سعر صرف الدولار الأمريكي مزيداً من نقاط
الارتفاع في ظل عدم توفر «الساحة النقدية العالمية» في الوقت الراهن على
بديل آمن، وهو ما ستنتج عنه مخاطر في موازنات ومخاطر تمويل بالنسبة
للمدينين بالدولار، خصوصا في الأسواق الصاعدة التي ارتفعت فيها مديونيات
الشركات بالعملة الأجنبية في السنوات القليلة الماضية.


النزاعات
الجيوسياسية في أوكرانيا والشرق الأوسط وبعض أنحاء القارة الإفريقية، والتي
مازالت تلقي بظلالها على عامل الثقة لدى قطاعات الأعمال. 


ولذلك يستغرب الباحث الاقتصادي التأكيدات المتكررة لكبار مسؤولي مجلس
الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بعد كل اجتماع للجنة السياسة النقدية في
المجلس، بمن فيهم رئيسة المجلس جانيت يلين التي أكدت ذلك في كلمة لها أمام
جامعة ماساشوسيتس يوم الخميس 24 سبتمبر/أيلول، بأن الاحتياطي الفيدرالي
سيبدأ أواخر هذا العام بالرفع التدريجي لسعر الفائدة المصرفية تعبيرا عن
عبور الاقتصاد الأمريكي منطقة الانتعاش الحيوي الذي يزداد فيه الطلب على
العرض النقدي (Money supply)، الأمر الذي يستدعي الفرملة برفع سعر الفائدة
للحيلولة دون صعود التضخم بموازاة فيض العرض النقدي. وجه الغرابة في أن
النمو الأمريكي مازال هشاً، إذ مازال يعيش على مفاعيل سياسة التيسير الكمي
التي نفذها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على ثلاث مراحل بدأت في نوفمبر
2008 وانتهت في نوفمبر 2014، عمد خلالها إلى شراء الأصول الخاصة والعامة
وتمويل شرائها بدولارات يصدرها الاحتياطي وتحظى بثقة متداوليها بما يوفر
السيولة اللازمة للشركات والمؤسسات لتشغيلها استثماريا. ولعل تردد
الاحتياطي وتأجيله قرار رفع الفائدة التي بقيت قريبة من الصفر منذ نهاية
2008 (تتراوح بين 0 و 0.25%)، يؤكد عدم اليقين في جاهزية الاقتصاد الأمريكي
الاستيعاب تأثيرات القرار على الطلب على إجمالي الناتج، والمخاوف من
احتمال أن يطيح هذا الإجراء بالاتجاه الإيجابي الصعودي لهذا الطلب. 


فالمراوحة بهذا المعنى، تحتمل التراجع والوقوع في الركود (أي النمو
السلبي للناتج المحلي الإجمالي على مدار 6 أشهر متتالية)، مثلما تحتمل
إمكانية بدء الاقتصاد العالمي اجتياز حاجز المراوحة باتجاه النمو الصعودي.
فهو لا زال متماسكاً ويسجل نمواً معتدلا في المتوسط ومتبايناً في الوتيرة
بين الأقاليم الاقتصادية العالمية المختلفة. ووفقا لبيانات صندوق النقد
الدولي فقد نما الاقتصاد العالمي بمعدل 3.4% في العام الماضي، ويُتوقع أن
يهبط إلى 3.1% هذا العام، ولكنه سيعود ليقفز إلى 3.6% في العام المقبل.
والحال أن الاقتصادات الوطنية لعديد البلدان الرئيسية التي تشكل ثقل إجمالي
الناتج العالمي، تجتاز مدة تكيف وتطويع مع مستجدات السوق، بهدف ترشيد
الأداء وتسريع الجاهزية لعودة منحنى الطلب الكلي للصعود التدريجي في مدة لن
تطول، خصوصاً إذا ما قُدِّر للجهود الدولية المبذولة، النجاح في العبور من
حالة التوتر إلى التسويات المحفزة لإعادة تشغيل ماكينة التنمية والبناء. 
اقرأ المزيد

واقع أزمتنا الاقتصادية وانعكاساتها



مما لا شك فيه أن كل التحليلات تشير الى توقعات بتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي مقارنة بالتقديرات السابقة، فقد خفض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي الى نسبة 3.3% مقارنة بالنسبة السابقة 3.5% لعام 2015 على أن يصل في العام 2016 الى نسبة 3.8% وفي 2018 الى 3.9% مع استمرار اسعار النفط في الانخفاض منذ سبتمبر 2014 وحتى الآن الى ما دون ال 50%.   تشير التقارير الى أن  الانخفاض في عائدات النفط لدى الدول المنتجة سيبلغ اكثر من 360 مليار دولار في العام 2015 وبنسبة بلغت اكثر من 21% حتى الآن من الناتج المحلي الاجمالي، وانعكست هذه النسبة على تحقيق غالبية الدول المنتجة لعجوزات في موازناتها العامة.  



 بطبيعة الحال فان انخفاض اسعار النفط الى أقل من النصف فرض بدوره ضرورة اعادة النظر في سياسات الانفاق العام، وبالنسبة لدول منطقتنا الخليجية تحديدا، التي يمثل النفط العصب الرئيس لاقتصاداتها، فان ذلك  سينعكس سلبا على وارداتها واستثماراتها في مشاريع البنية التحتية وتأجيل الكثير من المشاريع الحيوية، وستخلق التراجعات النفطية جملة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تستعد لها دولنا الخليجية على ما يبدو، وهذا ما يفسر حالة الارتباك القائمة على المستوى المنظور والمتوسط.  كذلك فان تراجع سياسات الانفاق وتزايد المخاطر السياسية في المنطقة كما يحصل في اليمن وسوريا والعراق وليبيا، سيستدعي بدوره تأجيل خطط ومشاريع تنموية اساسية، وسيحدث اضطرابات وقلاقل داخلية ستجد دول المنطقة نفسها وجها لوجه في التعاطي معها دون اجابات او حلول واضحة لدى هذه الأنظمة.  كذلك فان تراجع وتخفيض التصنيف الائتماني لبعض دولنا الخليجية بشكل عام سيزيد الأوضاع سوءا وسينعكس على تنافسيتها وشل قدرتها على استقطاب الاستثمارات وبالتالي سيعيقها من امكانية التعاطي الايجابي مع مسائل جوهرية كالبطالة وتراجع فرص العمل وزيادة الأجور والأوضاع المعيشية، وسيضعف الى حد بعيد قدرتها على الانفاق على المشاريع الاسكانية والتعليمية والصحية والخدماتية الأخرى، في مقابل الزيادة المضطردة في عدد السكان بالنسبة لحصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في دول مجلس التعاون. 


اما بالنسبة لتراجع معدلات النمو العالمي كما يحدث في الصين باعتبارها من بين اهم مستهلكي النفط في العالم، فان ذلك سينعكس  سلبا على دول المنطقة ايضا، المعتمدة اساسا على النفط كمصدر رئيس للدخل وذلك كنتيجة لتراجع طلب الصين على هذه السلعة العالمية. 


 أما بالنسبة لأوضاعنا في البحرين فان هناك قضايا اقتصادية واجتماعية غاية في الأهمية تشكل في مجموعها تحديات كبرى أمام  الحكومة والشعب لاقتصاد صغير محدود الموارد، يعتمد اساسا على المساعدات من دول الجوار وعلى أكثر من 85% على عائدات النفط، فقد بلغ الدين العام حتى الآن أكثر من 54% من الناتج المحلي الاجمالي بحسب التقرير الأخير لشركة كامكو للاستثمار، وهو مرشح للصعود بشكل كبير خلال السنتين القادمتين جراء استمرار تضخم العجز في الموازنة العامة مما استدعى ان يصدر ملك البلاد حزمة من المراسيم من بينها مرسوما بزيادة الدين العام ليصل لأول مرة الى 10 مليارات دينار وهو رقم خرافي في تاريخ البحرين، يفوق كثيرا الحد المقبول به عالميا من نسبة الناتج المحلي الاجمالي، كما أن خدمة الدين العام التي تبلغ الآن اكثر من 396 مليون دولار سنويا ستتضاعف تلقائيا خلال الفترة القادمة، علما بأن التقديرات الأولية تخبرنا ان خدمة الدين العام الحالية لوحدها تعادل مجموع ميزانيات ثلاث وزارات اساسية هي التعليم والصحة والاسكان!! 


وأمام هكذا أوضاع يصبح طبيعيا أن نسمع باستمرار شكاوى العاملين في القطاع العام ورفضهم للاجراءات التقشفية التي بدأت تأخذ وتيرة متصاعدة، وأولى بوادرها ما صرح به وزير المالية أمام مجلس النواب خلال الفترة القليلة الماضية من أن تراجع اسعار النفط الى ما دون ال 50 دولارا سيعني عدم قدرة الحكومة على دفع رواتب موظفيها، وقد باشرت الحكومة بعدها بالغاء الساعات الاضافية للعاملين لديها، واشتكى اكثر من 400 طبيب من توجه معلن لدى وزارة الصحة بالغاء نظام “الكولات”  وتحويله الى نظام نوبات عمل!! علاوة على تقلص ميزانيات عديدة لبعض المشاريع وتوقف مشاريع حيوية وخدماتية عديدة وتقلص وجوه الانفاق بسبب تراجعات اسعار النفط وغيرها انما يؤشر بوضوح على دخولنا في البحرين في وضع اقتصادي واجتماعي حرج للغاية، يضاف اليه استمرار الأزمة السياسية التي تقترب من انهاء عامها الخامس دون افق للحل السياسي في حين تتضخم الأجهزة الأمنية والدفاعية وتتضخم ميزانياتها التي تستنزف أكثر من ثلث الموازنة العامة. 


نكتشف من كل ما تقدم من اننا بالفعل مقبلون على أوضاع صعبه، لا ترى الحكومة مخرجا منها الا عبر زيادة الاقتراض لتسديد مديونيتها وليس للاستثمار(!!) والمباشرة في استهداف العاملين والفقراء والشرائح الضعيفة والمتوسطة في اجورها وزياداتها ومكتسباتها ولقمة عيشها ومشاريعها التي استدعت الأزمة تأجيلها أو الغاءها بالكامل، وفي ذلك استجابة مباشرة لتوصيات وتوجيهات صندوق النقد الدولي صاحب الباع الطويل في تخريب البنى والهياكل الاقتصادية والاجتماعية في العديد من دول العالم تلبية لجشع القوى الرأسمالية المسيطرة على اقتصاد العالم وهي ذات القوى التي توجه سياسات الصندوق وتوظفه للسيطرة على عجلة الاقتصاد العالمي، نذكر فقط أن تاريخ وتوجهات صندوق النقد الدولي في العديد من المراحل والحقب الاقتصادية كان مشينا ومدمرا لاقتصادات ومصالح الشعوب في اميركا اللاتينية وافريقيا، وكذلك في آسيا تحديدا في 1997 وحتى  ابان الازمة الاقتصادية العالمية في 2008  فقد فشلت تلك السياسات ودفعت الشعوب الثمن غاليا.  ففي الوقت الذي يرفض صندوق النقد الدولي تحميل الشركات الاجنبية ضرائب على ارباحها نراه يستميت في استهداف  الشعوب عبر طرحه لما اصطلح على تسميته بضريبة القيمة المضافة على السلع الاستهلاكية والسلع مستهدفا الفئات الضعيفة والمتوسطة دون اي اكتراث  بمصالح الفقراء  حول العالم، وفي حالة اوضاع البحرين الاقتصادية  فلا زالت حكومة البحرين تهتدي وتطبق حرفيا وبكل أسف نصائح وتوجيهات صندوق النقد الدولي دون ان تعطي اعتبارا لحجم الدمار والتراجع الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي المنتظر جراء تلك السياسات، على عكس دولة مثل الكويت التي تتعامل مع بعض ونقول بعض تلك النصائح بحذر وبقرار وطني مستقل، حيث تتجه الكويت نحو فرض ضرائب على ارباح الشركات الأجنبية على سبيل المثال، كما اعلنت عن زيادة بعض الرسوم على الأجانب، وبالنسبة لرفع الدعم فان الكويت وهي دولة غنية كما هو معروف تعتمد منذ عقود على البطاقة التموينية التي لا تريد حكومة البحرين حتى سماع صوت مجلس النواب المطالب بها وذهبت سريعا لفرض سياسة رفع الدعم عن السلع الأساسية التي تتفاعل الآن بقوة في الشارع البحريني، مما استدعى استمرار اضراب القصابين وامتناع الغالبية الكاسحة من المواطنين عن بيع وشراء اللحوم  الأمر الذي استدعى ان تطرح الحكومة امكانية اعادة مناقشة البطاقة التموينة مجددا .. ولكن كيف؟! لا ندري حتى الآن. وعلى الجانب الآخر فاننا نستغرب من استسهال الحلول عبر استهداف الفقراء والفئات الضعيفة دون مجرد سماع ما تطرحه قوى المعارضة  من بدائل حقيقية من شأنها تجنيب الوطن وابناءه الكثير من المعاناة، فقد طرحنا بعضا من البدائل مثل فرض ضرائب على ارباح الشركات الأجنبية وتوجيه الدعم بصورة حقيقية  للمواطنين فقط، كما طالبنا ولازلنا نطالب برفع اسعار الغاز المباع للشركات والمصانع ولو بنسب قليلة وكذلك فرض رسوم على تحويلا الأجانب المالية والتي تبلغ اكثر من 2.5 مليار دينار سنويا، مما سيوفر لخزينة الدولة اموالا طائلة تغنيها عن استهداف قوت فقراء الوطن، مع ضرورة تقليص الانفاق الأمني والعسكري ومحاربة الفساد المستشري في اجهزة الدولة والذي يستنزف الموازنة منذ سنوات دون توقف.

