المنشور

استحقاقات مؤتمر باريس للمناخ


أخيراً وبعد مفاوضات ماراثونية عسيرة، هددها الفشل في بعض مراحلها، أُسدل الستار في ضاحية لا بورجيه الباريسية على أهم مؤتمر عالمي لتغير المناخ بعد مؤتمر كيوتو لعام 1997 الذي أُقر فيه بروتوكول كيوتو الذي استغرق التفاوض بشأنه خمس سنوات منذ إنشاء اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ في عام 1992، ليكون برنامجا تنفيذيا لذلك البروتوكول والذي انقضت مدته البالغة 4 سنوات (من عام 2008 إلى 2012).
 
كان مؤتمر الأطراف ال 17 الذي عقد في مدينة ديربان بجنوب إفريقيا خلال الفترة من 28 نوفمبر إلى 9 ديسمبر 2011، قد اتخذ قرارا حمل رقم 1/‏CP.17 قضى بإطلاق عملية ترمي إلى وضع بروتوكول أو صك قانوني آخر أو وثيقة متفق عليها لها قوة قانونية في إطار الاتفاقية تسري على جميع الأطراف، من خلال إنشاء هيئة فرعية في إطار الاتفاقية بموجب هذا المقرر سُميت ب «الفريق العامل المخصص والمعني بمنهاج ديربان للعمل المعزز» (The Ad Hoc Working Group on the Durban Platform for Enhanced Action – ADP)، وأن يبدأ هذا الفريق عمله على سبيل الاستعجال في النصف الأول من عام 2012، وأن يقدم تقارير عن تقدم أعماله إلى الدورات المقبلة لمؤتمر الأطراف، وأن يكمل عمله في أقرب وقت ممكن، وعلى ألا يتجاوز عام 2015، و ﺑﻬدف اعتماد البروتوكول المذكور أو الصك القانوني أو الوثيقة المتفق عليها التي لها قوة قانونية، في الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الأطراف بحيث يبدأ نفاذ النص المعتمد وتطبيقه ابتداء من عام 2020  .
 
وهكذا كان، ففي مؤتمر الأطراف ال 21 الذي أنهى أعماله مؤخرا (من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر 2015) في باريس، أنهى «الفريق العامل المخصص والمعني بمنهاج ديربان للعمل المعزز» مهمته وتمكن من تسليم نص مسودة الاتفاق الجديد لتغير المناخ إلى رئاسة المؤتمر (وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس) الذي عرضه بدوره على الاجتماع العام لأطراف التفاوض الذي عقد مساء الثاني عشر من ديسمبر 2015 لإقراره في جلسة تاريخية شهد حضورها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وآل غور نائب الرئيس الأمريكي الأسبق (في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون) وحشد كبير من كبار الوزراء والمسؤولين من كافة أنحاء العالم، ومختلف أجهزة الميديا العالمية التي حضرت خصيصا لتغطية هذه اللحظة التاريخية الفارقة في حياة الكوكب الأرضي.
التقرير الخامس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ.
 
(Intergovernmental Panel on Climate Change)، ومنها التقرير التجميعي الذي يضم أجزاء التقرير التالية: المناخ 2013: الأساس العلمي الفيزيائي، تغير المناخ 2014: الآثار والتكيف وهشاشة الأوضاع، تغير المناخ 2014: التخفيف من تغير المناخ – يؤكد بأنه حتى بالنسبة لأفضل السيناريوهات، لا يزال أفضل تقدير لمعدل الاحترار بحلول عام 2100 أدنى من 4 درجات مئوية. فقد كان كل عقد من العقود الثلاثة الأخيرة على التوالي أكثر احتراراً عند مستوى سطح الأرض من أي عقد سابق منذ عام 1850. ومن المرجح أن الفترة من عام 1983 إلى عام 2012 كانت أدفأ فترة 30 عاماً خلال فترة ال 1400 سنة الأخيرة في نصف الكرة الأرضية الشمالي الذي ينطبق عليه هذا التقييم. ويتوقع الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ بأن زيادة درجة الحرارة في منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط ستتسبب في أن تصبح المناطق الجافة أكثر جفافاً.
 
مما تقدم يتضح أن العالم مقبل على كوارث مناخية، بحسب التقرير، إذا ما بقي العالم يشتغل اقتصاديا على النمط السائد حالياً (Business As Usual)، حيث إن ارتفاع درجة الحرارة بواقع نحو 4 درجات فوق المعدل المسجل قبل الثورة الصناعية (1750-1850)، بنهاية القرن الحالي، سوف يفضي إلى الكوارث التي يحذر منها التقرير، وبضمنها ارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار، وغمر مناطق جزرية وساحلية بكاملها. ولذلك جاء نص المادة ال (2) في اتفاقية باريس لتغير المناخ الجديدة، بأن الهدف العالمي هو ألا يتجاوز ارتفاع درجة الحرارة أقل من درجتين مئويتين بل والعمل على جعل هذا الارتفاع عند حدود 1.5 درجة. وليست بلداننا الخليجية استثناءً من هذا السيناريو المفزع بالنظر لكونها محاطة بمياه البحار من الشرق والغرب والجنوب. هذا فضلا عن الآثار الاقتصادية الخطرة التي سوف تنجم بالضرورة عما يسمى تدابير الاستجابة (Response Measures) التي تتخذها مختلف البلدان الأعضاء في الاتفاقية للوفاء بالتزاماتها في خفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري وفي مقدمها غاز ثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى الالتزامات التي رتبتها الاتفاقية الجديدة على دول مجلس التعاون بضرورة الشروع في اتخاذ المبادرات لخفض انبعاثاتها، بما يعنيه ذلك من تخصيص أموال إضافية لهذه المبادرات وبالتالي ارتفاع تكاليف عملياتها الإنتاجية وخفض تنافسية منتجاتها وخدماتها ترتيباً. إضافة إلى اضطرارها لإبطاء دورتها الاقتصادية لتقليل حجم انبعاثاتها.
 
 
حرر في:   31/01/2016

اقرأ المزيد

خلوة ما بعد النفط


قبل فترة أجرى موقع إلكتروني خليجي ما يشبه الاستطلاع بين مرتاديه حول صورة منطقتنا الخليجية بعد انخفاض أسعار النفط. وكما هو متوقع، فإن الصورة التي رسمها المشاركون لهذا المستقبل بدت متشائمة وسوداوية، وهذا هو الأمر المنطقي ما لم يجر الاستعداد لهذه المرحلة، فعندما ينضب النفط أو تشهد أسعاره سقوطاً مدوياً فإن العجز سيحل محل الفائض، وستجد الحكومات نفسها مضطرة للاقتراض، وتحمّل التبعات الكثيرة الناجمة عن ذلك، ما يجعل بلدان المنطقة أمام أزمات جدية غير مسبوقة.

خلوة «ما بعد النفط» التي جرت في «باب الشمس» تقدم نموذجاً إماراتياً يحتذى به في توفير الجاهزية الضرورية لمواجهة تحديات المستقبل. والمستقبل مقصود هنا في معناه الواسع، لا القريب فقط، فهذا الأخير باتت معالمه بالانخفاض الكبير في أسعار النفط في السوق العالمية، وقد يكون هذا الانخفاض، حتى لو طال، مؤقتاً كسوابقه، فتصحح السوق الأسعار مرة أخرى، حتى لو لم تعد إلى المعدلات الكبيرة التي بلغتها.
 
ولكن التعويل على أمر مثل هذا سيجعل من جهود التعامل مع انخفاض أسعار النفط مجرد ردة فعل آنية، بينما ذهبت خلوة «باب الشمس» إلى أمر آخر هو وضع الخطط التي يكون فيها اقتصاد الدولة بكامل عافيته حين يجري توديع آخر بئر من النفط، ففرضية تجاوز أزمة أسعار النفط الراهنة في المستقبل فرضية لا يعول عليها، فحتى لو حدث هذا التجاوز فإن ذلك لا يلغي إمكانية تكراره بوقع أكبر وبطاقات ونتائج أشد وخامة.

