المنشور

اللغة بوصفها موضوعاً مفكراً فيه

أسماء متحورات كورونا نموذجاً

مدخل:
لطالما شُغل البشر بسؤال ما إذا كانت اللغة معطى أم موضوعاً مفكراً فيه. ذلك السؤال الذي قسم الباحثين في اللغة إلى فريقين، على الأقل، منذ عصر سُقراط وتلميذه أفلاطون إن لم يكن قبل ذلك، وهو هل اللغة ظاهرة طبيعية وأن الكلمات وأصواتها جزء لا يتجزأ من المعنى (أفلاطون، 427-347 ق.م)؟، أم أنها ظاهرة اجتماعية وأن أصواتها رموز اصطلاحية لا علاقة طبيعية أو مباشرة لها بالمعاني (أرسطو، 384-322 ق.م)؟
وفد سُميت النظرية الأولى بالنظرية التوقيفية، أي أن الألفاظ موقوفة على معانيها وهي منحة من الإله أو من الطبيعة. وسُميت النظرية الثانية بالنظرية الاصطلاحية أو التواضعية أو التوافقية وتعني أن المسميات نتيجة التوافق بين جماعات البشر أنفسهم. أي أنهم يتواضعون أو يتوافقون على معنى ما لملفوظٍ ما، وأن هذا التوافق اعتباطي، أي لا يلزم أن يكون ثمة رابط بين أصل اللفظ وبين المعنى.
وثمة من اتخذّ رأيا وسطا وهو أن منشأ الكلمات كان طبيعياً لكنها تغيرت فيما بعد بسبب الأعراف وتوافق البشر. (نشوء وتطور اللغة والللهجات العربية – فاروق أمين، 2019)
لقد شغل هذا السؤال جميع الأمم. ولدى العرب مثلاً نجد عالما مثل (ابن جني،941–1002)، يتمسك برأي جماعته المعتزلة في أن أصل اللغة مواضعة واصطلاح من صنع البشر، لا وحيٌ وتوقيف. ومن جهة أخرى نجد فريقاً ثانياً تمسّك بأن اللغة توقيفية، وعلى رأسهم أستاذ ابن جني وهو (أبو علي الفارسي، 900-987) مستنداً إلى آية “وعلم آدم الأسماء كلها – البقرة 31”. ولكن تلميذه ابن جني يردّ على ذلك بالقول إن تأويله هو أن الله منحَ الإنسان أي (آدم) القدرة على وضعها، فليست اللغة إلا مبنية على مواضعات واختراعات الصناع لصنائعهم، النجار لنجارته والتاجر لتجارته وكذا الصائغ والحائك والبناء والملاح وغيرهم. (الخصائص – ابن جني).
كان ابن جني عبقرياً ولو قُدرله أن يعود إلى زمن سُقراط، أي القرن السادس قبل الميلاد لكان من الفريق الخصم لسقراط في محاوراته حول اللغة وأصل التسمية.
أما من أبرز ممثلي الرأيين من اللغويين المعاصرين الفرنسي (دي سوسير، 1857–1913) الذي رفض توقيفية اللغة ورأى أن العلامة اللغوية تتصف بالاعتباطية المتواضع عليها بين أعضاء الجماعة البشرية في زمن ما، واللغة عند دي سوسير تقليد، والإشارة يتفق عليها المجتمع اتفاقا اعتباطيا غير مرتبط بمبرر ضروري للعلاقة بين المبنى والمعنى. (علم اللغة العام، فرديناند دي سوسير).
ويقابله الأميركي (ناعوم تشومسكي، 1928-….) الذي يرى أن شخصاً يتكلم لغةً ما، قد ثُـُقف بنظام معرفي معين، وأن اللغة خاصية فريدة للنوع الإنساني الذي يختلف بحسب تشومسكي عن أي شيء آخر في العالم المادي. (اللغة ومشكلات المعرفة، ناعوم تشومسكي).