ويجدر بنا ان نتساءل مع هكذا اوضاع مقلقة عن مصير رؤية البحرين 2030 التي اتخذت لنفسها شعارا يكرس الاستدامة -والعدالة- والتنافسية واين اصبحت يا ترى؟! فيما يستمر التخبط الرسمي عبر قرارات مثل التوجه لرفع سن التقاعد الى 65 سنة والأدهى من ذلك الحديث عن خصخصة هيئة التأمينات الاجتماعية التي اضحت تسجل عجزا تجاوز  11.2 مليار دينار، وبذلك فان  الدولة تتجاوز ما اضحى حقا مكتسبا كرسته معايير الدولة الرعوية المعمول بها كما انها تتجاوز المكاسب الدستورية للمواطنين وحقهم في الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية في سن التقاعد والشيخوخة والحق في التعليم والقضايا المتعلقة بالصحة وغيرها.  ولازلنا نجهل حتى اللحظة حجم الوفر الناتج عن الاعلان تقليص ودمج عدد من الهيئات والوزارات الذي طالبنا به منذ سنوات طوال حتى بحت اصواتنا  بغية تقليص وجوه الفساد والنفقات، ونستنتج من كل ذلك ان شعارات الاصلاح يجب ان تكرس تحولا نوعيا في المعالجات وطرق ادارة الدولة والأموال العامة ومؤسساتها وأن لا تكتفي بالشعارات أو ان تقوم على ردود الأفعال التي تفرضها تعقيدات الأزمات الاقتصادية والسياسية المتناسلة، وانما يجب ان تأتي ضمن سياقات مشروع اصلاح اقتصادي وسياسي يقوم على استراتيجية واضحة المعالم تستشرف بناء الدولة المدنية العصرية المنشودة التي تكرس العدالة والتنافسية والحفاظ على الثروات، ولن يتحقق ذلك طالما بقيت المسألة السياسية دون حل وطالما بقي الاعراض الرسمي عن الدخول في شراكة وطنية تؤسس لعملية بناء حقيقية بعيدا عن ما نعايشه من وجوه فساد ونهب وتعد على ممتلكات الدولة وثروات الوطن او تفرد بقرارات غير مدروسة، وكجزء رئيس من المعارضة السياسية نمد ايدينا نحو شراكة حقيقية غير منقوصة لبناء الوطن والحفاظ على استقراره وتنميتة المستدامه بعيدا عن “روشتات”
خارجية  لصندوق النقد الدولي أو وصفات أخرى مشابهة اثبتت التجربة انها قدمت لنا حلولا خربت الاقتصاد وضربت التنمية وأضرت بالاستقرار وأضاعت الوقت والثروات  دون طائل.

اقرأ المزيد

عبدالله خليفة في مبحثه عن الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية

عبدالله خليفة في
تقديري، وأعتقد في تقدير الكثيرين غيري من المهتمين بتاريخ الثقافة الوطنية في البحرين،
هو واحد من أهم رموزنا الثقافية وأكثرها غزارة وعمقاً في العطاء، خلال الخمسين عاماً
الماضية، ورغم حضوره الدائم في حياتنا الثقافية طوال العقود الماضية، ألا أنه سيزداد
حضوراً في ذاكرتنا الوطنية بعد رحيله، أو هكذا يجب أن يكون، فنحن في أمس الحاجة لإعادة
اكتشافه، والوقوف أمام عطاءه المتنوع الثري، فثمة الكثير من الجوانب في نتاج عبدالله
المتنوع ما زالت بحاجة إلى من يضيئها، والكثير من مؤلفاته بحاجة إلى نشر وتوزيع للوقوف
على ما قدمه الراحل من إنجاز أدبي ونقدي وفكري









.




سبق أن تحدثتُ في
مناسبة سابقة لتأبين الفقيد عن الأوجه المتعددة لنشاطه الفكري والمجتمعي، فهو  المناضل الذي التحق منذ سنوات صباه يوم كان لايزال
طالباً بالمدرسة الثانوية في صفوف جبهة التحرير الوطني، مُنَظِماً ومُثَقِفا للخلايا،
ومنخرطاً في العمل الجماهيري. دفع عبدالله ضريبة انحيازه الوطني بالسجن لسنوات طويلة
وبالفصل من العمل وبالمحاربة في الرزق، وخرج من السجن وهو أكثر ثباتاً على مبادئه ومواقفه،
وعبدالله خليفة هو المبدع، كاتب القصة القصيرة، الذي ولج عالم القصة القصيرة بعد سنوات
قليلة من نشر قصص محمد عبدالملك ومحمد الماجد وخلف أحمد خلف وسواهم. لا جدال ان عبدالله
كان أكثر كتاب القصة القصيرة غزارة في الانتاج، وأطولهم استمراراً في كتابتها، حيث
لم يتوقف عن ذلك حتى وفاته









.




وعبدالله خليفة هو
الروائي الذي أتى الى الرواية من باب القصة القصيرة. شِأنه في ذلك شأن محمد عبدالملك
وآخرين من كتاب القصة القصيرة الذين تحولوا الى كتابة الرواية. كما في القصة القصيرة
فان عطاء عبدالله الروائي هو الأغزر والأكثر تنوعا بين نظرائه، حكماً من المعطيات التي
توفرت بعد رحيله يمكن القول انه ترك لنا نحو ثلاثين رواية، بعضها منشور وبعضها لايزال
على شكل مخطوطات. وعبدالله خليفة هو الناقد، ففي ساحة أدبية ثقافية وأدبية يشح فيها
النقد، لم يكتف عبدالله خليفة بعطاءه الابداعي في الرواية والقصة القصيرة، وإنما ولج
باكراً عالم النقد الأدبي، فكتب مقالات ودراسات نقدية عن تجارب زملائه من الكتاب البحرينيين
سواء المخضرمين منهم مثل محمد عبدالملك وأمين صالح أو حتى من الأجيال الجديدة. لم يكتف
عبدالله بنقد التجارب الأدبية المحلية، السردية منها بشكل رئيس، وإنما انفتح على ساحة
الابداع الخليجي. أكثر من ذلك انفتح عبدالله على الأفق النقدي العربي فكتب دراسات مهمة
بينها بحثه المهم عن الرواية عند نجيب محفوظ









.




وعبدالله خليفة هو
كاتب المقال الصحافي، حيث اختط لنفسه في مقاله اليومي نهجاً لم يحد عنه، هو نهج الفكر
التنويري والنقدي الذي لم يهادن فيه الدولة ولا المعارضة فيما يراه أخطاء وقصوراً في
أداءها









.




وعبدالله خليفة هو
الباحث في الفكر والفلسفة، وهو الجانب الذي أود أن أوليه اهتمامي في هذه العجالة، فبحكم
مثابرته وانكبابه على البحث والمطالعة استوى عبدالله خليفة على عدة فكرية ومنهجية عميقة
مكنته في مرحلة لاحقة للذهاب بعيداً في البحث 
الفكري والفلسفي، حيث توغل في دراسة التاريخ الفكري الإسلامي والعربي، وهو جهد
أثمر بحثه المهم عن “الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية”،
الذي اعتمد فيه المنهج المادي، الديالكتيكي والتاريخي، في دراسة الظواهر الفكرية والفلسفية
وعلاقتها بالصراعات الاجتماعية والسياسية، وتحولات البنى الاجتماعية على مدار التاريخ
الإسلامي الذي درسه. هذا الانكباب على دراسة التاريخ الاسلامي أتاح له مادة ثرية فائضة،
استفاد منها في كتابة رواياته التاريخية









.




علينا أن نقول أن
جهد عبدالله خليفة هذا يجعل منه واحداً من أبرز المشتغلين بالفكر في المشهد الثقافي
العربي، فأهميته تتخطى نطاق البحرين المحدود، لتشمل الحيز الجغرافي العربي الأوسع،
ولكن مؤلفاته وأطروحاته لم تحظ بالانتشار عربياً، بسبب سوء توزيع المنتوج الثقافي العربي،
وتواضع عبدالله نفسه الذي جعله لا يولي اهتماماً بتسويق اسمه، كما يفعل من هم أقل منه
موهبة وعطاء









.




لا أعلم إلى أية
درجة استوحى عبدالله خليفة فكرة البحث في تاريخ الفلسفة العربية الاسلامية من مؤلف
حسين مروة: “النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية”، مع ملاحظة أن
حسين مروة تحدث عن نزعات، فيما تحدث عبدالله خليفة عن إتجاهات، وأعتقد أن ثمة اتفاقا
بين الرجلين حول هذا الأمر، فالتيار المهيمن في الفلسفة العربية الاسلامية هو التيار
المثالي، فيما لا تغدو المادية، كونها مجرد نزعات أو إرهاصات سعى مروة لرصدها، وعكف
على دراسة مادة تاريخية كبيرة من المؤلفات والأبحاث لينجز بحثه هذا الذي أتى في جزءين
أولاً،  صدرا في مجلد كبير واحد يقع في ستمائة
صفحة من القطع المتوسط، تلاه جزء ثالث

.

خصص الجزء الأول
للمرحلة الأولى من التاريخ الإسلامي، ولكنه مهدَّ لها بمبحث عن تطور الوعي الديني في
المشرق القديم، قبل أن يأتي على الدعوة المحمدية التي حرص على وصفها بالثورة، سواء
في كتابه هذا او في روايته المستوحاة عن حياة النبي محمد، مرورا بالعهد الراشدي ثم
الدولة الأموية، متوقفاً أمام التحولات السياسية في بنية الدولة العربية الإسلامية،
وعلاقة الاتجاهات الفلسفية والفكرية بها، أما الجزء الثاني من البحث فكرَس الجزء الأكبر
منه لمرحلة الدولة العباسية وما اختمر فيها من تيارات فكرية وسياسية فاعلة، خاصة تحت
تأثير المثاقفة مع الآخر غير العربي بفعل حركة الترجمة من اللغات الأخرى الى العربية،
وما نجم عن احتكاك العرب بالأقوام الاخرى الذين أصبحوا في عداد الإمبراطورية الإسلامية،
وأصبح لبعضهم، مثل الفرس، نفوذ في دولة الخلافة في بغداد









.




ينطلق عبدالله خليفة
من المسألة الأساسية للفلسفة، المتمثلة في الإجابة على سؤال: أيهما أسبق، الوجود أم
الوعي، ليتبنى الاتجاه المادي للفلسفة الذي يرى أن الوعي نتاج الوجود المادي وليس سابقاً
له، وبالتالي فانه كان يخضع كافة أشكال الوعي، وما ينطوي عليه من ظواهر فلسفية ودينية
وفكرية، للفحص من حيث كونها نتاجاً للتحولات الاجتماعية، أو تعبيراً عن هذه التحولات









.




لذا جاء هذا السفر
الكبير للمؤلف ليتناول ظاهرات الوعي العربي الاسلامي بجانبيه الأساسيين: الدين والفلسفة
وبجذور هذا الوعي الأولى وهو يتشكل وينمو من المرحلة الجاهلية فظهور الاسلام وتشكل
الدولة الاسلامية، ويقر المؤلف أن هذا موضوع ليس جديدا في البحث، فهو كان ولا يزال
مَركزا لدراسات لا تتوقف، ومن هنا جاء تأكيده، من أن  هذا الجهد الجديد لا بد وأن يحمل شيئا مختلفا  يضيف إلى هذا الكم والنوع الكبير مساحة مختلفة من
الرؤية. لأنه تجشم هذا العناء من أجل أن يطرح وجهة نظر مختلفة، فالعمل، كما يقول، هو
رؤية جديدة الى الوعي العربي تجعله كائناً تاريخياً مركباً، فالوعي العربي الإسلامي
الذي تشكل في الجزيرة العربية لم تبحث جذوره التاريخية الممتدة إلى التاريخ القديم
في المنطقة وإلى تضاريسها الجغرافية الاقتصادية وإلى كونه مستوى في بنية اجتماعية متضادة
متغيرة دوماً، على نحو ما يشرح المؤلف









.