في خلوة «باب الشمس» تظهر دولة الإمارات من جديد ما تتحلى به إدارتها للملف الاقتصادي والتنموي من حكمة وحصافة وبعد نظر، جعلت من اقتصادها واحداً من أقوى اقتصادات المنطقة، وأكثرها قدرة على مواجهة التحديات، وأكثرها جاهزية للتعاطي مع أية متغيرات مفاجئة، بفضل توفر الإرادة السياسية الواعية بمخاطر المستقبل والقادرة على صوغ الاستراتيجيات الضرورية للتعامل الناجع معها.

منطلق هذه الإدارة الإماراتية الناجعة هو إدراك أن النفط ثروة غير متجددة وناضبة، وحتى قبل نضوبها فإن أسعارها عرضة لتقلبات دراماتيكية تجعل من الصعب الركون إليها وحدها في وضع الخطط التنموية. وبالتالي فإن التعويل هنا يجب أن يكون على تعدد مصادر الثروة، لتشييد اقتصاد منسجم ومتماسك، وهذا لن يتحقق إلا ببناء ثروة بشرية منتجة ومبدعة يمكن التعويل على طاقاتها ومداركها في التعامل في رسم صورة المستقبل.
 
 
حرر في: 01/02/2016

اقرأ المزيد

ربيع أم خريف؟


في مثل هذا الوقت قبل خمسة أعوام، كان العالم العربي يمور بتحولات عاصفة، هي تلك التي أطلق عليها فيما بعد مصطلح «الربيع العربي» الذي يقال إن صحيفة «الإندبندنت» كانت أول من استخدمه في توصيف ما كان يدور، وسرعان ما بات على كل لسان، يتردد في المحافل والندوات وعلى المحطات الفضائية.

ولكن ما بدا أنه ربيع، أو بشارات ربيع يومها، سرعان ما تحول إلى أمر آخر، يمكن أن يكون خريفاً أو شتاء، ودخلت المنطقة في مسلسل مخيف من الفتن والحروب الأهلية والاقتتالات الداخلية، ما جعل حتى أشد المتشائمين في حيرة من أمرهم: كيف آلت تطلعات الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إلى ما آلت إليه، فبات المواطن العربي ينشد الأمن والاستقرار ويفضله بديلاً للمخاضات الدموية الجارية التي لا يعرف بعد ما إذا كانت قد وصلت إلى خواتمها، أو أننا لم نر حتى الآن سوى قمة جبل الجليد، وأن الآتي قد يكون أفظع مما جرى ويجري؟

والحق أن ما كانت الشعوب تهفو إليه حتى إن توارى تحت ضغط ما شاهدناه، فإنه يظل تطلعاً مشروعاً، يتصل بالدرجة الأولى بأحلام أجيال طالعة، تنشأ وسط متغيرات ومتحولات كبرى يشهدها العالم، وتطمح لأن تعيش في حال أفضل مما عاشت فيه الأجيال الأسبق، ما يجعل ضرورياً التبصر في الأسباب التي قادتنا إلى ما نحن فيه.

تبرز هنا مسألتان، لعلهما في صدارة ما يستحق الوقوف أمامه، أولاهما هو ما وقع فيه من تصدروا الهبّات التي جرت حين لم يفرقوا بين نظام الحكم والدولة، فالأخيرة هي مؤسسات راسخة تضمن وحدة الوطن وسيادته، فإذا استهدفت هذه المؤسسات ودُمرت فقد الوطن ثباته وديمومته، وآل إلى التشرذم والتمزق والعودة إلى ما كان عليه قبل بناء الدولة، ووجدنا نموذج ذلك فيما فعله الحاكم العسكري الأمريكي بريمر في العراق حين حلَّ الجيش وفكك مؤسسات الدولة. وهذا ما وقعت فيه بعض الهبّات التي شهدناها، خاصة حين جنحت نحو العنف والعسكرة.

أما المسألة الأخرى فهي وقوع بعض القوى المتصدرة لتلك الهبات أسيرة لإرادة الدول الإقليمية المحيطة بالعالم العربي، والمعنية بمصالحها، والتي توسلت الأَردية المذهبية للتستر على جوهر أجنداتها في بلداننا العربية، أكانت هذه الأردية شيعية أو سنية، كما في حالي إيران وتركيا، فخرجت الهبّات عن طبيعتها كتحركات شعبية مشروعة، لتتحول إلى حروب أهلية في الشكل، إقليمية بالوكالة في الجوهر.
 
حرر في: 31/01/2016

اقرأ المزيد

للديمقراطية شروطها أيضاً.. الهند نموذجاً


استمعت مؤخراً إلى مقطع فيديو يحاضر فيه أحد الأساتذة المثقفين الخليجيين عن حاجة مجتمعاتنا إلى الديمقراطية. وقد اختار أن يرد بقوة وثقة بالغتين، إنما مشبوبتان بعاطفة شاخصة في نبرة حماسة الانحياز المطلق غير المتحفظ لاستحقاق شعوب منطقتنا للديمقراطية، ومتشجعة بحرارة تصفيق جمهور الحاضرين النخبوي..وذلك في معرض تخصيصه شطراً من محاضرته للرد على الأصوات المشككة في إمكانية وفرص نجاح الديمقراطية كأداة إدارة كلية مجتمعية في عالمنا العربي، بسبب تخلف شعوبنا وعدم حسن تعاملها مع زمام مسؤولية استخدام هذه الأداة العظيمة، ولكن الخطيرة في نفس الوقت. واستشهد بشعبي الهند وبنغلاديش، متسائلاً: هل هما أكثر تطوراً منا؟

ينزع الكثيرون في عالمنا العربي، ومن ضمنهم محاضرنا الكريم المنوه عنه، وهم يناظرون ويناقشون الأزمة العامة في العالم العربي، ومن ضمنها أزمة الحريات، إلى تبسيط عملية اقتراح مقاربات الحلول «الناجعة» لهذه الأزمة، وعلى رأسها مقاربة الديمقراطية التي يقاربونها بمنزلة الحل السحري لكل عناصر الأزمة الضاربة عميقاً داخل البنى والهياكل المادية (المؤسسية)، والروحية لبلداننا، دول سيادية ومجتمعات ذات «خصوصية مضافة» لخصوصيات مجتمعات بلدان الشرق الاستبدادي.

الآن، وما دام الشيء بالشيء يذكر – فيما خص المقارنات المعقودة، خفة، بيننا وبين بيئات أخرى مختلفة تماماً.. إما لجهة مستوى التطور الحضاري الشامل أو لجهة المزاج العام للشخصية المجتمعية والفردية المتشكلة عبر مئات السنين من التقاليد والترويض والأنسنة – لعل من المفيد هنا أن نتذكر أن شعوب شبه القارة الهندية حين قررت أن تبني على ذلك الرصيد من حصاد سنين تشكل شخصيتها الجمعية، التي هي بالضرورة حاصل جمع الشخصية الفردية لجموعها، في اختيار مقاربتها الخاصة بالإدارة الكلية المجتمعية، المناسبة والآمنة لشق طريقها التنموي، فإنها اتفقت منذ البدء على اعتماد المواطنة معياراً أساسياً لنسج عقدها الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وعدم السماح لأي مكون أو جماعة أو طائفة إدراج هويتها الفرعية، الدينية أو المذهبية، ضمن حسابات نموذج المواطنة المصاغ لحفظ الهوية الوطنية الجامعة.

لهذا السبب تمكنت تلك الشعوب في آسيا الجنوبية من إصابة النجاح المأمول من مقاربتها للديمقراطية التي اعتمدتها كأداة تسيير مجتمعي على مدار السنين الماضية، منذ أن تحررت من مستعمرها البريطاني.