لكننا لسنا هنا بصدد تجديد خوض هذا السجال المبدئي القديم الذي خاضه (سُقراط، 470-399 ق.م) مع خصومه في محاورات مطولة دونها تلميذه أفلاطون حول اعتباطية الأسماء أو كونها طيبيعة وذات دلالة مطابقة والذي استمرّ إلى اليوم مروراً بكل من سوسير وتشومسكي وتلاميذهما. وأياً يكن الفريق الذي نختاره، فلا مناص أبداً من الإقرار أننا اليوم تجاوزنا أصل هذا السؤال، فنحن نعيش أكثر عصور اللغة إرادية، بمعنى تحكم البشر في لغتهم.
ها إنّا ننام ونصحو على مصطلحات جديدة أو استعادة ما هو قديم بحسب الحاجة وبحسب ما تمليه مصلحة المرجعيات الثفافية الاجتماعية المتصارعة في عالمٍ لا يرحم، فسواء قال أرسطو مخالفاً أفلاطون أم لم يقل، فاللغة هي فعلاً ظاهرة اجتماعية وهي تزداد اجتماعية وتصنيعا كلما تقدّم بنا الزمن، وخاصةً مع دخولنا عصر الامبريالية الإعلامية والذكاء الاصطناعي.
نعيش اليوم إذا شئنا استخدام مصطلح (اعتباطية) لكن – ويا للمفارقة – بمعنى معاكس تماما وهو (اختيارية) و(إرادية)، حيث هذا العالم وأعني عالم القرن الواحد والعشرين، هو عالمٌ يُصنِّع لغته في المختبر اللغوي بوعي كامل لا ارتجال فيه وبتصميم مبالغ فيه، إلى درجة قد تصل إلى تسمية الأشياء قصداً بعكسها إذا لزم الأمر!!.
في روايته العبقرية (1984) ألمح جورج أورويل (1903 – 1950) إلى اللغة الجديدة في تلك الدولة المرعبة المتخيلة التي تحكمها سلطة شمولية فاشية وسمّى أورويل هذه اللغة في تلك الدولة بـ Newspeak والتي تقوم أساسا على تسمية المفاهيم بنقيضها: السلام = الحرب، الحرية = العبودية، المعرفة = الجهل.
أعلم أن هذا مثير للرعب، فهناك فعلاً ما ينبيء بالخطر كلما تخيلنا أنفسنا في عالم يصنعُ لغته بالماكنة كما يشاء، دون مرجعية من لغةٍ (قبْلية)، – بتسكين الباء – ملزمة. بل وها نحن نرى عياناً كيف تُستخدمُ الألفاظ نفسها، لمعانٍ متعاكسة في محطتين فضائيتين متنافستين سياسياً وإعلامياً في منطقة إقليمية واحدة، حيث يصبح ما هو حق هنا إرهاباً هناك وبالعكس!.
لكن عليَّ أن أسارع إلى القول ثمة إيجابية عظيمة، إذا قبلنا هذا العالم اللغوي الذي نحن فيه كما هو لكي نغيّره، ذلك أن القبول هو أول خطوات التغيير، فالقاعدة ببساطة هي: إنك لا يمكنك أبدا أن تغير وضعاً لا تعترفُ بوجوده.
هنا بالضبط وفي هذه المقدرة على صناعة لغتنا عبر المواضعة أو التوافق تكمنُ نعمة أيضاً وليست نقمة فقط، أو على حد تعبير ابن عربي “في كل محنة منحة”. إنها فرصة لنا لكي نصنع لغتنا أيضاً. إن كون صناعة اللغة حقل صراع بشري تتحكم فيه إرادات القائلين قد يكون أفضل من عالمٍ ينظر إلى اللغة كوحي مقدس أُلهم به الإنسان ولا فكاك له أبدا من سلطته.
صحيحٌ إن كون اللغة دنيوية صعبٌ ومخيفٌ حقا لأنه مسؤولية، ولكنه أيضا مؤشر على الحرية، ولا حرية بلا مسؤولية. وعلينا إذن أن نأخذ كأحرار قسطنا من هذه المعركة عن طريق سك مفاهيم ودلالات جديدة، وتصحيح مفاهيم ودلالات خاطئة.