لذا فان عبدالله
خليفة حين يحفر في التاريخ، لا يفعل ذلك كي يدير ظهره للحاضر، بالعكس تماماً، إنه يفعل
ذلك من أجل أن يفهم، ويجعلنا نفهم معه، حاضرنا بصورة أفضل. إن سؤال الحاضر هو الجدير
بالتفكير الفلسفي، وفيه انفتحت أسئلة من نوع ما الذي يحدث الآن وما هو الذي نحيا به
وما هو الشيء الذي له معنى في هذا الحاضر وهل هناك تقدم مستمر للجنس البشري، وهي أسئلة
شكلت المجال الفلسفي الجديد الذي عملت الفلسفة على تحليله ومناقشته









.




يؤكد عبدالله خليفة
في ثنايا الكتاب على التلازم بين الفلسفة والتاريخ والسياسة، ما يجعل موضوع الفلسفة
تشخيصا للحاضر، والحاضر المعني هنا ليس مجمل الآليات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن
للمختصين في هذا المجال وصفها أحسن مما يفعل الفيلسوف، وإنما المقصود هو الترابط بين
حساسية الناس وإختياراتهم الأخلاقية وعلاقاتهم بأنفسهم وفيما بينهم والمؤسسات المحيطة
بهم هنا وفي نقطة التقاطع هذه تظهر المشاكل وحتى الأزمات والتي توجب على مؤرخ الحاضر
وفيلسوف الحاضر وصفها ونقدها معا









.




يمكننا أن نقف ملياً
أمام الخلاصة التي أتى عليها عبدالله خليفة في نهاية بحثه حين لاحظ أن إزدراء العقل
ورفض أدواته مثل التحليل والبرهان والدرس التاريخي والإعلاء مما يدعوه الحدس والشطحات
ترافق، وربما كان عليه أن يقول أدى، إلى إنهيار حثيث ومتصاعد للعلوم الطبيعية والإجتماعية
وإلى تدهور الحالة المعيشية للجمهور وخاصة لأحواله العملية والثقافية، وهي أمور عبرت
كلها عن مرحلة اللاعقل، مرحلة التدهور العقلي للمسلمين التي تتوجت باستيلاء الدروشة
على الشوارع وانتشار الغيبيات الأشد تطرفا حيث راح المصير العام ينطلق خارج الإرادة
البشرية للعرب والمسلمين، فلم تعد الثروة المادية وحدها ضائعة، بل الأرض والإرث والوجود.
كل ذلك يحتاج الى درس معمق في كافة هذه الظواهر كي نفهم وضعنا العربي الراهن









.




 

اقرأ المزيد

الصراعات السياسية والمصلحة الوطنية










( نص
المحاضرة التي قدمت في التجمع القومي الديمقراطي مساء 24/ 11/2015











(








 


حسن مدن

 

سأقدم تحت هذا العنوان مجموعة
من الأطروحات، التي آمل أن تغطي بعض أوجهه، برغبة تسليط الضوء على التعقيدات
الناشئة عن الوضع العربي الراهن، وانعكاسات هذا على الأزمة السياسية في البحرين.

 


الأطروحة ألأولى: الربيع العربي




 

كان مصطلح “الربيع
العربي” محاكاة لتجارب مشابهة حدثت في العالم، كربيع باريس أو ربيع براغ،
وسرعان ما شاع هذا المصطلح في الأرجاء العربية، كتعبير عن توق  الشعوب إلى إنهاء الاستبداد والإستغلال والظفر
بالديمقراطية والحرية. فعلياً ما من بلد عربي لم تطله موجات ونسائم ذلك التحرك في
بداياته، منذ انتفاضة البوعزيزي في تونس، التي ألهمت  الشعوب العربية، فتتلت الانتفاضات والهبات في
مصر واليمن والبحرين والمغرب والجزائر وسلطنة عمان وليبيا وسوريا وغيرها.

 

كان ذلك رداً على ما بلغته
الأوضاع في البلدان العربية من تردٍ على غير صعيد. لعل عالم الاجتماع السويدي جنار
ميردال هو أول من استخدم مصطلح “الدولة الرخوة” في كتابه “بحث في
أسباب فقر الأمم”، ومنه إستوحى الكاتب المعروف جلال أمين عنوان كتابه الذي
حمل عنوان “الدولة الرخوة”، حين رأى أن الكثير من السمات التي شخَّصها
ميردال تنطبق على أحوال الدولة في العالم العربي، من أوجه عديدة بينها السياسي
والاجتماعي والاقتصادي والديني.

 

البعض يفضل مصطلح الدولة الهشة،
وهو التعبير الذي استخدمته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية التي دأبت على
إعداد مقياس لمدى سوء أوضاع بلدان العالم المختلفة وذلك حسب معايير، منها شرعية
الدولة، واحترام حقوق الإنسان، وسيادة حكم القانون، ومظالم المجموعات، والتنمية
غير المتوازنة، ومن بين 187  دولة في
العالم شملها تقرير المجلة منذ عامين وردت أسماء عدد كبير من الدول العربية
والإسلامية على رأس قائمة الدول الهشة، وتضم المؤشرات الاجتماعية الدالة على فشل
الدولة تصاعد الضغوط الديمغرافية والحركة السلبية والعشوائية للاجئين والأفراد، في
حين تتمثل المؤشرات الاقتصادية في غياب التنمية الاقتصادية لدى الجماعات المتباينة
وتراجع المؤشرات الكبرى كالدخل القومي وسعر الصرف والميزان التجاري.

 

 أما المؤشرات السياسية فتتمثل في فقدان شرعية
الدولة بسبب فساد النخبة الحاكمة وغياب الشفافية والمحاسبة السياسية وضعف الثقة في
المؤسسات، إضافة إلى عدم التطبيق العادل لحكم القانون وانتشار انتهاكات حقوق
الإنسان وغياب الأمن.

 

لذلك لم يكن مفاجئاً أن
الجماهير العربية، والشبيبة العربية بشكل خاص، إنتفضت على حكوماتها آنذاك. ليست
مؤامرة أمريكية  أو صهيونية أو إيرانية هي
من أخرجت الجماهير الغاضبة الناقمة على أوضاعها في كل هذه البلدان، وإنما لأن مرجل
الغضب بلغ حد الغليان، وتفاوتت ردود  فعل
السلطات من بلد إلى آخر، بين من اختارت القمع الدموي الذي لم يفلح في تحجيم هذه
الهبات أو القضاء عليها، بل أن بعض هذه الانتفاضات نجحت في إسقاط رؤوس الهرم
السياسي الحاكم  كما حدث في تونس ومصر
واليمن، فيما اتبعت حكومات أخرى المرونة السياسية التي نمت عن حكمة، على نحو ما
جرى في المغرب، فبعد إسبوعين أو ثلاثة أسابيع من الاحتجاجات الشعبية أعلن الملك
محمد السادس عن تشكيل لجنة لتعديل الدستور والسماح بانتخابات تعددية تتيح للحزب
صاحب الأغلبية تشكيل الحكومة. يومها صدرت صحيفة مغربية بمانشيت عريض: “الملك
يسقط النظام”، في تنويع على الشعار الذي إنطلق من تونس وعمَّ العالم العربي:
الشعب يريد إسقاط النظام.

 

الحق أن الملك المغربي لم يسقط
النظام، وإنما قوَاه وحصنه بهذا التدبير، بتأمين دعم شعبي وسياسي له، وأنقذ البلاد
من أزمة سياسية كان يمكن أن تمتد على نحو ما جرى في بلدان عربية أخرى عديدة،
وأمَّن عبوراً آمناً من تداعياتها، باطلاق دينامية سياسية جديدة فيها الكثير من
الإيجابيات حتى لو لم تكن مثالية وخالية من النواقص.

 


الأطروحة الثانية: ما الذي حوَّل
الربيع العربي إلى خريف؟

 

برأينا هناك ثلاثة عوامل تضافرت
ليحصل ما حصل. أولاً: متانة مواقع الاستبداد في العالم العربي وخبرتها الطويلة، ثانياً:
ضعف مؤسسات المجتمع المدني الحديثة وضآلة دور القوى الوطنية والتقدمية وهامشية
دورها ما عنى غياب الحاضنة الديمقراطية القادرة على توجيه هذه التحركات في وجهة
وطنية جامعة، وتجنيبها الانزلاق نحو شعارات وممارسات خاطئة، ما مكَّن قوى الإسلام
السياسي من الهيمنة على الشارع ومصادرة الإنتفاضات مع أن القوى الإسلامية في
الكثير من الحالات لم تلتحق بالتحركات إلا لاحقاً 
كما حدث في مصر وتونس واليمن وغيرها، ثالثاً وأخيراً: الدور المشبوه الذي لعبه
الغرب ودول الناتو من جهة، والقوى الإقليميىة صاحبة المصلحة في عسكرة الانتفاضات
والدفع بها نحو الحرب الأهلية من جهة أخرى، سواء بالتوافق فيما بينها، أو بالتواطؤ
الضمني.

 

وسوف آتي على بعض الشرح لكل
عامل من هذه العوامل الثلاثة:

 

1-فيما يتصل بمتانة مواقع
الاستبداد وجدنا كيف وُظفت آلة القمع الضاربة في البلدان العربية في التصدي للهبات
الشعبية، وتشمل هذه الآلة ليس فقط التدابير الزجرية كاستخدام القوة في مواجهة
المحتجين العزل والتنكيل بهم، وإنما أيضأً منظومة التشريعات والقوانين والتدابير
التي تقيد الحريات وتضيق على ما هو متاح من هوامش للمجتمع المدني أو حتى مصادرتها
بالكامل، وتوظيف الأجهزة الإعلامية في محاربة المعارضين، فضلأً عن إشعال الفتن
والانقسامات المذهبية لحرف مسار التحركات عن مجراه السليم.

 

ومع إدراك الحكومات أن نجاح
إنتفاضة أي شعب عربي في تحقيق بعض أهدافه سيكون ملهماً لشعوبها هي الأخرى في أن
تحذو الحذو نفسه،  أصبحت مواجهة هذه
الانتفاضات  مهمة مشتركة إما عبر قمعها أو عبرتخريبها
من الداخل، ومنعها من المضي ببلدانها في مسار التحول الديمقراطي، ولا شك أن
الحكومات تتنوفر على إمكانات كبيرة تمكنها من ذلك، كما أنها تُوظف خبرتها الطويلة
في مواجهة التحديات الداخلية، فيما لا تتوفر المعارضات العربية عامة على هذه
الخبرة، لا بل يعوزها في الكثير من الحالات بُعد النظر والتحليل السليم للتعقيدات
المحيطة بالعمل السياسي.

 

2- ضعف مؤسسات المجتمع المدني
وضآلة دور القوى التقدمية والديمقراطية، فبالنظر للتطور المشوه في المجتمعات
العربية وتقهقر مواقع الطبقة العاملة المنظمة وانحسار وتلاشي الفئات الوسطى إنحسر
بالنتيجة دور القوى الديمقراطية الحديثة، موضوعياً، خاصة بالنظر لما تعرضت له من
قمع وتهميش وإقصاء على مدار عقود، وفي الكثير من الحالات استعانت الحكومات العربية
بالإسلاميين لضرب ومحاصرة القوى القومية والتقدمية، وهو تقليد بدأ به أنور السادات
ليصبح سلوكاً متبعاً من حكومات عديدة سواه، وبقية الحكاية معروفة.

 

ضعف القوى الديمقراطية نجم عنه
أن أصبحت القوى الاسلامية هي القوة الأوسع قاعدة والأفضل تنظيما والأقوى من
الناحية المالية لما توفر لها من دعم ورعاية عبر عقود من قبل حكومات وتنظيمات
ورجال أعمال، وأصبحت تحت هيمنتهم مؤسسات مالية كبيرة وصناديق خيرية يتخطى دورها
الإطار المحلي الخاص بكل بلد، ليشمل مناطق وبلداناً مختلفة، وبالتالي كانت هذه
القوى الأكثر حظاً في ركوب موجات التغيير التي انطلقت، في الغالب الأعم، بصورة
عفوية.

 

3- دور الغرب والقوى الإقليمية:

 
لا دليل على أن الغرب يقف مع القوى الوطنية العصرية
العربية التي تريد محاكاة نموذجه الديمقراطي وتناضل من أجل بلوغ الحداثة والتقدم،
إنه يقف فقط مع مصالحه، ولا يجد ضيراً في التحالف مع قوى الاستبداد ومع التيارات
الأصولية إذا رأى أن مصالحه يمكن ضمانها بترتيب العلاقات معها.