بيد أن ما أبدته من ضعف في العقود القليلة الماضية أمام تجاسرات العصبيات الدينية والطائفية التي بعثتها قلة حيلة مجتمعاتها أمام تحولات الحياة العظيمة، قد وضعها على نفس سكة مأزق الإدارة الكلية المجتمعية لبقية المنظومة العالم ثالثية.
 

في باكستان لجأت الأحزاب الباكستانية ومؤسسات الحكم العسكرية والأمنية، وحتى المدنية، خلال العقود الأربعة الأخيرة لاستحضار العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية في الحياة السياسية الباكستانية. وفي السنوات القليلة الماضية حذت بنغلاديش حذو جارتها باكستان التي اختارت الانفصال عنها بالحرب في ديسمبر/كانون الأول من عام 1971، حيث أصبح طغيان وتنمر المنظمات والتشكيلات ذات التوجهات الدينية المتطرفة، العنوان البارز في الحياة السياسية البنغلاديشية. فكان أن ذهب ضحية هذا الطغيان، اغتيالاً وتصفيةً جسدية، عديد الأعلام الفكرية والثقافية والسياسية، بل وبعض الخبراء الأجانب الذين يعملون في بنغلاديش. وحتى الهند التي لطالما عُرفت بعراقة ديمقراطيتها وصيتها الذائع في التسامح الديني، تخضع الآن لعملية ضخ دينية إقصائية من جانب أوساط نافذة وواسعة داخل حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة نارندرا مودي الذي أعادته صناديق الاقتراع إلى السلطة في شهر مايو/أيار من عام 2014.

هذا الحزب عاد إلى السلطة بوعود اقتصادية إصلاحية براقة وبرافعة الطائفية الهندوسية التي شدت زعامة الحزب عصابها ونفخت في كيرها داخل الديار وفي بلدان الشتات التي تستضيف أكبر الجاليات الهندية. ومع وصول الحزب للسلطة عاودت عملية الاصطفاف العصبي الهندوسي دورانها في الاتجاه المضاد لمحور محتوى الديمقراطية الأول: المواطنة. والآن، ومع استحضار الشد العصبي الديني فمن الممكن أن يفضي وضع الديمقراطية الهندية العريقة في أيد مسكونة بالخوف، المؤسس دينياً، من الآخر، إلى تحولها لقنبلة موقوتة. ولعل من المناسب أن أسوق لكم أحد الشواهد المقلقة التي أطلت برأسها في الجو الذي يجري شحنه ب«صهيل» العصبيات الخارقة للعقد الاجتماعي. الممثل الهندي المسلم عامر خان المتزوج من هندوسية والمعروف في الوسط الهندي بمصداقيته وبمناقبياته العالية، فجّر مؤخراً جدلاً صاخباً في أوساط النخب الهندية من ساسة ومثقفين وفنانين وممثلين بعد أن قال إنه ربما يفكر في الهجرة من الهند إثر تراجع التسامح الديني والصعود الخطير للمتشددين وتصدرهم للمشهد السياسي وأجنداته الاجتماعية والثقافية منذ وصول حزب بهاراتيا جاناتا المعبر عن الأوساط الهندوسية المحافظة والمتطرفة، إلى السلطة.

في مقال نشره موقع «بروجيكت سنديكيت» بتاريخ 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، كتب وزير الدولة السابق لتطوير الموارد البشرية ووزير الدولة للشؤون الخارجية السابق والنائب الحالي في البرلمان الهندي عن حزب المؤتمر «شاشي ثارور»، بعد أن استعرض عدداً من حوادث قتل المسلمين والهندوس الذين أشيع عن تناولهم لحوم الأبقار، بأن هذه الموجة من أعمال القتل بدوافع دينية تكشف عن مشكلة خطيرة في المسار الذي تسلكه البلاد في عهد مودي. علماً بأن دستور البلاد يتضمن نصاً يحث صراحة على الانتقال التدريجي نحو الحظر الكامل لذبح الأبقار، وهو الحظر الذي تم تنفيذه بالفعل في أغلب الولايات. إنما مع جدارة التنويه بأنه على مدى أغلب تاريخ الهند كان النهج الأساسي – والكلام لكاتب المقال – يتلخص في مبدأ «عش ودع غيرك يعيشون». ويكمل قائلاً بأن «حكومة مودي أعطت صوتاً لنوع غريب من الشوفينية الهندوسية، تلك التي تعتنق التأكيد النشط على نسخة ضيقة الأفق من العقيدة الإيمانية، مع أن الهندوسية ليست أصولية، فهي ديانة تخلو بشكل متفرد من الأصول الأساسية: فهي تفتقر لوجود كتاب مقدس منفرد، أو نسخة منفردة من الألوهية.

يوم الأحد 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أرسل الناخبون، في الهند رسالة لمودي مضمونها، «ضع حداً للترويج للكراهية». حيث خسر مودي وحزبه، بهاراتيا جاناتا، في الانتخابات التشريعية في ولاية بيهار الشمالية، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 100 مليون نسمة، التي فاز فيها «التحالف الكبير» الذي ضم الأحزاب العلمانية المؤتلفة ضد سياسات حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي، ب 178 دائرة انتخابية في المجلس التشريعي الذي يضم 243 عضواً، مقابل 53 دائرة فاز بها حزب بهاراتيا جاناتا. وفي ذروة ردة فعل موازية، أعاد ما يقرب من 40 من أبرز الكتاب والشعراء الجوائز التكريمية التي منحتها إياهم الأكاديمية الأدبية احتجاجاً على صمت الأكاديمية وغيرها من الهيئات الحكومية في أعقاب قتل ثلاثة من المثقفين على أيدي المتشددين الهندوس.
 
 
حرر في:    29/01/2016
 

اقرأ المزيد

الجمعيات الخاملة.. ماذا بعد..؟!


دعونا نتكلم بمنتهى الصراحة والأدب..
هل من المصلحة الدفع نحو جعل الجمعيات الأهلية، او منظمات المجتمع المدني، والجمعيات السياسية في المقدمة، بمثابة الكيانات الكسيحة، او المعوقة، او من ذوات الاحتياجات الخاصة، او جعل حالها لا يختلف عن حال الأيتام على موائد اللئام، او جعلها رهينة عند جهلة او اصحاب مصالح او انتهازيين يقدمون أنفسهم بوصفهم «الشغالين، الحريصين، الغيورين حاملي عبء مقتضيات المصلحة العامة على اكتافهم».. اقحموا العمل الإهلي في لعبة البطانات والحاشيات والطموحات والمصالح الشخصية تارة، ولعبة الطوائف والأقطاب والاستمالات تارة اخرى، جرى ذلك على نحو معيب بأي معيار في الحالتين..!!!