أسماء فيروس كورونا المتحور نموذجا:
في هذا الشهر يونيو الجاري، أصدرت منظمة الصحة العالمية قرارا بتسمية أو إعادة تسمية متحورات فيروس كوفيد-19 المسبب لمرض كورونا بحسب الجدول التالي:
تسمية المنظمة التسمية المتداولة أولى العينات الموثقة
ألفا المتحور البريطاني المملكة المتحدة، سبتمبر 2020
بيتا المتحور الأفريقي جنوب إفريقيا، مايو 2020
غاما المتحور البرازيلي البرازيل، نوفمبر 2020
دلتا المتحور الهندي الهند، أكتوبر 2020

وإذا كانت ذاكرتنا جيدة سنتذكر أن المنظمة قامت في سبعينيات القرن العشرين بإعادة تسمية مرض (المنغولي) بــ (متلازمة داون)، نسبة إلى الطبيب البريطاني (جون لانغدون داون، 1828-1896) الذي كان أول من وضع وصفاً للمرض. وقد جاء هذا التغيير بعد احتجاج تقدمت به جمهورية منغوليا الشعبية، حيث كان وصف المصاب بالمرض بـ (المنغولي) ينطوي على إهانة أو تحقير لأحد الأعراق الإنسانية. وكان الطبيب داون هو نفسه الذي وضع للمرض اسم (المنغولي) اعتمادا على النظريات العرقية العنصرية السائدة وقتها في عام 1866 لحظة وضع الوصف الطبي للمرض.
إنّ من أهم أسباب ابتكار منظمة الصحة العالمية هذه التسميات الجديدة لمتحورات كوفيد-19 المأخوذة من الأبجدية اليونانية هي إيجاد مسميات غير مؤذية أو غير مسببة للشعور بالعار بحسب تعبير منظمة الصحة العالمية: Non stigmatizing labels لئلا يؤدي الإسم إلى التمييز أو الأذى بحق أي عرق أو شعب.
لقد ظللنا إلى عهد طويل نسمي مريض متلازمة داون منغوليا، ونسمي أحد الأمراض بالانفلونزا الأسبانية، وما زلنا إلى هذه اللحظة نقول: المتحور الهندي، وثمة شعور تأسس اليوم في منطقة الخليج على ذلك بتصاعد كراهية ما تجاه بعض الجاليات أو نفور أو تحميل مسؤولية نشر الوباء وحتى الوفيات، وهذا كله من فعل اللغة بوصفها الآلة الأكثر فعالية للثقافة.
إن أكثر ما نحتاجه في هذه اللحظة هو أن ننظر إلى كوكبنا بكل فئاته وألوانه بوصفه سجيناً في الصندوق ذاته الذي يحوي الجميع، وبدلاً من أن نتنابز بالألقاب ويُحمّل كل عرق منا العرق الآخر مسؤولية خلق هذا الشر العظيم، علينا أن نتضامن وأن نحرر لغتنا في المقام الأول من عفويتها وتلقائيتها التي تجعلنا نصنف الآخر عدوا أو شرا.
وهنا تتجلى فضيلة الأدب، والشعر منه على وجه أخص، في أنه باستخدامه للمجاز وباقتراحه تغييرات مستمرة في العلاقة بين الدال والمدلول يجعلنا ننظر إلى اللغة بوصفها موضوعاً مفكراً فيه، ونظاماً قابلاً للمراجعة وإعادة التصميم بما يجعلنا موجودات أكثر تضامناً وتحضراً.
وصية منظمة الصحة العالمية لك اليوم، إن كنت تقدّميا وإنسانيا، ألا تصف الوباء ومتحوراته بما ينبز أي فرد أو شعب بما يُشينه، فلئن كان علينا ولو لفترة من الزمن أن نخسر معركة الحياة فنفقد ما لا يُحصى من الأحبة، فلا أقل من ألا نفقد إنسانيتنا وتضامننا في معركة شئنا أم أبينا سنخوضها معاّ، كجنس بشري.