 

فمن واقع تجارب عربية نجد أن
الغرب لم يقم بما يستحق الذكر في مجال تشجيع القوى العصرية لبناء هياكل قادرة على
تحقيق متطلبات التطوير السياسي للمجتمعات في إتجاه إنشاء دول مدنية تستوفي شروط
البناء الديمقراطي، بل أنه وضع في مقدمة أولوياته مناصبة العداء لهذه التجارب بغية
خنقها، ومنعها من أن ترسخ جذورها، ولا ينطبق هذا على موقف الغرب من التجربة
الناصرية على سبيل المثال وحدها، وإنما أيضاً من تجربة التحديث التي قادها محمد
علي باشا، والتي كان يمكن أن ترسي قواعد بناء دولة عصرية قوية، يمكن لتأثيراتها أن
تعم على المحيط العربي كله .

 

 ولم تعد الفوضى الخلاقة إستراتيجية يجري العمل
على تنفيذها بالسر، وانما هي ممارسة مُعلنة من أجل تشطير وشرذمة المنطقة إلى غيتوهات
مذهبية تُفصل على مقاس الملل والمذاهب، وتحطيم الدول الوطنية العربية، التي نظر إليها
في الماضي على أنها خطوة نحو وحدة عربية منشودة.

 

للغرب خطاب منافق، حكومات
ومؤسسات، يتظاهر فيه أنه يدعم التحولات نحو الديمقراطية، ولكنه خطاب لا يُعول
عليه، لأن مجمل السلوك الفعلي لهذا الغرب لا يشي بصدق هذا الدعم، وإنما يظهر نقيضه
في أشد الصور وضوحاً.

 

إن كان من استنتاجات تترتب على
هذا القول، ففي مقدمتها أن التعويل على الغرب كداعم لفكرة البناء الديمقراطي في
العالم العربي هو وهم مُدَمر، غالي الكلفة على مستقبلنا، فالتحول نحو الديمقراطية
هو مسؤولية القوى التي ناضلت وضحت أجيال منها من أجل الديمقراطية ذاتها كقيمة
إنسانية مطلقة، وكمنظم للعلاقات بين قوى المجتمع وأفراده، وإدارة الخلافات بينها
بطريقة متحضرة .

 

لا يقل دور القوى الاقليمية
خطورة عن الدور الذي لعبته الدوائر الغربية في حرف مسار الانتفاضات العربية عن
أهدافها، وتجييرها لما يخدم مصالحه وخدمة مشاريعها في المنطقة وتنازعها على
النفوذ، وأجندة القوى الاقليمية  حوالينا
لم تتغير خلال العقود الماضية، رغم تغير النظم السياسية فيها، فالأمر ليس مرتبطاًً
بطبيعة النظام السياسي، وإنما بمصالح الأمم. وعلينا، على سبيل المثال، أن نتذكر أن
إمتلاك القدرة النووية، كان في الأصل هدف شاه إيران السابق، الذي لم يتمكن من
بلوغه  قبل الإطاحة به، ولكنه ظلّ هدفاً
قائماً  بلغه مَن حكموا إيران بعد قيام
الجمهورية الإسلامية، بصرف النظر عن إدراكنا بمشروعية حق الأمم في إمتلاك هذه
القدرة للأغراض التنموية والسلمية.

 وعلينا أن نتذكر، أيضاً، أن تركيا حتى في ظل
هيمنة الجيش عليها على مدار عقود كانت تلعب دوراًَ إقليمياً مهماً وتسعى لتوسيعه،
مستقوية بعضويتها في حلف “الناتو”، وهي عضوية ظلت مستمرة بعد صعود
أردوغان وحزبه إلى السلطة، كمرتكز من مرتكزات العقيدة العسكرية والسياسية للدولة.

الشيء الذي إستجد هو أن البلدين
باتا بُحكمان من نظامين إسلاميين ما أضفى غطاء دينيا على توجهاتهما في السياسة
الخارجية، التي ظلت، في الجوهر، ثابتة، وبالنظر إلى إختلاف مَذهبيْ من يحكمون
البلدين إرتدى التنافس بينهما طابعاً مذهبياً، يعيد إلى الأذهان التنافس الصفوي –
العثماني، الذي هو تنافس على النفوذ والمصالح.

في غياب المشروع الوطني الخاص
بكل دولة عربية، وغياب المشروع القومي العربي الجامع، وإنهيار الدولة الوطنية
ذاتها في بلدان مفصلية، وتعمق الانقسام المذهبي في المجتمعات العربية الذي من
مصلحة اللاعبين الاقليميين تعميقه وتجييره لأهدافهما صار السنة العرب يهللون
للنموذج التركي في الحكم، ويحتفلون بنجاحات حزب العدالة والتنمية الحاكم كما
لوكانت نجاحات لهم، وصار الشيعة العرب يهللون لكل ما يعتبرونه نجاحات تحققها إيران
كما لو كانت نجاحات لهم هم.

ونسي الجميع أن مشروع تركيا ليس
في جوهره مشروعاً سنياً، ومشروع إيران ليس في جوهره مشروعاً شيعيا. هناك مشروع
قومي تركي، وهناك مشروع قومي إيراني، وما العباءة المذهبية إلآ وسيلة من وسائل
تمكين المشروعين، في ظل حالة الهشاشة والتمزق التي يعاني منها العالم العربي.

لم يعد أحد يتحدث عن المشروع
القومي العربي الذي تربت عليه أجيال منذ بواكير الفكر النهضوي العربي، وغابت
الروافع الاجتماعية والفكرية والهياكل الحزبية والتنظيمية الحاملة لهذا المشروع أو
توارت، فوجدت القوى السياسية الناشطة، وجُلها تمثل الاسلام السياسي بكل تلاوينه،
ضالتها في التعلق بمشاريع ليست مشاريعها الخاصة وانما هي مشاريع لدول أخرى، من
مصلحتها أن يظل العالم العربي مجزءاً، ومفككاُ وفاقداً للارادة السياسية.

وفي غمرة هذا كله جرى السكوت
عن  أهم وأخطر مشروع تدميري للمنطقة ونعني
به المشروع الاسرائيلي، الذي بات في مأمن من أي مساس عربي منه، حيث يننفرد الصهاينة
بالفلسطينيين العزل في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويواصلون تزنير الأراضي الفلسطينة
المحتلة بجحافل المستوطنيين ومستوطناتهم، بطريقة تلاشت معها أي إمكانية فعلية
لقيام أي كيان فلسطيني مستقل، مهما كانت درجة هشاشته.


 


الأطروحة الثالثة: حول التناقض

 

لا يخلو مجتمع من المجتمعات من
التناقض، بل أن مسار التحولات في المجتمعات محكومة بمثل هذا التناقض الناجم عن
صراع الارادات والمصالح، ومن وجهة نظر التحليل المادي للتاريخ الذي ننطلق منه فان
الإنفراد بالسلطة والثروة هو مرتكز هذا التناقض الرئيس وجوهره، في حتى وإن إتخذ
الأمر في الكثير من الحالات والمنعطفات التاريخية مظاهر تناقضات أخرى، ذات طابع
مذهبي أو عرقي أو طائفي .. الخ، وفي الكثير من الحالات يجري الدفع بهذه التناقضات
إلى موقع الصدارة للتمويه على جوهر هذا التناقض، أو الصراع، إذا ما إعتمدنا
المفردة التي إستقرينا عليها في عنوان هذه المحاضرة، حيث يجري حشد الحشود  في صراعات أبعد ما تكون عن مصالحها الحقيقية،
وأن تُدخل القاعدة الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير في تناقضات ثانوية بين
مكوناتها، مُفتعلة في الكثير من الحالات، تبعدها أو تحرفها عن التصدي للتناقض
الأساس في المجتمع، الذي محوره كسر احتكار النخبة المهيمنة على السلطة والثروة،
بتحقيق التوزيع العادل للثروات وإشراك الشعب في إتخاذ القرار عبر آليات ديمقراطية
حقيقية، وليست صورية أو عديمة الصلاحية.

 

قضية التناقض الأساسي الاجتماعي
– السياسي يجري تغييبها لصالح إبراز الإنقسامات المذهبية وصراع الهويات الفرعية،
مع أن  تعدد الثقافات في المجتمعات ليس ظاهرة
خاصة بالمجتمعات النامية، بما فيها بلداننا العربية الإسلامية، التي باتت اليوم
ساحة صراع، دموي في الكثير من الحالات، بين ممثلي هذه الثقافات، فالعديد من
البلدان الأوروبية، لا بل والولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، هي ذات مجتمعات
متعددة الثقافات والتحدرات الإثنية والدينية، وحتى هذه الدول «المتقدمة» شهدت
حروباً على خلفيات دينية وثقافية، وما زالت تشهد أوجه توتر خفي بين التكوينات
الثقافية والعرقية فيها.

 

وفي تشخيصه للثقافات الفرعية
لاحظ مؤلف «التحليل السياسي الحديث» روبرت دال حقيقة أن نيوزيلندا والسويد
والنرويج وأيسلندا، على سبيل المثال، تتمتع بتجانس ثقافي شبه تام يفسر المستويات
المنخفضة للصراع فيها، وعلى النقيض من ذلك نجد أن الثقافات الفرعية التي لا حصر
لها في الهند، مثلاً، تفسر ارتفاع مستوى التجاذب بين هذه الثقافات داخلها.

 

شيء قريب من هذا القول نستشفه
من المقارنة التي يعقدها الرجل بين حالي بلجيكا وسويسرا، فإذا كان مستوى التجاذب
أو الصراع بين الثقافات الفرعية في الأولى أكثر حدةً، فإن انخفاضه في الثانية عائد
إلى نجاح سويسرا، رغم وجود أربع مجموعات لغوية فيها وديانتين وولاءات إقليمية
قوية، في تجنب أي تمييز خطر بين الثقافات الفرعية فيها. ولا يمكن تجاهل النموذج
الأمريكي في هذا المجال. الولايات المتحدة الأمريكية نجحت نسبياً فقط في تجنب
الصراعات بين شعب يتسم بكل هذا التنوع، لكن لا يمكن غض الطرف عن التمييز ضد
الأمريكيين من أصل إفريقي، حتى بعد تصفية نظام العبودية، وميراث هذا التمييز كان
سبباً مباشراً للتوترات الداخلية حول حقوق الأمريكيين الأفارقة.

 

وتبدو مفردة التمييز تحديداً،
هي المدخل الصحيح لمقاربة هذه المسألة، فحين تنجح المجتمعات في التغلب على هذا
التمييز، بصوره كافة، بين مواطنيها، وتؤمّن الحقوق المتكافئة للجميع، فإنها تنجح
أيضاً في خفض مستوى التوترات، الحادة أو الخفية، إلى أدنى مستوى، ويحدث العكس
تماماً، حد بلوغ الانفجارات الدامية، حين تخفق في ذلك.

 

تُعيد الهَبَات ضد الفساد
والمفسدين في العراق ولبنان وربما في غيرهما من البلدان الإعتبار للقضية الجوهرية
في التناقض القائم في مجتمعاتنا، الذي هو تناقض اجتماعي بين القلة التي تستأثر
بالثروات والأغلبية الساحقة من الناس المحرومة من شروط العيش الحر الكريم، وهو التناقض
الذي كان في أساس إنفجار الإنتفاضات الشعبية فيما مضى، لكن جرى، بقدرة قادر، تحويل
الأمر إلى صراعات بين المذاهب والطوائف يكون الفقراء والشباب وقوداً لها، فيما
مصالح وثروات من يدعون تمثيلهم تتضاعف.

 

في ساحة التحرير في بغداد وفي
وسط العاصمة اللبنانية إتحدَّ المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعة وغيرهم من ملل
وأقليات، حول القضية التي وحدتهم فيما سبق ويجب أن توحدهم دائماً في أن يكونوا
صفاً واحداً في العمل من أجل توزيع عادل للثروات، وبناء دول مدنية لا دينية أو
طائفية وفي هذا مصدر قوة هذه الهبات، التي تبرهن أن الفساد لا دين أو مذهب له.

مكافحة آفة الفساد لن تتم،
بصورة جدية، إلا عندما يجري الاقتراب الفعلي من الحالات الصارخة، الكبيرة له،
الممثلة في فساد قمم السلطات والحكومات، واستهداف مقومات هذا الفساد في البنى
والهياكل الرئيسية في الحكومات والمجتمع، وهو ما فعله العراقيون واللبنانيون المحتجون
حين أشاروا  بالبنان إلى رموز النخب
السياسية والمالية التي تسرق المال العام، وتفقر البلاد والعباد، وحين إتخذت التحركات
الإحتجاجية ضد الفساد وسرقة المال العام وتقاعس الدولة عن أداء التزاماتها عنواناً
في غاية الأهمية، هو رفض سطوة زعماء الطوائف، ومنهجهم في الحكم الذي أفرز إما
حكومات من لون مذهبي واحد، أو بهيمنة له، كما هي الحال في العراق، أو بمحاصصة
طائفية بين وجاهات الطوائف والمتنفذين فيها، كما هي حال لبنان.