هل يمكن ان يقول لنا أحد ممن يفترض أنهم معنيون بشكل او بآخر، لمصلحة من الإنكباب على تلويث أجواء عمل تلك الجمعيات والمؤسسات واستمرار «فولكلور» بعضها في ممارسة أعمال أفرغت اهداف كل منها من مضامينه وعلى نحو مروع، وكبلت إمكانيات الفعل الحقيقي المنتظر او المفترض، ووسعت من الشكليات والبهرجات العقيمة، وكرَّست الهيمنة عليها من بعض من برعوا في تجويد العبث، وبات هذا منجزهم الحقيقي، ان من بين هؤلاء من بذلوا المستحيل ولا زالوا كي يوهمونا بانهم مصدر رائع للحكمة ويدعون الى الوطنية، ولكن من زاوية انها غنيمة، يقررون مصيرها، وينطقون باسمها، ولكنهم أضاعوا اتجاهها، وجعلوا حصيلة الكيانات التي أمسكوا بها حصيلة مريرة بكل المقاييس، بعد ان احتجزوها في انانيات، او جعلوها مطية لمصالح أو لمآرب مفتضحة، او صهوة لمن لا صهوة له، ووجدنا كيف ان جمعيات تأسست على مقاس البعض، زركشوها بالشعارات، وبالخطب الواهية الطنانة الرنانة ولنا في الواقع دليل بل أدلة، ونعلم كيف يكون حال اي مؤسسة او جمعية حين تسلم أمرها لأفراد منها او يجير كيانها لهم، وخطير ان تتقزم اي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني أو جمعية سياسية الى فرد او أفراد، او ان يكون جل عملها لصالح حضورهم الشخصي، وإظهارهم أحيانا بل في كثير من الأحيان على انهم حكماء، وهم إن كانوا ينتحلون صفة العام إلا ان يسوقوا أنفسهم وكأنهم يبحثون عن عمل او عن دور يحتجزونه ويحتكرونه وينفخون في ذاتهم بلا هوادة، او ليثبتوا انهم موجودون، همهم ان يبقوا في الواجهة حتى وان استضعفوا كياناتهم واختزلوها في أشخاصهم وطموحاتهم المرتجفة ويديرونها على طريقة ألعاب «الفيديو جيم».. يتكئون على شعارات صدئة ملَّ الناس منها، وهذه واحدة من ألمع مهاراتهم في مسيرته المظفرة..!!

أليس ذلك هو حال بعض المؤسسات والجمعيات، خاصة تلك التي احسب ان الجميع يعلم دوافع تأسيسها ويعرف كيف وفي اي ظرف ووضع وعلى اي أساس تأسست، وكيف هو حالها الآن، وكم هي مساحة الاهتراء التي تعاني منها لتصبح في أبسط توصيف جثة هامدة في انتظار مهرجانات تأبينية، وحتى توصيف هذه الكيانات بانها جمعيات خاملة على حد تعبير وزير العمل والتنمية الاجتماعية أمر ينطوي على اعتراف بمرض عضال في واقع الحال، ربما لم نتوقع ان يرتفع صوت مسؤول بالحديث عن جمعيات الخواء المفرغة حتى من الفراغ..! فالوزير الذي نفترض انه يقف على أرضية صلبة من المعرفة بأوضاع الجمعيات، على الأقل تلك التي تنضوي تحت إشراف وزارته، اعلن أخيراً عن وجود جمعيات خاملة، وجمعيات ورقية، كأن التوصيف او التسمية او العنوان هو الذي ينقصنا، لا تمارس اي نشاط، والتي تأسست – بحسب الوزير – وليس في نية مؤسسيها إضافة اي عمل نوعي للمجتمع، وإنما لرغبة رئيسها مثلا بان يكتسب صفة ما في المجتمع.. يا لهول هذا الاكتشاف الذي لم يكن ليعلن عنه لولا سؤال برلماني عن وضع الجمعيات، هذه الجمعيات التي لوثت أجواء العمل الأهلي العام، والشأن العام، وأمست مهزلة بعد ان وصل حال هذه الجمعيات الى ما وصلت اليه..

هناك بحسب ما اعلن 617 جمعية اهلية، 28% منها خاملة، اي ان هناك 174 جمعية خاملة او متعثرة او جمعية الشخص الواحد، او جمعية الشلة، او جمعية مجموعة طائفيين، او جمعية مجموعة «نرجسيات» ليس في بال القائمين عليها سوى الرئاسة لمن، والإعلام لمن، والوجاهة لمن، و«الرزة» لمن، الى آخره، وفي الأغلب ان كل منصب فيها مرسوم على قياس هذا او ذاك، غير قابل للتداول، وممنوع بزوغ أدوار من خارجها لأن المسألة خاصة عند الذين لا ينتجون اكثر من ذواتهم، يصبح وكأنه صراع على الوجود..!!

عندما يصبح الوضع الى هذا الحد بالنسبة لبعض الجمعيات، وتحل الكآبة في واقع العمل الأهلي، كآبة مناخ مثقل بالمرارة والعجز والضجر العميق المولود من بطن الخيبة المتغلغلة في الأساسات والتشكيلات المرتجلة والدوافع المبهمة والتخبطات والصراعات والشللية والشلل ونرجسيات طالبوا الأدوار، وكل ما يدور او يتداول في الكواليس، وقد بدأ يتردد في إسراف واضح وتكرار ممل الكثير من الكلام واللغط حول أوضاع مأساوية لجمعيات بعينها، وحول جمعيات صورية دأبت على فبركة الانجازات، وتلك التي انتهت قبل ان تبدأ رغم كل الصخب الذي رافقها واظهرها بأنها ستكون متوهجة في عطائها وانجازاتها، وحول جمعيات رفعت بضعة شعارات رددتها حتى ابتذلت وافرغت من مضامينها وأصبحت بلا معنى.. ولا احسب ان ثمة موجب لتقديم أدلة والاستعانة بشهود إثبات..!! 
لن نتوقف عند حدود الاعتراف بوجود الجمعيات الخاملة والتي باتت بحاجة الى الكثير من أدوات التجميل لعلها تزيل القبح الذي تطل به علينا، خاصة تلك التي تأسست ونشأت وترعرعت وشبت على الالتباسات و«تأزيل» الجمود، وتسطيح القضايا، والخروج من نطاق أدنى فاعلية او تأثير، والأسوأ تلك الجمعيات التي اعتادت ان تقوم بما يجعلها من أرباب الطائفية، او على الأقل المستسلمة للمشيئة الطائفية في مشهد يبدو برمته عبثياً أسوأ وأخطر ما فيه ان يستهلك احتياطي الأمل لدينا مثلما استهلكت أشياء أخرى..!!

نعود ونقول لا ينبغي التوقف عند حدود تلك الجمعيات، هناك بالمقابل جمعيات سياسية ومنظمات مجتمع مدني لم تكن يوماً جمعيات من ورق، بل هي ذات حيوية وشأن في المجتمع، وجزء عريق من تكوينه والحراك المجتمعي والسياسي، ولا يساء الظن بنياتها، جمعيات ومنظمات تعمل حقاً من اجل واقع ومستقبل افضل وبمقتضى التزام وطني حقيقي كهدف وغاية، قد يختلف البعض على منهج عمل او أداء هذه الجمعية او تلك، وقد يسجل البعض مآخذات او نقد على هذه او تلك، والنقد الحقيقي ليس بقليل، ولكن يصعب الاختلاف على وطنية هذه الجمعيات. وليس من الحكمة ان يمارس عليها اي تضييق او خناق، او ان تكون عرضة لتهديد وقف الدعم المالي عنها، حتى وان جاء بذريعة التقشف، في الوقت الذي لا تزال تصرف إعانة لغرفة التجارة، وأي إعانة، مليون دينار سنوياً..!!

يمكن ان يقال الكثير في شأن واقع مؤسسات مجتمعنا المدني، من جمعيات، ومؤسسات، ونقابات، واتحادات، ومراكز، والمطلوب ان يفتح هذا الملف بمنتهى الوضوح والجرأة ومن دون ارتجال، علينا ان ندرك بان المطلوب هو تحرك حقيقي يعالج كل التشوهات في هذا الواقع، وليس نيات، مجرد نيات مثقلة بالعجز، قوة المجتمع المدني في اي مكان وزمان دليل عافية للوطن، وهذا يكفي..
 
 


الثلاثاء 19 يناير 2016

اقرأ المزيد

هل يعود اليمين إلى السلطة في أمريكا اللاتينية؟


” لقد ولت تلك الأيام التي كانت فيها أجندتنا في هذا الجزء من نصف الكرة الأرضية التي تفترض أن بمقدور الولايات المتحدة التدخل في بلدانه والإفلات من العقاب، دونما أي محاسبة أو عقاب”. كانت هذه هي الكلمات التي نطقها الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام تجمع قيادات منتدى منظمات المجتمع المدني في أمريكا اللاتينية، على هامش مشاركته في قمة منظمة الدول الأمريكية التي عقدت في بنما في شهر إبريل من العام الفائت. فهل كانت هذه التطمينات مجرد أقوال مرسلة أوجبتها مقتضيات ممارسة وظيفة دبلوماسية العلاقات العامة في تلك اللحظة، أم أنها تعبر فعلاً عن تخلي واشنطن جدياً عن سياساتها «الاقتحامية» في الشؤون الداخلية لبلدان أمريكا اللاتينية، بوحي من مبدأ الرئيس الأمريكي الراحل جيمس مونرو لعام 1823؟.. بهذا التساؤل توقفنا في مقال الأسبوع الماضي «أمريكا والعالم..أمريكا اللاتينية نموذجاً».

قبل الرئيس أوباما كان الرئيس الثامن والعشرون للولايات المتحدة الأمريكية وودرو ويلسون (4 مارس/آذار 1913 4 مارس 1921)، قد وعد بأن الولايات المتحدة لن تستولي بالقوة مرة ثانية على موطئ قدم إضافي في أمريكا اللاتينية، كما اختار ممارسة ضبط النفس وعدم التدخل ضد الثورة المكسيكية (1910 1934) التي اندلعت أثناء فترة رئاسته. وقد كانت واشنطن مستعدة لاستخدام تفسير روزفلت لمبدأ مونرو بتبرير الاحتلال الكامل للمكسيك، إلا أنها اختارت اتباع «سياسة الانتظار الحَذِر». مع أن السفير الأمريكي في المكسيك كان جزءاً من خطة الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش المكسيكي فيكتوريانو ويرتا مطلع عام 1913 للإطاحة بزعيم الثورة المكسيكية فرانسيسكو ماديرو. كذلك فإن الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت الذي امتدت ولايته من عام 1933 الى 1945، استهل ولايته بالتعبير عن اتباعه سياسة حسن الجوار مع بلدان القارة، وقام باستكمال سحب قوات بلاده تدريجياً من الدول الأمريكية الصغيرة التي احتلتها، بالتوازي مع تنازل بلاده عن امتيازاتها الخاصة التي انتزعتها لنفسها. ولكن سرعان ما عادت واشنطن فيما بعد بعزيمة أقوى لممارسة جبروتها ونفوذها على بلدان القارة.

فهل تصدق هذه المرة وعود الرئيس أوباما للأمريكيين الجنوبيين، بعدم التدخل في شؤون بلدانهم؟..لنضع هذه النوايا على محك الواقع الراهن ونفحص مدى جديتها من عدمها. في الواقع لقد عمدت الولايات المتحدة في مطلع تسعينات القرن الماضي، على خلفية انهيار الاتحاد السوفييتي وانحسار موجة الحرب الباردة، الى إرخاء قبضتها الفولاذية التي ظلت تمسك بها تلابيب الحياة السياسية في بلدان قارة أمريكا الجنوبية ذات المساحة البالغة حوالي 17.9 مليون كيلومتر مربع وعدد السكان البالغ حوالي 371 مليون نسمة (2005) والتي نال معظم بلدانها استقلاله عن إسبانيا بحروب التحرير في حوالي عام 1823. فكان أن اجتاحت بلدان القارة موجة عاصفة من التحولات الديمقراطية العميقة التي وضعت حداً للدكتاتوريات السوداء المسنودة بالجار الأمريكي. هذه التطورات الدراماتيكية لم ترق لواشنطن التي عادت، بغض النظر عن إداراتها المتعاقبة، لمناوئة الحكومات الجديدة التي اتخذت منحنى سياسياً مستقلاً، مغايراً تماماً لتوجهات الأنظمة الدكتاتورية السابقة الموالية لها. فناصبت العداء لفنزويلا منذ أن فاز في انتخاباتها الرئيس الراحل هوغو تشافيز في عام 1999 والذي اشتُهر بانتقاداته الحادة للسياسة الخارجية الأمريكية وبمناداته بتكامل بلدان أمريكا اللاتينية سياسياً واقتصادياً. ولم تعدم وسيلة للإطاحة به، سواء عبر المحاولات الانقلابية أو تقديم كافة أشكال الدعم للمعارضة اليمينية لترجيح كفتها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا واستخدمتها، الى أن نجحت أخيراً في تمكين المعارضة اليمينية من الفوز بأغلبية الثلثين في الانتخابات البرلمانية التي جرت في السادس عشر من ديسمبر/كانون أول الماضي، مستفيدة من تردي الوضع الاقتصادي وأحوال الناس جراء انهيار أسعار النفط والإنفاق الحكومي الضخم الذي لم يعد ممكناً بسبب تآكل إيرادات البلاد النفطية.

الأمر نفسه ينطبق على الأرجنتين، فما أن وصل، انتخابياً، إلى رئاستها نيستور كيرشنير في عام 2003 الذي نجح في إعادة الاستقرار إلى الاقتصاد الأرجنتيني بعد انهياره إثر الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي عصفت بالبلاد عام 2001، وخلافة زوجته كرستينا فيرنانديز كيرشنير من بعده، إثر فوزها بنسبة ساحقة بلغت 44.6% في انتخابات 2007، وفوزها ثانيةً بأكثر من 54% في انتخابات 2011، حتى أضحت البلاد هدفاً ثابتاً للضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية والنفسية، والتدخلات السافرة في شؤونها الداخلية من خلال الدعم المكشوف لخصوم النظام الذي استن سياسة استقلالية أغضبت واشنطن وحلفائها الأوروبيين، الذين ما انفكوا يشنون الحملات الإعلامية المشككة في اقتصاد البلاد واتهام النظام ومؤسساته بالفساد، إلى أن قيض لمرشح المعارضة اليمينية ماوريسيو ماكري الفوز في الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة التي جرت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على مرشح البيرونيين اليساري دانيال سيولي.
 
والهدف القادم هو البرازيل، فهي الأخرى تحت المجهر الإعلامي الغربي، لا تكاد تفارق تغطياته لأحداثها من زاوية التأشير على فساد حكم اليسار فيها وفساد إدارته للبلاد. حتى وصل الأمر إلى قيام وكالة الأمن القومي (NSA) بالتجسس على البريد الإلكتروني للرئيسة البرازيلية دلما روسيف، حسبما كُشف عنه النقاب في يونيو/حزيران 2012، وإن البرازيل كانت، بحسب تسريبات إدوارد سنودين، الهدف الأكبر لتجسس الوكالة. مجلة «الإيكونومست»، على سبيل المثال، التي تقسم تغطياتها لأحداث العالم، إقليمياً، أفردت في عددها الأسبوعي 12 18 ديسمبر/كانون الأول 2015 بكامله لفنزويلا والأرجنتين والبرازيل. وجميعها تغطيات ذات نبرات تسقيطية وتحريضية. وسيأتي الدور تباعاً على «البؤر الصغيرة» المتبقية مثل بوليفيا والإكوادور وغيرهما، من أجل إعادة صبغ الخريطة اللاتينية بألوان اليمين «المطيع» والنجيب، الذي سوف ينسب له الفضل فوراً في عودة الرساميل الأجنبية، بعد صدور الإشارة لوقف حملات تطفيش المستثمرين من أسواقها، وتمكينها من النفاذ السلس إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية.

كما هو واضح إذاً، فإن هذه الضغوط الأمريكية وتورط مؤسسات الأنظمة اليسارية القائمة في الفساد، سوف يؤذنان بعودة اليمين مرة أخرى إلى السلطة فيما تبقى من أنظمة يسارية حاكمة في أمريكا اللاتينية.
 
حرر في:    22/01/2016

اقرأ المزيد

في صومعة عبد الرحمن منيف


 
في ختام مقالة ضافية لي بعنوان «بروفايلات لعبد الرحمن منيف» ضمنتها كتابي الأحدث: «الكتابة بحبر أسود»، تحدثتُ عن جانبٍ آخر لا يعرف عنه الكثيرون في شخصية منيف، هو ولعه بالفنون التَّشكيلية، وأن صداقة عميقة انعقدت بينه وبين الفنان التَّشكيلي السّوري المقيم في ألمانيا مروان قصَّاب باشي، كان الاهتمام بالفن التشكيلي أحد مرتكزاتها.
 