 

والمؤمل أن يكون الظرف الموضوعي
الناشئ اليوم رافعة للقوى والتيارات المدنية والتقدمية التي تقاعست طويلاً عن أداء
دورها، لتذود عن برامجها الاجتماعية في الدفاع عن مصالح شعوبها، والمعبرة عن شرائح
المجتمعات كاملة، بديلاً لبرامج زعماء الطوائف، حيث ينشأ اليوم جيل عربي جديد
منفتح على المعرفة ووسائل الاتصال الحديثة، لكنه محبط من انسداد الأفق أمامه، يرنو
إلى دور هذه القوى المدنية لتأخذ به نحو المستقبل.





 


الأطروحة الرابعة: تموضع
البحرين في الحراك السياسي العربي الراهن

 

عبر تاريخها السياسي الغني
والمحتدم، كانت البحرين مجتمعاَ شديد التأثر بما يجري في المحيط العربي والاقليمي،
لذلك فان الكثير من الحيثيات والاستنتاجات التي أوردناها أعلاه، ونحن نرصد المشهد
العربي تعني البحرين، وربما تنطبق عليها في الكثير من الحالات.

 

في البحرين ثمة حركة سياسية
عريقة ذات تقاليد قوية، وهناك مطالبات مشروعة للشعب البحريني بكافة مكوناته، في
الحياة الديمقراطية الحقة وفي العدالة الاجتماعية وفي التوزيع العادل للثروات وفي
تأكيد قيم المواطنة المتكافئة، النافية لكل أوجه التمييز الاجتماعي والطبقي
والفئوي، والحراك  الذي إنطلق في 14 فبراير
2011، ينطبق عليه ما ينطبق على كل الانتفاضات الشعبية التي  شهدتها العواصم والمدن العربية الأخرى في تطلع
المشاركين فيها للديمقراطية والعدالة والكرامة، كما أن المآلات والتعقيدات التي
نشأت بعد ذلك لا تختلف من حيث الجوهر عن تلك التي شاهدنا نظيرها في البلدان
العربية الأخرى، حتى وإن إختلفت التفاصيل، ولو سعينا لتعداد الأسباب التي قادتنا
إلى ما نحن فيه فلن نخرج عن العوامل الثلاثة التي بسطتها في البداية، بصورة أو
بأخرى، بنسبة تقل أو تزيد.

 

حتى الآن جرى التعامل مع الأمر عبر
التدابير الأمنية المشددة، والتجربة في كل مكان تبرهن أن الحل الأمني لا يحل مشكلة
سياسية أو إجتماعية مستعصية، حتى وإن بدا في الظاهر أنه يحتويها، وتجربة تاريخنا
السياسي البحريني الحديث تؤكد ذلك، وهو أمر تحدثنا عنه كثيراً في بيانات المنبر
التقدمي والتجمع القومي وبقية القوى المعارضة، وهو ما يؤكد الحاجة إلى حل سياسي
مستدام ومستقر.

 

لكن ما يبعث على القلق الشديد،
خاصة بالنسبة لنا كقوى نعتبر أنفسنا عابرين للطوائف وتستوعب تنظيماتنا في صفوفها
مناضلين وأعضاء من مختلف مكونات الشعب، هو الإنقسام الطائفي الذي إستفحل في
السنوات القليلة الماضية الذي دفع إليه الرافضون للتحول الديمقراطي وتحقيق الشراكة
مع المجتمع، وغذته القوى المذهبية المختلفة، بوعي منها في الكثير من الحالات،
وبسبب الأخطاء وضيق الأفق في حالات أخرى.

 

الطائفية في معناها المزدوج، أي
في تعبيرها عن مجتمع متعدد الطوائف، أو ثنائي 
التكوين الطائفي كما هو حال مجتمع البحرين، وفي كونها ساحة من الحساسيات
وحتى الاحتكاكات بين أبناء هذه الطوائف لم تنشأ اليوم، وإنما هي موروث عمره قرون
من الزمن، وهذا الموروث يمتلك كل أسباب استمراره المترسخة في التكوين الإجتماعي
للبلد وفي أشكال الوعي التي لن يصار إلى إلغائها بجرة قلم أو برغبة.

 

ومن حيث المبدأ يجب علينا ألا
نتعاطى مع هذه المسالة من زاوية الرغبات أو النوايا الحسنة فلن نصحو في صباح الغد
أو الصباح الذي يليه ونرى المجتمع وقد تحررمن تكوينه الطائفي، أعني من كونه مبنيا
على ثنائية أو تعددية مذهبية لا مناص من الإقرار بها والتعايش معها بصفتها صفة
ملازمة للمجتمع الذي نحياه حتى يكتب الله أمرا كان مفعولاً.

   

بهذا المعنى ليست البحرين حالة
شاذة بين المجتمعات العربية – الإسلامية، ولا هي حالة غريبة عن بقية المجتمعات في
العالم المعروفة بتعدد الأجناس والأعراق والطوائف والمذاهب التي يعيش أصحابها في
بلدان واحدة، ويُكونون بالتالي مجتمعا واحدا أو مشتركا، تجمعهم، وفي أحيان كثيرة ،
تكاد تصهرهم مشتركات عديدة قوية لا يعيقها التنوع أو التعدد القومي والطائفي. بل
أن المجتمعات متعددة أو متنوعة التكوينات يمكن أن تكون أكثر حيوية وثراء ثقافيا
واجتماعيا بالقياس للمجتمعات أحادية التكوين، لأن التنوع يعني إضفاء الجدل والحوار
والتفاعل الخلاق بين المكونات المختلفة، 
ويعني أيضا تعدد الروافد الثقافية والتاريخية التي تضفي الحيوية المشار
عليها، ونعتقد إن وضع البحرين بالقياس إلى محيطها الخليجي يعطي مثلا جيدا على ما
نذهب إليه .

    

لكن المسألة الطائفية في
مجتمعنا ، كما هي في المجتمعات العربية – الإسلامية على درجة كبيرة من التعقيد
بحيث يغدو معها حديثنا أعلاه بمثابة النشيد الرومانسي الذي يغفل التجليات السلبية
الكثيرة للطائفية، حين تصبح أداة موظفة توظيفاً سياسياً، يحتمل الكثير من أوجه
الإقصاء والتمييز ، التي ليس في متناول قوة أخرى غير الدولة أن تعالجها إن هي
أرادت تجنيب المجتمع مخاطر الفتنة، عبر توكيد فكرة المواطنة التامة، القائمة على
تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات، مما يعمق من فكرة الانتماء الوطني
ويعززها، ويضعف بالتالي من حدة التعصب الطائفي، الذي ينشط كلما ضعفت آليات الدمج
الوطني التي تعزز المشتركات على حساب عوامل الفرقة أو التنافر.

 

أفرز تطور المجتمع البحريني
الحديث انبثاق وتوطد مكانة قوى وشرائح قوية التأثير أفلحت في التحرر من الأسر
الطائفي، وغدت عن حق قوى عابرة للطوائف، وتمثل تيارات الحركة الوطنية بمختلف
ميولها اليسارية والقومية العمود الفقري لهذه الشرائح، لأنها عززت من طابعها غير
الطائفي وغير العرقي في معارك النضال الوطني والطبقي من أجل الأهداف المشتركة
للفئات الشعبية الكادحة، وقدمت هذه القوى للمجتمع قيادات من الوزن الثقيل ، بدءا
من أبرز قادة حركة هيئة الاتحاد الوطني.

 

لكن نقطة الضعف الجوهرية التي
يُعاني منها الحراك السياسي في البحرين اليوم هي غياب أو ضعف الدور المستقل للتيار
الوطني الديمقراطي، بسب فشله في بلورة صيغة للعمل المشترك بين مكوناته المختلفة
تميزها عن الأطروحات والمواقف الأخرى في المجتمع، وفق برنامج معبر عن القضايا
المشتركة للشعب يعمل على دمج الهويات الفرعية في هوية وطنية جامعة، كرافعة للعمل
في سبيل الديمقراطية وآفاق الحداثة والتقدم، ومن أجل حياة حرة وكريمة لكافة مواطني
هذا البلد.

إن غياب هذه الصيغة التنسيقية
للتيار الديمقراطي كان له أكبر الأثر في عدم وضوح الدور المستقل لهذا التيار، حيث
لا يتبين المجتمع بصورة كافية الفروق الضرورية بين هذا التيار وبين سواه من
تيارات.

 

ولا قيمة لأي منجز أو مكسب
سياسي إذا كان ثمنه النيل من الوحدة الوطنية للمجتمع، لأن هذه الوحدة بنيت عبر
مسار تاريخي معقد، وناضلت من أجلها أجيال من البحرينيين أفلحوا في إقامة تكوينات
وطنية بالمعنى الصميم للكلمة، لا تعبر عن طوائف أو فئات، وإنما تعبر عن تطلعات
مشتركة لكل أفراد الشعب، لذلك فإن المكاسب السياسية المتعلقة بالإصلاح تستقيم
بالتوافق والإرادة المشتركة لكافة مكونات المجتمع في سبيل المزيد من الشراكة بين
الدولة والمجتمع، وأن الوحدة الوطنية تنبني وتتوطد عبر هذا النهج بالذات، لا عبر
نهج آخر سواه.

 

في هذا الظرف الدقيق تحتاج
البحرين إلى التهدئة والروية في معالجة الأمور والنأي عن التصعيد من قبل جميع
الجهات، وبلورة موقف وطني جامع نابذ للعنف بكافة صوره وتجلياته، ينطلق من ضرورة
صون السلم الأهلي، وتأمين الاستقرار، وخلق مناخ يمكن من التفاهم حول قضايا الوطن
الكبرى في المجالات السياسية والتنموية، إنطلاقاً من القناعة التي يجب أن تكون
راسخة في الأذهان بأن البحرين هي بيتنا المشترك، أو سفينتنا التي تقلع وسط أنواء
إقليمية معقدة، ومسؤوليتنا جميعاً توجيهها الوجهة الصحيحة، لأنها إن غرقت فسنغرق
جميعاً.

 


 

اقرأ المزيد

سياسة الأقراص الفوارة ..!!

أسوأ ما
في مشهد رفع الدعم عن اللحوم، وعلاوة اللحوم، وكثرة التصريحات والمواقف وتضاربها
وكل اللغط المثار حول هذا الموضوع، بدءاً من اعلان وزارة العمل والتنمية
الاجتماعية بانها سجلت ارباب 116 ألف أسرة بحرينية في قاعدة البيانات الخاصة
بالتعويض النقدي عن الدعم – ارتفع العدد بحسب تصريح لوزير الاعلام الى 145 ألفاً –
يضاف الى ذلك تصريح الوكيل المساعد للرعاية والتأهيل الاجتماعي بأن «36 ألف أسرة
لم تسجل لتعويض اللحوم من اصل 181 ألفاً».. 


وتلك الدعوة الموجهة لجميع المواطنين لعدم التفريط في حقهم في
التعويض وأن عليهم زيارة الموقع الإلكتروني بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية
الخاص بهذه المبادرة والمفتوح على مدار 24 ساعة لتسجيل بياناتهم للحصول على
التعويض، مروراً بتلك الجلسة النيابية المطولة التي شهدت الكثير من الصراخ
المفتعل، والتي استنفر فيها النواب ضد قرار رفع الدعم، وفيها هددوا وتوعدوا
الحكومة ولعبوا أدوار البطولة ومعظمهم لا يكفون عن ادهاشنا يوماً بعد يوم، وقد خرج
احدهم بطلعته البهية ليقول لنا بالنص: «إن الشعب اختارنا، لنصعّد لهجتنا ونطالب
بحقوقه»، وذهب آخر الى التهديد بان تمرير الميزانية سيكون مشروطاً بالتوافق على
إعادة توجيه الدعم، وذهب اكثر من نائب الى التلويح باستجوابات، ولم ينسَ احدهم الى
التأكيد بأن الاستجوابات المنتظرة ليست تهديدات، وإنما كلام حق وحقيقي هذه
المرة..!! ملاحظة على الهامش، التجارب مليئة بالشهادات على سقوط الشعارات
والمزايدات والاستجوابات وكيف تحولت الى ما يشبه العبث او لنقل السخرية
الرادحة..!! ولعله هذا الذي نشر بتخفيض سقف مواجهة النواب مع الحكومة وتعويضهم ذلك
برغبة غير ملزمة للحكومة فيها اقتراح بصفة مستعجلة بمضاعفة مبلغ التعويض الى عشرة
دنانير، وكفى المؤمنين شر القتال، لعل هذا دليل ليس إلا والذي تأتي معه بلا ريب
المشاهد والأدوار المطلوبة..!!  


نقول، أسوأ ما في هذا المشهد ان معاناة وهموم وحقوق المواطنين
اختزلت في موضوع رفع الدعم عن اللحوم، وكأن البحرين باتت سوبر ماركت كبير لا يباع
فيه سوى بضاعة واحدة: اللحوم وليس ثمة اهتمام او معاناة او توجسات او هموم او مشاكل
لدى المواطنين سوى هذه البضاعة، والأسوأ من ذلك ان المشهد بكل تجلياته فيه ما يثقل
من المعاني ما لا يستطيع المرء ان يكتم شعوره بالحزن العميق، وفي المقدمة ان مستوى
الافكار الضيقة بالجملة والمفرق والغرائز الشعاراتية ليس فقط انها لم تكن في
محلها، بل كان فيها مساس بكرامة المواطن وعكست حقيقة ان ليس ثمة جدية كافية للتصدي
لمشكلات ومتطلبات المجتمع، والأمر برمته ليس في محيط الدعم فقط، او كل اشكال الدعم
الراهن، بل يتجاوز تلك الحدود، ولا غضاضة لمن يريد الصراحة الواجبة فيما يخص الدعم
تحديداً القول إن هناك من تعامل مع المواطنين كأنهم متسولون او موضع استجداء، وكل
ما على المواطنين ان يأخذوا الدعم بأريحية، وان يكونوا ممتنين ولا يكونوا من
الجاحدين، وهذا ليس نموذجاً وحيداً، لعلكم تذكرون قبل اكثر من عام حين تم نشر
اسماء المواطنين ذوي العوز في الصحف المحلية، وكأن من فعلوا ذلك ينشرون اسماء
الناجحين في الامتحانات.. 


وها نحن اليوم نجد كيف يتم التعامل مع المواطن المغلوب على أمره
والذي ذاق وما يزال اشكالاً من الاحباط والمهانة على خلفية قرار إلغاء الدعم عن
اللحوم، وهو القرار الذي صدمنا مرتين، مرة في الفعل ومرة في رد الفعل، مرة في
التفسير المطلوب ومرة في التبرير المرفوض، مرة في المعنى الجوهري للقرار، ومرة في
الرهانات وحالة التوجس والترقب وما اذا كان ينظر إليها على محمل الجد، مرة في
السؤال ما اذا كنا نمضي في الاتجاه الصحيح، ومرة في إقناع الناس بمسوغات القرار
وأي قرار آخر يمس الناس ومعيشتهم إقناعهم، بأننا نمضي حقاً في الاتجاه المدروس. 


لا يقف الأمر عند ذلك الحد، والذين يتمتعون بموهبة التقاط
الإشارات وهي طائرة، يمكن ان يلاحظوا ان موضوع الدعم هو مجرد نموذج صغير، وان هناك
الكثير المرتقب مما هو أهم وأعظم ضمن حالة التقشف مما سيكون له تداعيات ومآلات من
النوع الذي يخشى ان يكون اكبر في الأثر والصدى والوجع.. 


غير ان الذي نلح عليه ونستعجله ان تصدق تصريحات المسؤولين الذين
لفتوا الى «اجراءات حازمة لحماية الاقتصاد الوطني وحماية المواطنين انفسهم»،
وبأعباء ومخاطر ديَّن عام غير محتملة وعجز مالي متفاقم، وأسعار نفط تتهاوى، ولكنهم
جزاهم الله كل خير بشرونا بان مكتسبات المواطنين ضمن اجراءات التقشف لن تمس، وبان
ما سيتخذ من قرارات لن تقصم ظهورهم وستكون مبنية على آفاق ومخارج مدروسة، ويفهم من
ذلك بان ما هو مرتقب لن يدور بأي حال في أصله ومنتهاه في محيط تغتال فيه المعاني
في أبسط توصيف، الى الدرجة التي نخشى ان يذهب فيها البعض الى القول بان أوضاعنا
ليست جيدة فحسب، ولكننا نقدم نموذجاً رائداً يحظى بتقدير الجميع في الشرق والغرب،
وما الى ذلك من الكلام الكبير الذي ألفناه، المرجو في كل حال ألا تصدمنا النتيجة..!!  


اذن موضوع الدعم، مجرد نموذج صغير لأمور كثيرة يفترض ان تواجه
وتعالج بحكمة بشكل يقنع الناس ولا يخيب أملهم في بلوغ هدف التعامل الأمثل خاصة مع
كل ما يهم الناس ويتعلق بعيشهم ويقض مضجعهم، وهي كلها ذات صلة وارتباط وترابط بما
يفترض انه يمس مقدرات الدولة ومداخيلها ومصروفاتها وإدارة المال العام، وتفعيل قيم
المساءلة والمحاسبة، وها نحن امام امتحان جديد، المتمثل فيما هو مطروح بين أيدي
الناس هذه الايام من حقائق كشف عنها تقرير ديوان الرقابة المالية والادارية وكلها
تشير بالأصبع وبالأدلة والوثائق ومن خلال جهاز رسمي موثوق به الى مواضع ومكامن
قصور وخلل وأخطاء وخطايا وروائح فساد قوية ونفاذة، وكل ما يمثل هتكاً لأبسط قواعد
المسؤولية في عدة قطاعات ومجالات من مواقع العمل والخدمة العامة، واحسب ان كثيراً
من هذا الذي نشر من واقع هذا التقرير من الخطأ الفادح السكوت عليه وعلى أسبابه
ومصادره وعدم التردد في حساب المسؤولين عنه بكل الحزم والصرامة اللازمة بشكل يقنع
الناس.. 


وما خرج به احد الوزراء من تصريحات لم تقنعهم، وكلام من نوع ان
الحكومة جادة في التعامل مع «الملاحظات» الواردة في التقرير، وان لا حصانة لأي شخص
يرتكب مخالفات تستدعي تدخلاً قضائياً الى آخره.. 


كلام وجدناه يتكرر عند صدور كل تقرير، ما يقنع الناس حقاً بدلاً
من تركهم في غيهم يعمهون تسييد مفهوم سيادة القانون وان يتوقف «التسامح» الذي لا
حدود له الذي فوت محاسبة من أدانه ديوان الرقابة في تقاريره عن أخطائه وتجاوزاته
بأية صورة من صور المحاسبة، تمعنوا في حجم وشكل وطبيعة التجاوزات والانحراف
بالمسؤولية العامة عن مقصدها، وتابعوا جيداً اذا ما كنا سنمضي حقاً في طريق الجد
نحو معالجة جادة لمشكلاتنا المستعصية التي تطفوا على السطح بمنتهى الشفافية..!! 


سنبقى نتساءل وبجد وربما بسذاجة او حتى على سبيل تضييع الوقت،
وما اكثر الوقت الضائع في حياتنا: الى متى سنتجاوز حالة «الردح» المقرونة بكثير من
المراوغة التي تترافق مع صدور كل تقرير، ومع بروز كل مشكلة..؟ بمعنى: متى نتجاوز
«الشكليات» ونمس «الأساسات» حين التعاطي مع ما يزخر به واقعنا من مشكلات..؟
والسؤال بعبارة اخيرة: هل نحن عازمون بالفعل على إصلاح ما لدينا من عطب ام سنظل
أسرى المراوحة، وفي أحس الأحوال نظل نمارس سياسة الأقراص الفوارة..!!
  
20 نوفمبر
2015
اقرأ المزيد

أوقات غسان كنفاني



ذات يوم جاء الشهيد
غسان كنفاني الدكتور إحسان عباس وأعطاه مخطوطة روايته: «رجال في الشمس» طالباً منه
رأيه فيها. بعد يومين عاد غسان إلى أستاذه لاهثاً، فوجد في جواب عباس بعض
التساؤلات. علق غسان بعبارة واحدة: إذن الرسالة لم تصل. 
  
غاب غسان يومين آخرين
وعاد بالمخطوطة من جديد، منتظراً رأي إحسان عباس فيها بعد ما أدخله عليها من
تعديلات، فلمس في إجابته رضا صريحاً. قبل أن يخرج سأل غسان الناقد الراحل: «ما
الذي استوقفك في الرسالة؟، ردَّ عباس: شخصية أبي الخيزران. ضحك غسان وقال إنه لا
يزال بيننا. لكن ما استوقف إحسان عباس حرص غسان على استخدام كلمة الرسالة بدل
الرواية، كما لو كان يؤدي واجباً ويريد أن يؤديه كاملاً بلا نقصان. 
هذه حكاية واحدة. ثمة حكاية أخرى أيضاً. 
التقى المخرج توفيق صالح بغسان كنفاني وهو
يتهيأ لإخراج فيلم «المخدوعون» المأخوذ عن «رجال في الشمس». كان اللقاء في مقهى
غير بعيد عن صخرة الروشة ببيروت، والساعة كانت السادسة مساء، وخلاله طلب المخرج من
الكاتب أن يكتب حوار الفيلم حفاظاً على روح المعنى المُوزع في تفاصيل «رجال تحت
الشمس»، وعلى اللهجة الفلسطينية التي تتحدث بها شخصيات الرواية. 
نظر غسان إلى ساعته وقال لتوفيق صالح بنبرة
عادية تماماً: نلتقي غداً هنا في مثل هذه الساعة. لم يستفسر المخرج عن شيء، وفي
الموعد المحدد جاء صالح وكان غسان في انتظاره. كان الحوار الذي طلبه جاهزاً. أربع
وعشرون ساعة فقط مرت كانت كافية كي ينجز غسان ما وعد به. 
ينجز غسان مهامه بسرعة قياسية. كان على
عجلة من أمره، كأنه يدرك أن قدره أن يستشهد سريعاً. كيف يمكن لرجل حتى لو كان
موهوباً أن ينجز كل ما أنجزه غسان خلال ست وثلاثين سنة فقط هي كامل حياته؟ 
ما يشبه الجواب نجده في عبارة قالها غسان
لإحسان عباس: «من يسيطر على اللحظة يفعل ما يريد». فردَّ عباس مشفقاً: «اهدأ
قليلاً يا غسان». والجواب في ذهن غسان كان واضحًا حين قال: «لا يليق الهدوء
بحالتنا». 
  
هذه الروح هي التي
جعلته موزعاً على أكثر من مكان ووظيفة. يذهب إلى جريدة «الهدف» التي كان رئيس
تحريرها وإلى المخيم ومركز الأبحاث وإلى الاجتماعات الحزبية، وإلى مكان خامس كان
يجد له الوقت فيكتب كل شيء: المقالة والدراسة والرواية والقصة القصيرة والتعميم
الحزبي. 
  