ووقعت عيني في الأيام القليلة الماضية على مقالة قديمة ممتعة لمروان باشي نفسه عنوانها: «عبد الرحمن منيف: عندما يرسم الكاتب»، وهي مقالة تقدم لنا هذا الجانب المغفل عن منيف.
 
يحكي باشي أن صديقاً مشتركاً بينه وبين منيف سأله ذات مرة ، وهما عائدان من دمشق إلى برلين ، ما إذا كان قد رأى من قبل صومعة عبد الرحمن منيف، فأجاب باشي بالنفي، فعلى الرغم مما بينه وبين منيف من صداقة، إلا أنه كان يجلس في كل مرة يزوره في بيته في الركن نفسه بعد أن يتأمل ما جمعه منيف من لوحات، ثم يتبادلان الحديث ساعات طوال حول اهتماماتهما ومشاريعهما المشتركة.
 
عقد مروان باشي العزم على أن يأخذ بنصيحة الصديق المشترك ويطلب في أول زيارة له لدمشق من منيف أن يأخذه إلى تلك «الصومعة»، وهذا ما حدث حين ولجا سوياً ذلك المكان المنزوي في داره.
 
جال باشي في الأعمال الفنية المعلقة على ما تبقى من فراغ في الحائط بين الكتب، وتمعَّن في الطاولة التي سهر عليها منيف الليالي، وعليها كتب عدداً من رواياته ، فشعر أنه يرى فيها الشاهد الصامت على ولادة الكثير من أعماله.
 
ولأن عين الرسام تشبه عين الباشق في البحث عن الولائم البصرية ومواقعها، كما يقول باشي، فإنه لاحظ فيما لاحظ على تلك الطاولة بعض التخطيطات بالحبر الأسود كانت غريبة عليه، وأثارت فضوله فسأله إذا كان بالإمكان رؤيتها، فأجابه منيف بنوعٍ من الحذر والتردد: تفضل.
 
لم تكن تلك الرسوم تحمل أي توقيع عدا بعض التواريخ والأسماء التي وردت في كتاب منيف «سيرة مدينة»، وراح يتأملها وهي بين يديه معجباً بها وبطريقة رسمها، قبل أن يسأله عمن رسم هذه التخطيطات الجميلة فأجابه منيف بابتسامة تنطوي على بعض الخجل والحرج أنه هو من رسمها، مضيفاً أنها للتسلية فقط.
 
لم يخفِ مروان باشي مفاجأته بما رأى. لقد اكتشف وجهاً آخر خفياً لصديقه، كان يجهله على ما بينهما من صداقة متينة.
 
حرر في: 28/01/2016

اقرأ المزيد

وضعنا العصيب..!!


الوضع العصيب الراهن لا يحتاج الى شرح يطول، وهو بالنسبة للبحرينيين، ربما كبارهم قبل صغارهم هو وضع مقلق بكل المقاييس، وعلى الجميع ان يتقبلوا ويستقبلوا وينصاعوا لما يفرض عليهم من «كوكتيل» من الاجراءات المعلن عنها والمرتقب منها، ومنها تلك التي يتوقع ان تذهب بنا الى ما هو أبعد وأعقد مما هو عليه الآن، ولا احد على يقين ما اذا كان سيكون لكل هذه الاجراءات قيمة جادة تخفف من وطأة تداعيات المتداول من اجراءات او قرارات يخشى ان تذهب بنا الى ما ليس بمقدورنا إدراكه او استيعابه او تحمله من خطوات لا يستطاب ثمراتها ولا ندرك متى تنتهي، ولن يكون في وسع المواطن العادي حيالها إلا ان يتحلى بالصبر الجميل.. او الحنق المكظوم او المعلن، المقرون بقائمة من الأسئلة التي يبحث البحرينيون عن إجابات لها بلا طائل، رغم ان هذا المواطن الذي يراد له ان يكون أسيراً للغة التطمينات التي ألفناها في الفترة الأخيرة تتدفق بلا حساب في كل الاتجاهات لتصب في مجرى التأكيد بان الوضع المعيشي للمواطن البحريني لن يمس، وانه لن يكون هناك تسريحات للعمالة البحرينية، وما الى ذلك من تطمينات تتوه وتتزاحم في ظلها الاستنتاجات والتوقعات والهواجس التي تضرب تلك التطمينات في الصميم.

لنأخذ كمثال ليس إلا، اللقاء التليفزيوني الذي أطل به علينا 6 وزراء دفعة واحدة على شاشة تليفزيون البحرين في الاسبوع الماضي، فقد توقعنا بانه يأتي في اطار الترويج لوجهة النظر الرسمية بشأن رفع الدعم وزيادة الرسوم وغيرها من القرارات التي تؤثر مباشرة في وضع ومستوى معيشة المواطن، وتوقع الناس بان تكون هذه الخطوة مدروسة، وموزعة في الأدوار والمحاور والملفات، وان يكون عند كل وزير ما يقوله للناس في هذا الوضع، يشرح لهم السياسة المالية والاقتصادية، وخطة الحكومة ورؤيتها في كيفية حماية الوضع الاقتصادي، وكم هو هذا الوضع خطير، وما هي الوسائل التي يمكن ان تجعل المواطن قدر الامكان بمنأى عن المعالجات غير المدروسة بعناية، كنا توقعنا ان نسمع من الوزراء الستة اي شيء ينبئ بان هناك رؤية او استراتيجية او خطة، ليس مهماً التسميات، المهم كنا نود ان نسمع ما يدل على وجود فكر استباقي يخرجنا من ثقافة ردات الفعل والعمل في الوقت ما بعد الضائع، مما يجعلنا امام خيوط متشابكة ومقاطعة تضعف وتكبل وتعيق بناء ما يفترض ان يبنى من زمن بعيد من تخطيط ورؤية جديدة ترى في المستقبل صناعة لا انتظار، انتظار لا يورث إلا الخلل والعطل والعطب والمراوحة وكأنها أصبحت قدراً محتوماً..!! 

المواطن كان يود ان يسمع من الوزراء الستة ذلك كله واكثر، وتوقع المواطن ان يحاط بأي رؤية مدروسة تتسم بالجرأة والشجاعة والوضوح حول كيفية معالجة أعباء الدَّين العام، والتحديات التي تواجه الموازنة العامة، والسبل المثلى لتنمية الإيرادات، والقرارات والمراجعات والتضحيات الوقتية او الدائمة المطلوبة من الجميع والتي لا بد ان تترتب عليها كثمن لا بد من دفعه لمواجهة واقع الحال الراهن كي لا نضطر الى دفع ما هو أفدح مما يمس الواقع الاجتماعي والمعيشي للمواطن من فئة «مهدودي» او «معدومي» الدخل، وتجعله تحت وطأة ما ليس بمقدوره ادراكه او استيعابه او تحمله في وضع لم ينجل غباره، وكأن هذا المواطن لا يكفيه صدمته من القرار المفاجئ برفع سعر البترول بنسبة 60.%، وهي نسبة عالية جداً، وعنصر المفاجأة هنا هو الذي دفع المواطنون الى التكالب على كل محطات الخدمة قبل ساعات من رفع الدعم في مشهد احسب انه مذل، وهو ذات الشعور حين جرى تداول موضوع رفع الدعم عن اللحوم، كان بودنا ان نسمع عن اي برامج مبتكرة من كل وزير او ما يخطط له في سياق اعادة هيكلة ما يمس أمور الناس الذين هم بحاجة الى من يطمئنهم بان أمورهم تدار بطريقة سليمة بعيدة عن أسلوب اللا تخطيط وتعتمد على الكفاءة في ادارة الشأن المالي وإدارة الاقتصاد وإخضاع كل أمر لاعتبارات الرشادة والكفاءة والقواعد التي تحكمها النزاهة والمساءلة والمحاسبة والمحاربة الفعلية الفعلية والابتعاد عن هياكل إدارية وأجهزة بيروقراطية تنشأ او تلغى..!! 