  
  
حرر في: 22/11/2015

اقرأ المزيد

بصراحة | ثلاث رسائل





أولا
ً
: رفع الدعم القادم، يعني
إ
فقار الشعب







لازال حديث المواطنين عن رفع الدعم عن
اللحوم واستمرارهم في المقاطعة (عدم شراء اللحم) ، ومازال قصابو سوق المحرق
وأغلبية قصابي سوق المنامة ، يمتنعون عن شراء اللحم من شركة البحرين للمواشي
(محتكرة استيراد المواشي) من الخارج لعقود وهي التي استفادت        (
ملايين الدنانير)  في السابق من الدعم الذي كانت تقدمه الدولة لها، اليوم
المتضرر من رفع الدعم عن اللحوم هم المواطنون والقصابون، والتعويض الذي يقدم إلى
 المواطنين لا يسد احتياجاتهم من اللحوم الحمراء، و المقاطعة من جانبهم
مستمرة، وأن رفع 4% زيادة للتعويض من قبل أعضاء مجلس النواب، لن يغير الموقف من
المقاطعة في شراء اللحوم، هذا الوضع وحَّدَ شعبنا في مقاطعته بعدم شراء اللحوم
الحمراء بأسعاره الحالية. 
 أبناء البحرين يتوحدون عندما يمس قوتهم اليومي
(الحياة المعيشية) ويؤثر على حياتهم و يسلب منهم حق معيشي كانوا لسنوات مضت
يتمتعون به، هذا الوضع (رفع الدعم عن اللحوم) أثار جدلاً واسعاً في المجتمع، مما
جعل  شعبنا يتوحد في  رفض  رفع الأسعار بهذا الشكل الغير طبيعي، ولكن
ما يتداول في هذه الأيام بأن  القادم أخطر (رفع الدعم عن الكهرباء والماء،
والبترول (النفط ومشتقاته) في حالة الأقدام على تلك الخطوة، ربما تؤدي إلى نشوء ما
يعرف في السياسة (حالة ثورية جديدة) ، قوامها وحدة الشعب برفضه القاطع لتلك الخطوة
الخطيرة للغاية ، وهي رفع الدعم عن الكهرباء والماء ، في شهر يناير القادم  ،
بالرغم من نفي أكثر من مسؤول و بعض من أعضاء مجلس النواب لها ،  وهي غير
مؤكدة ، إلا أن ما يجري من خطوات في هذا الاتجاه يثبت عكس ذلك ، بأن الدولة (
الحكومة ) جادة في تنفيذ برنامجها ( ترشيد الانفاق ) أي التقشف ،  وفق نصائح
البنك الدولي ( الذي أفقر العديد من البلدان والشعوب ) ، لماذا نقول ذلك ، لأنه
منذ أشهر يستلم المواطنون فواتير الكهرباء والماء الصادرة من هيئة  الكهرباء
والماء ( إدارة خدمات المستهلكين ) تذكر فيها وبالأرقام ( الدعم الحكومي )  و
( تكلفة المشترك ) و توضح الفرق  بينهما ( شاسع جداً)  ، مثلاً
 الدعم الحكومي للماء 32.637 ديناراً و للكهرباء 35.650 ديناراً ، إجمالي
المبلغ 68.287 ديناراً ، تصور كم يدفع المواطن من هذه الفاتورة حالياً ، للماء
1.170 دينار  وللكهرباء 4.680 دنانير ، إجمالي المبلغ 5.850 دنانير ، هذا
الذي يدفعه حالياً المواطن ، مبلغ زهيد جداً ، في حالة رفع الدعم ، مطلوب منه دفع
هذا المبلغ 68.287 ديناراً، تصوروا الفرق كبير جداً ، هذه عينة على فاتورة المبلغ الضئيل
للغاية الذي  فيها ، كيف سيكون  الحال  على أصحاب الفواتير الكبيرة
100.000 دينار فما  فوق ، الوضع بالتأكيد سيكون صعباً على غالبية المواطنين ،
ماذا يفعل فقراء شعبنا؟ ، ماذا يفعل أصحاب الرواتب المتدنية ؟،  ماذا تفعل
الطبقة الوسطى في البحرين؟ ، الوضع خطير للغاية ، إذا أقدمت الحكومة على هذه
الخطوة ، يعني إفقار شعبنا ، على الدولة  أن تعيد النظر ، بأن لا تأخذ بنصائح
البنك الدولي الكارثية، هل يريد خلق أزمة جديدة في البلاد ؟، ستكون لها
 تداعيات كبيرة على حاضر و مستقبل البحرين . 


 



ثانياً: تمكين وتلاعب الشركات





الكثير من الشركات الكبيرة والصغيرة استفادت
من التسهيلات المالية التي يقدمها صندوق العمل  ” تمكين ”  لهم ، قيل بأن بعض
الشركات
 والأشخاص لم يلتزموا  بالمعايير والقوانين التي وضعتها ” تمكين
” لهذا كان الخداع  جزءاً من أساليب تلك الشركات  ، كان همها كيف
تستطيع أن تغرف من الماء بأي شكل من الأشكال المهم أن تستلم الأموال ( آلاف
الدنانير ) التي من المفترض أن تكون مخصصة لمشاريعها وبرامجها التي يجب أن تنفذ
وفق مواصفات ” تمكين ” ، ولكن الواقع شيء والحقيقة شيء أخر ، عندما نقول
بأن ” تمكين ” لم تضع شروط وضوابط سواء على الشركات أو الأفراد
المستفيدين من ” تمكين ” ، والشواهد بهذا الصدد كثيرة و ليس آخرها ما
حدث للعمال والموظفين في شركة ألبا من تسريح 53 عاملاً، وبعد مسيرة عمال ألبا إلى
وزارة العمل ، صدر قرار من مجلس إدارة ألبا بتثبيت العمال والموظفين في الشركة
والتوقيع على عقود عمل دائمة ، وحصولهم على ترقية من الدرجة الرابعة إلى الدرجة
الخامسة ، نعتقد بأن الإرادة العمالية هي التي انتصرت ،بغض النظر عن ما يثار من
لغط في وسائل التواصل الاجتماعي ، بأنه صراع بين أطراف متعددة في داخل شركة البا ،
من المهم نيل العمال والموظفين حقوقهم المشروعة في التوظيف والتثبيت في العمل.  
في الوقت الذي ينال عمال و موظفو ألبا
الذين هم مرتبطون بعقود عمل مؤقتة  من خلال ” تمكين ”  حقوقهم
المشروعة ، لازال التلاعب بأرزاق زملاء لهم في مواقع عمل أخرى مستمراً ، من قبل
شركات و مؤسسات وأفراد مستفيدين من أموال ” تمكين ” ، حيث يفصلون قبل انتهاء
المدة المقررة بشهرين أو بعضهم بعد استكمال  العامين من موقع العمل الذي يعمل
فيه ، هذا يحدث في ظل عدم فرض شروط عمل على تلك المؤسسات والأفراد ( أصحاب العمل )
، وفي غياب الحركة العمالية والنقابية المشلولة أصلاً  والمشغولة في الصراعات
والانشقاقات بأن تقوم بدورها النقابي بالدفاع عن حقوق العمال والكادحين و تقف
موحدة في وجه الجشعين والمستغلين من         ( مالكين وأصحاب عمل ) ، لا دور نقابي
بارز يذكر لها في هذه الأيام . 
  



ثالثاً: -التيار الوطني الديمقراطي

كتبنا مقالات ووثائق  ونظمنا
اجتماعات و ورش عمل في المنبر التقدمي ومعنا قوى وطنية ديمقراطية وشخصيات وطنية
مستقلة من المهتمين في قيام التيار الوطني الديمقراطي ولازالت الجهود تبذل في هذا
الاتجاه  من أجل أن يرى النور ( التيار الوطني الديمقراطي ) ربما تكون
الولادة بعملية قيصرية ، وأن تعثرت هذه الولادة في محطات أخرى ( الماضي ) ، بسبب موانع
وعراقيل عديدة تقف عائقاً أمام قيامه  ، ولكن الإرادة الوطنية الموحدة سوف
تتغلب على تلك المعوقات لقيام التيار المدني الديمقراطي العابر للطوائف و القبائل
، الظروف مهيئة لقيامه ، بل هناك أصوات ديمقراطية عديدة من ( قوى وشخصيات )
 تطالب اليوم أكثر مما مضى   بضرورة الإعلان عنه ، ليأخذ دوره الوطني في
وسط هذة الأمواج العاتية التي تريد  أن  تجرفه بعيداً، حيث الانقسام
الطائفي في المجتمع وهناك من يعمل على بقاء  هذا الشرخ الطائفي قائماً ، حتى
لو كان على حساب وحدة شعبنا ، خوفاً على مصالحه وأهدافه ، قلنا مراراً وتكراراً
بأن قيام التيار المدني الديمقراطي ، لن يكون موجه ضد أية قوى سياسية ، الإعلان عن
قيامه سوف يشكل إضافة نوعية للقوى السياسية المعارضة “المرخصة ” ،
لاعتبارات عديدة لأنه يضم  في صفوفه من كل  فئات شعبنا كما أن له تاريخه
النضالي والوطني المعروف لأبناء شعبنا ، وكما ينأى بنفسه عن التجاذبات المذهبية في
المجتمع، ففي هذه الأوضاع المليئة بالأشواك الضارة يحتاج شعبنا لتأسيس التيار المدني
الديمقراطي لكي يضطلع بدوره الوطني المنشود  في ظل العتمة المظلمة في بلادنا  ، أنها
مسؤولية تاريخية تقع على عاتق القوى الديمقراطية والتقدمية والشخصيات الوطنية في البحرين
، هل تتوحد الإرادة الوطنية الديمقراطية نحو هذا الهدف السامي ، و يعلن عنه في
الفترة المقبلة ؟؟
اقرأ المزيد

الإرهاب المتوحش في أوروبا



من
جديد يضرب الإرهاب في فرنسا وفي عاصمتها باريس تحديداً، وذلك بعمليات
منسقة ومتزامنة تم تنفيذها مساء يوم الجمعة 13 نوفمبر/تشرين أول 2015 في
ستة أماكن حساسة بينها استاد دو فرانس في شمال باريس الذي كانت تجري فيه
مباراة ودية في كرة القدم بين منتخبي فرنسا وألمانيا بحضور الرئيس الفرنسي
فرانسوا هولاند، وقاعة احتفالات «باتاكلان» التي كانت لحظتها مكتظة
بالجمهور الذي كان يحضر حفلاً موسيقياً، وعدد من مقاهي الأرصفة التي تعج
بها العاصمة الفرنسية. وبحسب الشرطة الفرنسية فإن 129 شخصاً قتلوا وأُصيب
180 شخصاً بجراح، ثمانون منهم جراحهم خطرة، قبل أن ترتفع الحصيلة إلى نحو
350 جريحاً جراح مئة منهم خطرة. 
الصدمة والذهول والاضطراب عناوين سمات الساعات الأربع والعشرين الأولى
لما بعد الاعتداءات الإرهابية الجديدة التي طبعت سلوك الفرنسيين، حكومةً
وشعباً. بدا الجميع غير مصدق لما حصل لعاصمتهم العالمية الجميلة. وما إن
انبلج صباح اليوم التالي حتى تحولت الصدمة إلى غضب عارم، منفلت العقال في
بعض تمظهراته. فقد أعلن تنظيم «داعش» الإرهابي بتباهي وخيلاء مسؤوليته عن
هذه المذبحة البربرية الأكبر في أوروبا منذ الاعتداءات الإرهابية التي
شنتها خلية مناصرة لتنظيم القاعدة بالقنابل على محطات المترو في إسبانيا في
11 مارس/آذار 2004 والتي راح ضحيتها 191 قتيلاً و1800 جريح. فاندفعت بعض
الحشود الفرنسية الغاضبة في بعض الأمكنة للانتقام من كل ما يمت بصلة للعرب
والمسلمين، فيما أعلن رئيس البلاد فرانسوا هولاند «إنها الحرب، ما قام به
الإرهابيون عمل حربي، يستوجب الرد المناسب». وهو ما يضع البلاد، برسم كلمات
رأس السلطة فيها، في موقف شن حرب لا هوادة فيها على ميليشيات تنظيم «داعش»
أينما وجدت.


وتحت ضغط المعارضة والشارع، فقد وجهت الحكومة الفرنسية
وزير دفاعها جان ايفل ودريان لسرعة الرد الانتقامي ضد «داعش»، فهاتف الأخير
نظيره الأمريكي آشتون كارتر، وبعد ساعات من ذلك انطلقت 10 طائرات حربية
فرنسية في ساعة مبكرة من يوم الاثنين وأغارت على مدينة الرقة السورية، معقل
تنظيم داعش، ألقت خلالها 20 صاروخاً أحدثت انفجارات هائلة أدت إلى انقطاع
التيار الكهربائي وإمدادات المياه في كل أنحاء المدينة، وطالت الغارات بحسب
ما نقله ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، الملعب البلدي، ومبنى
السياسية، والفروسية، والهجانة، والعيادات الشاملة، والمتحف، ومدخل المدينة
الجنوبي، والفرقة 17، والمداجن، ومعسكر الطلائع. فيما زعمت مواقع متعاطفة
مع التنظيم الإرهابي بأن الغازات طالت معسكرات خالية.