 أحسب أن المواطن فيما يخص اللقاء التليفزيوني لم يستقبل رسائل الطمأنة التي بثها الوزراء الستة عن الوضع الاقتصادي، وعن فرص العمل النوعية الجديدة للبحرينيين التي ستسهم في الارتقاء بالمستوى المعيشي للمواطنين، والمحافظة على نسب متدنية للبطالة، والقضاء على الفجوة بين المصروفات والايرادات خلال الدورات الثلاث القادمة للموازنة العامة للوصول الى نقطة التوازن، وتطوير الخدمات بما يواكب المتطلبات التنموية وبما يلبي تطلعات المواطنين والمستثمرين، وغير ذلك من الكلام الذى لم يأتِ بجديد، ولم يطرح ما كان يفترض ان يطرح في ظل وضع كهذا الذى نعيشه.. كلام يدل على وجود رؤية استراتيجية دقيقة كاملة ومتكاملة بعناصرها وتوضح للجميع الى اين نمضي، وما هي المسارات المطلوبة، وما هي الاولويات المحددة، ومعايير الكفاءة في تنفيذها، لذلك يظل المواطن على قناعة بان هناك توطئات لما هو آتٍ من اجراءات تقشفية صعبة، وهو يرى ان الوضع الاقتصادي الراهن سيتطلب تضحيات غير مسبوقة، وان وعود التطمينات بان المواطن لن يمس لا يجب ان تؤخذ من الآن فصاعداً على محمل اجد..!! فهذا المواطن امام حماوة الوضع الاستثنائي الذي يفتح الباب على ما هو اكثر استثنائية من هواجس وبواعث قلق، أظنه – رغم ان بعض الظن اثم – على استعداد لأن يتقشف وان يغير من نمط تفكيره وحياته، ويمكن ان يتفهم وان على مضض والى حد ما الجرعات التي تفرض عليه لشد الأحزمة، مقابل ان تتوقف مظاهر البذخ في مواقع هنا او هناك، وحين يرى أوجه الصرف والإنفاق توجه بشكل محسوب ومدروس، وحين تواجه مظاهر الخلل والخطأ بالحزم اللازم، وحين لا تتحول المشاكل الى أزمات وإيثارنا للحلول السهلة والهامشية، وحين تعالج الأمور بشكل مدروس، وحين يطبق الوزراء سياسات معلومة دون انتظار لتوجيهات أو أوامر عليا. وحين يكون هناك إصلاح إداري حقيقي يتعدى تجاوز الضائقة المالية ليضع أسس تقدم مستمر تتمكن فيه البحرين من ان تعمل بجد من اجل مستقبل افضل دون ان تشغلها الأزمات بين حين وحين وتفرض عليها أنصاف الحلول التي تقود الى أوضاع أصعب، ولا يجب ان يغيب عن البال ان الاصلاح المنشود لا يمكن ان يستقيم الا اذا استنار بهدف وطني بعيد المدى يشكل رؤية مستقبلية للبلاد.
 
 


الثلاثاء 26 يناير 2016

اقرأ المزيد

التدليس في طريقة احتساب انبعاثات السيارات


لم تكد تمضي بضعة أسابيع على انتقاد مجلة الإيكونومست البريطانية، ما أسمته بالتدليس الذي تمارسه مؤسسات الاتحاد الأوروبي في طريقة احتساب كمية خفض انبعاثات السيارات الأوروبية من ثاني أكسيد الكربون، والتي اعتبرتها مخادعة ومبالغاً فيها، وإنها محاولة إظهار تطبيقها لمعايير صارمة في هذا المجال لن تُمَكِّن الأوروبيين من بلوغ هدفهم المضروب في عام 2021 والمتمثل في الوصول إلى متوسط انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من السيارات قدره 95 غراماً لكل كم واحد، وان بعض شركات انتاج السيارات الفرنسية والألمانية تضغط على حكومتيهما من أجل تأخير موعد هدف التخفيض الجديد المفترض بدء سريانه اعتبارا من عام 2025 – لم تكد تمضي بضعة أسابيع على هذا الاتهام الصريح حتى انفجرت فضيحة شركة السيارات الألمانية الشهيرة فولكسفاجن، عندما كشفت السلطات الرقابية الأمريكية ومنها وكالة البيئة الأمريكية (Environmental Protection Agency -EPA) في شهر سبتمبر/أيلول الماضي بأن الشركة تركب «أجهزة إبطال مفعول» (Defeat devices) على مركباتها العاملة بالديزل وظيفتها مخادعة الفحوصات الخاصة بقياس انبعاثات أكاسيد النيتروجين، وانه تم اكتشاف هذه الأجهزة حين خضعت المركبات لفحص الانبعاثات. حيث اتضح أن الانبعاثات الكربونية التي تنفثها هذه السيارات تفوق وهي على الطريق تلك التي تظهرها أجهزة القياس خلال الفحص. وقد اتهمت السلطات الرقابية الأمريكية صراحةً شركة «فولكسفاجن» بتركيب أجهزة إبطال مفعول قياس انبعاثات أكسيد النتروجين على سياراتها الفارهة سعة 3.0 ليترات ديزل من نوع بورش وأودي وفولكسفاجن.
وكان ذلك كافيا لأن يهوي سعر سهم الشركة في البورصات العالمية، وأن تضطر الشركة إلى التخلص من رئيسها التنفيذي مارتن وينتركورن وخمسة آخرين في الإدارة العليا للشركة في محاولة لامتصاص ضراوة الهجمة الإعلامية والقضائية التي بدأت فصولها في الولايات المتحد وأوروبا والتي ستضع الشركة في موضع شركة بي بي حين دخلت في دوامة دفع التعويضات عن انفجار أحد حفاراتها النفطية في خليج المكسيك. إذ يقدر بأن تصل تعويضات فولكسفاجن للسلطات الأمريكية إلى حوالي 18 بليون دولار.
 
المؤكد أن هذه الفضيحة قد وضعت الاتحاد الأوروبي في حرج شديد. فلطالما اعتبر نفسه أنه عراب وقائد المسيرة العملية لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الستة وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون. وتعتبر مفوضيته مشروعها القانوني الذي يجبر شركات السيارات على خفض انبعاثات مركباتها، أحد انجازات بلدان الاتحاد الأوروبي التي تفاخر بها حتى أمام الولايات المتحدة التي أنشأت هي الأخرى نظامها الخاص بخفض انبعاثات السيارات. وما زاد الطين بلة، ما كشفت عنه صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية أواخر الشهر الماضي بأن المفوضية الأوروبية كانت على علم باحتيال شركات صناعة السيارات على اختبارات انبعاثات وقود الديزل قبل أكثر من عامَين على الكشف عن الغش الذي تورّطت فيه شركة «فولكسفاجن» في الولايات المتحدة. ووفقا للصحيفة، فإنه وبحسب وثائق داخلية في المؤسسة الأوروبية قالت إنها حصلت عليها، فإنّ «المفوّض المسؤول عن البيئة آنذاك، يانيز بوتوتشنيك، كان قد حذّر زملاءه عام 2013، ولكنّ بروكسل لم تتّخذ أي إجراء ضد هذه الممارسة، وإنه أشار إلى هذه المشكلة في رسالة بعث بها في فبراير/شباط 2013 إلى مفوض السياسة الصناعية أنطونيو تاجاني».
 
ولأن هذا الاستحقاق الذي أُجبرت شركات إنتاج السيارات على الالتزام به، يتطلب إما تقديم تنازل جزئي عن تنافسيتها في السوق بمخصصات إنفاقية إضافية على تكنولوجيا تؤمن مطلب هذا الاستحقاق ومن ثم تحميله على سعر المبيع النهائي للسيارة، أو التحايل على هذا الاستحقاق بتقليص متطلبات الوفاء به إلى الحد الأدنى كما فعلت بعض شركات السيارات التي تم ضبطها – لذلك عمدت السلطات الرقابية لتقديم محفزات للشركات التي تبتكر تكنولوجيا تسهم في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هي عبارة عن شهادات انبعاثات سيُعمل بها في الاتحاد الأوروبي لمقابلة هدف التخفيف الخاص بعام 2021، وهو خفض انبعاثات السيارات من ثاني أكسيد الكربون إلى 95 غراما لكل كم واحد، أي استهلاك حوالي 4.11 ليتر لكل مئة كم من البنزين أو 3.61 ليتر من الديزل لكل مئة كم.
 
هذه لم تعد استحقاقات محلية، وإنما بدأت بالتحول فعلا إلى استحقاقات عالمية ستطبقها الدول عاجلاً أو آجلاً للوفاء بالتزاماتها في مجال التخفيف (Mitigation) التي نصت عليها اتفاقية باريس الأخيرة لتغير المناخ. وحادثة التدليس المشار إليها آنفاً، لن تغدو أكثر من حادثة معزولة في إطار الالتزام العام بضوابط انبعاثات السيارات الآن وفي قادم الأيام. إلى ذلك، فقد شرعت بعض الدول في فرض ما تسمى بضريبة الازدحام المروري (Congestion tax) على درجات مختلفة، الأولى حين تعبر السيارة طرقا بغض النظر عن الوقت، وثانية حين تعبر طريقا في وقت الذروة، ونوع ثالث يُجبى لمرة واحدة حين تعبر السيارة طريقا في ساعة الذروة. وقد فرضتها سنغافورة كأول دولة في العالم ليس لأغراض بيئية وإنما للتعامل مع الازدحام المروري. وتطبق هذه الضريبة أيضا أمانة العاصمة البريطانية لندن، حتى إن عمدة نيويورك يريد أن يطبقها في ولايته باعتبارها الأفضل، لكن حكومة الولاية رفضت ذلك. وكذلك مدينة سان فرانسيسكو التي تعتقد أن فرضها يمكن أن يخفض انبعاثات السيارات من غازات الاحتباس الحراري بنسبة 15% .
 
حرر في:   20/01/2016

اقرأ المزيد

عودة الجدل بشأن دولة الرعاية


بعد زهاء أربعة عقود من تطبيقات الليبرالية الجديدة (New Liberalism) انطلاقاً من بريطانيا على يد رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت تاتشر والتي حملت فيما بعد اسمها تاتشريزم، وبمعيتها الولايات المتحدة على يد الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان لتحمل اسمه هو الآخر ريغانومكس (Reganomics) والتي نفذتها كافة البلدان الأوروبية ال 28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقريباً، بما فيها الدول غير المنتمية إلى منطقة اليورو (17 دولة عضواً انضمت إليها لاتفيا قبل بضعة أيام) في أعقاب الارتدادات الاهتزازية التي أعقبت اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008 والتي لازالت إلى اليوم تلقي بظلالها على اقتصادات اليونان والبرتغال وإسبانيا وأيرلندا وإيطاليا وقبرص وصولاً إلى – وإن بدرجات أقل – إلى الدول الأوروبية المركزية مثل فرنسا وبريطانيا – اليوم ومن جراء تلك السياسات المنحازة بصورة كاسحة لمصلحة رأس المال، فإن حالة من الإفقار الشديد لشرائح واسعة من سكان هذه البلدان والبلدان الأخرى في العالم النامي التي سايرتها في نهجها، باتت تطبع البعد الاجتماعي للنمو والتنمية – بعد تلك العقود الأربعة، واليوم، وبعد السياسات الأوروبية التقشفية المتطرفة، فإن جميع مكاسب الرأسمالية الاجتماعية التي صنعتها الرأسمالية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، تكون قد أصبحت في خبر كان.

وكان لابد أن يترتب على ذلك ارتفاع منسوب الإفقار والتهميش لشرائح أوسع من الطبقة الوسطى بعد أن وصل معدل البطالة في بلدان مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال إلى أكثر من 20% بالتزامن مع تدهور الدخول المتاحة (Disposable incomes) للسكان بوجه عام نتيجة لسياسات التقشف الصارمة.

الهند التي بنت نموذجها الاقتصادي بعد الاستقلال عن بريطانيا في عام 1947 استناداً إلى سياسات الرأسمالية الاجتماعية ونماذجها في الدول الاسكندنافية، وإلى حد ما ألمانيا بعد الحرب، الهند إحدى الدول النامية التي تحولت إلى سياسات التحرير الاقتصادي الراديكالية التي اقتربت في بعض مستوياتها من السياسات النيوليبرالية، ما تحوَّل إلى خطر يهدد بزحف الفقر نحو مواقع الطبقة الوسطى التي أنشأتها إصلاحات السوق التي بادر إليها حزب المؤتمر في ثمانينات القرن الماضي.

وكان هذا كافياً لأن يتحرك برلمانها بسرعة لتمرير تشريعين يهدفان لحماية الحد الأدنى من الحاجات الأساسية لمئات الملايين من الشعب الهندي. التشريع الأول الذي سمي بقانون أمن الغذاء، قضى بمنح 67 %من سكان الهند الحق في الحصول على 35 كيلوغراماً من الرز أو القمح بسعر ثلاث روبيات هندية للكيلو (ما يعادل أقل من خمسة سنتات أمريكية)، وتقديم وجبات للأطفال وللنساء المترقب تحولهن إلى أمهات وتوفير الدعم للحبوب الغذائية المتوفرة.

ومع أن هذا التشريع ترتب عليه إضافة 6 مليارات دولار إلى العجز السنوي للموازنة الهندية، إلا أنه سيجنب البلاد خطر المجاعة وسوء التغذية.
ويقضي التشريع الثاني بتقديم تعويضات عادلة ومجزية لأصحاب المزارع الصغار الذين تتملك الدولة أراضيهم لأغراض التنمية في بلد يعتمد ثلثا سكانه على الزراعة. كما يشترط حصول الدولة على موافقة 80% من ملاك الأراضي موضوع الاستحواذ للاستغلال التنموي العام، قبل تملكها من قبل الدولة، فضلاً عن تضمين التشريع الجديد إلزام الحكومة بإعادة تأهيل المتضررين من الاستحواذ وإعادة توطينهم، وتعويض المزارعين المستأجرين لقطع الأراضي عن انقطاع أرزاقهم وتوظيفهم في المؤسسات التي استحوذت على أراضيهم.

وبهذين التشريعين، قانون أمن الغذاء وقانون استملاك الأراضي، تحاول الهند إعادة الاعتبار، أو بعضه، إلى إحدى وظائف الدولة الجوهرية وهي مسؤوليتها عن حفظ التوازن الاجتماعي من خلال دالة دولة الرعاية التي أذهبتها رياح التحرير الراديكالي الجارف.

وفي تقديرنا أن توافق أعضاء المؤسسة التشريعية الهندية على سن هذين التشريعين، والسرعة التي تم إقرارهما فيها في برلمان عُرف ببطء حركته وقراراته، يعكس استفاقة مبكرة لدى كل من السلطة التنفيذية (الحكومة) والسلطة التشريعية، فيما يتعلق بضرورة التصرف السريع وبمسؤولية إزاء تمخضات الانفلات بعيداً عن الدور التقليدي الذي ظلت تضطلع به الدولة الهندية منذ ما بعد الاستقلال كدولة راعية لشبكة برامج الرعاية الاجتماعية الموازية لديناميات النمو الاقتصادي الصلدة.


حرر في:    24/01/2016

اقرأ المزيد