ومع ذلك، ورغم أن
فرنسا الرسمية أصبحت بعد الغارات في وضع معنوي أفضل، على الأقل من وجهة
نظرها، إذ ربما وجدت بعض العزاء في شفاء بعض غليلها انتقاماً من التنظيم
الذي تباهى بفعلته الإجرامية – إلا أن حقيقة أن ثمانية إرهابيين مسلحين
ببنادق كلاشنكوف وأحزمة ناسفة قلبوا كيان فرنسا وأجبروها على إعلان حالة
الطوارئ (حددها رئيس البلاد فرانسوا هولاند في خطابه الاثنين 16 من الجاري
أمام الجلسة الطارئة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ بثلاثة أشهر)، وإعلان
الحداد لمدة ثلاثة أيام، وإغلاق الحدود وإقفال المدارس والجامعات والمتاحف
والمتنزهات ونحوها. ما يعني بعبارة أخرى، مؤلمة، أن وضعها الأمني بدا في
تلك اللحظة هشاً للغاية وأن جميع أجهزتها الأمنية لم تكن على أهبة
الاستعداد لمثل هذا الطارئ. وإنها لم تتعظ من الضربات الارهابية المتلاحقة
التي تعرضت لها، وآخرها تلك الجريمة التي هزت فرنسا والمتمثلة في اقتحام
اثنين من الملثمين بأسلحتهما الرشاشة من نوع كلاشنكوف مقر الصحيفة الساخرة
«شارلي إيبدو» في باريس في 7 يناير/ كانون الثاني 2015 بحدود الساعة 11
صباحاً، وشروعهما بإطلاق النار على أعضاء هيئة تحرير الصحيفة وكل من تصادف
وجوده داخل مقر الصحيفة، حيث أسفر ذلك الهجوم عن مقتل 12 شخصاً وإصابة 11
آخرين. ولم ينته الأمر عند هذا الحد فقد تلت هذا الهجوم هجمات أخرى متفرقة
أسفرت عن مقتل 4 في احتجاز رهائن في بورت دو فانسان، وقتيل في حادثة إطلاق
نار في مونروج. أي أن الحصيلة النهائية للضحايا بلغت 17 قتيلاً في باريس
وضواحيها، إضافة إلى منفذي تلك الهجمات الارهابية الثلاثة سعيد كواشي وشريف
كواشي وأميدي كوليبالي. وبعد اسبوع من الحادثة، أي في 14 يناير/كانون
الثاني ظهر تسجيل مصور تبنى فيه تنظيم القاعدة في جزيرة العرب العملية،
وقال فيه المتحدث باسم التنظيم إن العملية تمت بأمر من زعيم التنظيم أيمن
الظواهري. يومها انطلقت في فرنسا مسيرات تحت اسم مسيرة الجمهورية مدعومة
بمسيرات في مدن أخرى في العالم هي الأضخم في تاريخ البلاد حيث ناهزت
3.700.000 مشارك، منهم حوالي مليونين في مسيرة باريس وحدها وبضمنهم نحو 50
من قادة العالم.


والحال أن معظم الدول الأوروبية وكندا وأستراليا أعلنت
بتصميم انضمامها إلى الحلف الدولي الذي شكلته واشنطن لشن حرب جوية ضد مواقع
تواجد مليشيات داعش في العراق وفي سوريا. ومع ذلك فإن الإرهابيين دائماً
ما يختارون فرنسا للثأر، ربما لأنها الموقع الأكثر رخاوة والناجم عن سنوات
من التساهل الحكومي مع التطرف الإسلامي في المدن والضواحي وصولاً إلى
العاصمة باريس. 


إنها لكارثة هذه التي حلت بفرنسا وبأسر ضحايا الهجمات
الإرهابية، وهي نكبة أخرى تضاف إلى نكبات الإنسانية في هذا الزمن الرديء.
إنما المؤسف حقاً أن السلطات الفرنسية لا بد أنها كانت على علم بأعداد
وأسماء الذين خرجوا من المنافذ الجوية والبرية والبحرية الفرنسية متوجهين
إلى سوريا، «أرض الجهاد» الجديدة، للمساهمة في إسقاط النظام السوري، أي
للمشاركة في تحقيق ذات الهدف الذي عملت من أجله فرنسا الرسمية بكل ما أوتيت
من قوة طوال الأعوام الخمسة الأخيرة. تماماً على غرار تعاون الولايات
المتحدة مع القاعدة إبان مرحلة «الجهاد الأفغاني» ضد السوفييت، وما جنته
بعدها على نفسها «براقش». ليتكرر المشهد من جديد بغض الطرف عن تنظيم النصرة
الذي هو فرع لتنظيم القاعدة في سوريا (حتى إنه خلع على نفسه اسم «قاعدة»
الجهاد في بلاد الشام)، وتعاوُن «إسرائيل» الصريح معه في ظل سكوت ومباركة
الرعاة من خلف الستار، وذلك رغم قرار مجلس الأمن الدولي الصادر بإجماع
أعضائه ال 15 يوم الجمعة 31 مايو/أيار والذي قضى بإدراج جبهة النصرة على
لائحة الإرهاب بسبب ارتباطها بتنظيم القاعدة، وفرض عقوبات عليها تشمل تجميد
أموالها على الصعيد الدولي وفرض حظر على إمدادها بالأسلحة.


مختصر القول
أنه إذا لم تتفق الدول فيما بينها على التنازل المتبادل بالكف عن استخدام
الإرهاب كورقة في الصراع الدولي، فإن العالم سيبقى رهينة هذه السياسات
المدمرة.
اقرأ المزيد

خالد البسًام الذي حوّل هامش التاريخ إلى متن

على خلاف ما يذهب
إليه عنوان رواية الكاتب الراحل خالد البسام: “لايوجد مصور في عنيزة”،  فان الكاتب يأخذنا في نهاية الرواية، في أداء متقن،
إلى انه قد أصبح في عنيزة مصور. في لحظةٍ ما في صفحات الرواية الأخيرة يستعيد يوسف
أحد أهم شخصيتين في الرواية، إلى جانب مساعد، الجملة التي كانت قد كُتبت محل الصورة
في جواز السفر الذي استخرجه، وهو يتأهب للمجيء للبحرين للعمل: “لا يوجد مصور في
عنيزة”، لتفسير غياب الصورة عن جواز السفر.

 سيقضي يوسف سنوات في البحرين، مقيماً في حي الفاضل
بالمنامة، مأخوذاً بروح البحرين الساحرة في أربعينيات القرن العشرين، يوم كانت إرهاصات
وبواكير الحداثة تعيد تشكيل صورة الجزيرة – الميناء المفتوحة على الدنيا، ويسبح في
ذلك العالم المدهش ويشاهد الغرائب بما فيها صور النساء التي تتحرك عبر شاشة السينما.

ولكن يوسف سيضطر
لمغادرة البحرين التي أحبها قافلاً ثانية إلى عنيزة، مُكرهاً حين أصيب بمرض التراخوما
الذي اكتشفه متأخراً بعد أن أتى على بصره، ولم يفلح أطباء المستشفى الأمريكي في المنامة
في علاجه. في عنيزة التي أتاها، بعد أن أصبح أعمى، قرر أن يكتب شيئا غير عادي لرفيق
عمره الذي أخذته الأقدار وهو شاب يافع إلى الزبير بالعراق ليعمل فيها ويتعلم ومن ثم
يتزوج من إحدى بناتها، لا بل وينخرط في احد أحزابها السياسية، ويدخل السجن لهذا السبب
قبل أن يذهب إلى كلكتا في الهند جريا وراء فرصة عمل أتيحت له هناك.

لمعت الفكرة في ذهن
يوسف، وفي الصباح ذهب إلى المصور الذي أصبح يتجول في السوق ويصور من يرغب في التقاط
صورة له. ووسط دهشة المصور الذي لاحظ أن يوسف أعمى وفكر بينه وبين نفسه: هذه أول مرة
أرى فيها كفيفا يريد صورة له، فهو لن يراها ولن يعرف إذا كانت متقنة أو لا. في الليل
ذهب يوسف إلى المجلس حيث يلتم شمل الرجال وطلب من أحدهم أن يكتب لمساعد في كلكتا رسالة،
قال فيها التالي: “أبشرك يا مساعد انه صار عندنا مصور ولأثبت لك وتذكرني بخير
أرسل لك صورتي التي التقطتها لتوي في السوق وسط دهشة المارة. أرجوك أن تعذرني انني
لا اعرف شكلي وكيف صار وجهي”.

تطواف ممتع يأخذنا
إليه خالد البسام من عنيزة في نجد إلى الزبير في العراق وحي الفاضل بالمنامة وكلكتا
في الهند، وسط حشد من الشخصيات أبرزها الصديقان يوسف ومساعد اللذان ستأخذهما الأقدار
كلاَ إلى وجهة، في ظرفٍ كانت المنطقة فيه تتسقط أخبار الحرب العالمية الثانية ونهايتها
بإلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان وهزيمة المانيا الهتلرية.

كأن خالد البسام
المولع بتقصي وقائع التاريخ ، لم يفارق في روايته الأولى ولعه الأثير، وكأن روح كتاباته
التي عرفناها وهو يتقصى كل ما يتصل بالبدايات، خاصة بدايات التغيير والاحتكاك بصدمات
الحداثة لم تفارقه، بل أكاد أزعم أن هذا التقصي شكل عدته الأساسية وهو يكتب الرواية.

خلَّف خالد
البسام رغم عمره القصير نحو ثلاثين كتاباً، وتراثاً كبيراً من المقالات الصحافية،
وبين إصداراته روايتان، فبالاضافة إلى “لا يوجد مصور في عنيزة”، كتب
خالد رواية ثانية هي: “مدرس ظفار”، حكى فيها قصته عندما تطوع للعمل
مدرساً في “مدارس الثورة” على الحدود اليمنية – العمانية في السبعينات،
مرحلة الثورة المسلحة في ظفار بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي.




ويظل الإنجاز
الأهم لخالد البسام هو كتبه حول الهوامش المنسية من تاريخ البحرين ومنطقة الخليج
العربي، حيث عكف على جمع مادة واسعة حول تلك القضايا التي لا يلتفت اليها المؤرخون
عادة، الذين ينكبون على تتبع الأحداث الجسام التي غيّرت مجرى هذا التاريخ من حروب وانقلابات
وثورات، ولكنهم، في الغالب الأعم، يغفلون ما يمكن أن نصفه ب”هامش التاريخ”
ونعني به تلك التفاصيل الكثيرة التي يبدو غالبها ذا طابع إنساني حميم، حتى لو لم تقع
في بؤرة الواقعة التاريخية.















 


 

اقرأ المزيد

سيرة مخيم اليرموك


تُصَّدر الشاعرة والكاتبة الفلسطينية مجد يعقوب كتابها التوثيقي «مخيم اليرموك – عاصمة الشتات الفلسطيني»، بعبارة بليغة قالها الفنان ناجي العلي في حوار أجراه معه غسان كنفاني.
 
يقول ناجي: «ما قلنا لك يازلمة، هالدنيا علمتنا كل إشي. عليم الله هاذا المخيم لحاله فيه علم أكثر من الجامعة الأمريكية اللي بيحكو عنها ببيروت».

تبدو هذه توطئة موفقة لنلج عالم هذا الكتاب المؤثر وهو يروي صفحات من الوجع الفلسطيني منذ النكبة الكبرى في عام 1948، حين وجد الفلسطينيون أنفسهم مجبرين على الرحيل عن بيوتهم وأراضيهم في فلسطين، نازحين إلى دول الجوار، حيث كان مخيم اليرموك خارج العاصمة السورية واحداً من أكبر المخيمات التي ضمت اللاجئين.

إنه نفس المخيم الذي ولدت فيه المؤلفة، وفيه تلقت خبراتها الأولى في الحياة، وفي أزقته وأنديته الثقافية نمت ولعها بالقراءة أولاً، وبالكتابة لاحقاً.

إنها حكاية نموذجية لأجيال، لا جيل واحد، من الفلسطينيين الذين تفتحت أعينهم على الحياة في الشتات.
ولأن الفلسطينيين شعب يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلاً، فإنهم حولوا مخيماتهم إلى مجموعة حيوات، لا حياة واحدة.
ويُقدم لنا الكتاب كيف حوّل أهالي المخيم مخيمهم إلى مجتمع حقيقي يضج بالحياة، وبورش الإبداع والتعليم والكفاح، لا مكان للانكسار والخيبة كما أريد للفلسطينيين أن ينتهوا إليه حين هجروا من وطنهم.

وصفتُ الكتاب في التقديم بأنه توثيقي، ولكن هذا توصيف ناقص. صحيح أن الكتاب ينطوي على مادة توثيقية كبيرة حرصت الكاتبة على جمعها بعناية من مصادر مختلفة حول مسار النكبة الفلسطينية منذ بداياتها، وتتبعت نشوء وتطور مخيم اليرموك ذاته، لكن الكتاب، إلى ذلك، يضم بين دفتيه مجموعة من الشهادات الحية من داخل المخيم، بما فيها ذاكرة مبدعين ومثقفين فلسطينيين خرجوا منه، وربما استوحوا من حياتهم فيه الكثير من إبداعاتهم.

في هذه الشهادات نقع على حيوات من لحم ودم ودموع، تنطق بمقادير المعاناة والصبر والصمود، والإصرار على أن تظل فلسطين حاضرة: تاريخاً وأملاً لا يموتان. وبين هذه الشهادات نقع على شهادة الكاتبة نفسها عن حياتها في المخيم، والآثار الحاسمة التي تركتها على تشكل شخصيتها، وهي شهادة مفعمة بالشجن والحنين والأمل والألم، وهي ذات المشاعر التي نلمسها في شهادات المبدعين الآخرين الذين حرصت المؤلفة على تضمينها في الكتاب، الذي دوّن سيرة المخيم حتى سنواته الأخيرة، حين وجد أهله مخيمهم وقد حولته المحنة السورية إلى ساحة حرب.
 
16/11/2015

اقرأ المزيد