المنشور

بحزن وحنين أكتب عنك يا جواد

لم يخامر أحد منا نحن أهله وأصدقاؤه الشك حول ما آل إليه الحبيب جواد العكري منذ عام ونصف من المعاناة مع المرض العضال، فكان يحمل جسده بصعوبة، فهي النهاية المحتومة دوماً مع مثل هذا المرض الفتاك، فبعد أن أكل من جسده واستوطن فيه كان المآل هو الموت للأسف.

عندها علمنا بأن الزمن كان يركض بسرعة فائقة نحو الفاجعة، وما كان لنا نحن البشر الا أن نقاوم الموت ولو بلحظة حلم أو بغفوة تربطنا بخيط الحياة، الدنيا واسعة ولكنها تضيق كلما سمعنا خبر مرض أحبّة لنا فتزداد الحياة ضيقاً ويزداد وجع القلب وجعاً ويتحول الفرح حزناً.

استحضرت كل الخوف دفعة واحدة وأنا أتتبع أخبارك من القريبين إليك، وعندما عرفت بأن مرض العضال تمدد في جسمك وضعت يدي على وجهي وأحسست بأن الخيط الذي يجمعك بالحياة قد تمزق ولن تعود كما كنت، ولكن ليكن في القلب نشيد لا يموت ، فأنت باق وروحك الطاهرة ترفرف بين محبيك.

خيط من الخوف والذعر والرعب كان ينتابنا كل يوم بعد سماعنا بخبر مرضك، الشعوربالغصة لازمنا وعدم الحيلة أقعدنا حتى عن زيارتك بسبب هذا الوباء المميت فأصبحنا عاجزين، وعلى الوجوه حيرة لم تعرف أين تستقر، فاعذرنا إيها الحبيب. صورتك باقية رغم حمأة الحزن والألم والفقدان لكن ليس باليد حيلة.

فالمرض الذي لا يرحم أنهك أيها الغالي وأخذك من أحبتك سريعاً ومع ذلك بقى الصفاء يملأ عينيك المتعبتين وظلّ وجهك يشع بالوهج وبالنور رغم ثقل المعاناة ووجع المرض، فبقيت عاشقاً للحياة لدرجة الوله، شامخاً مثل جبل تبحث عن بصيص أمل ولكن هيهات أن يترك هذا المرض الخبيث أحدًا يسلم منه رغم تلك المقاومة الشجاعة التي يتحلى بها المُبتلى.

ماذا أقول عنك يا فقيدنا جواد؟. الكلمات تتصلب في اللسان مثل الأحجار، ويعجز القلم عن سرد سجاياك وطيبتك وخلقك الحميد، فقلبك كان عامراً بالمحبة ناصع البياض. لك من الأحبّة الكثير، فأنت البسيط، المتواضع رغم غزارة معلوماتك وقدرتك العالية على فهم الأحداث، واسع الثقافة ملهم لمن يعاشرك، تتدفق طيبة وأدباً وإنسانية.

سرقك الموت وغيّبك عنا في وقت نحن في أمس الحاجة اليك، فقد قدمت الكثير لوطنك ودفعت ضريبة ذلك في الاعتقال الطويل الذي زاد على الثمان سنوات، وما الأمراض التي ألمّت بكل من أُعتقل الا نتاج لهذا العسف الذي طالهم ووّرث فيهم تلك الامراض المزمنة وبتر من حياتهم أجمل سنوات عمرهم ومع ذلك غالبت المرض بمكابدة فوق طاقتك.

جواد نفس مرهفة الاحاسيس مفرطة بالنبل والحميمية. له قلب لايحقد وله نفس أبية تشعر بقربه لك من أول حديث معه، نظيف السريرة لا تخالط روحه شوائب البغضاء والطائفية. هادئ ورزين مُحب للجميع فائق الحنية والوفاء والصدق في أفكاره لا يجامل أحداً ولا ينافق أحداً في قضية وطنه، يحاورك برزانة العارف بما يريد. يقنعك أو تقنعه ليس مهمأً، فالتواصل بأريحية والترفع عن الصغائر أكسبه محبة الجميع أبقاه بعيدا عن التشنجات والخلافات، فكان خلاقاً في نسج علاقاته مع الناس، مفعماً بالحيوية ونكران الذات. انتخب بجدارة في أعلى هرم طلابي للاتحاد الوطني لطلبة البحرين في الخارج فكان خير ممثل لهم وبسبب كل ذلك ولدوره الوطني البارز تمّ أعتقاله لأول مرة في 23 أغسطس 1975 هو ومجموعة كبيرة من الوطنيين وأعتقل للمرة الثانية في العام 1976 ليبقى في المعتقل حتى العام 1983 .

تزاحمت بدماغي أحداث غابت بفعل الزمن، فكانت فكرة مواصلة الدراسة الجامعية نبتت لدي عندما رأيت طلتكم أنت والدكتور رضي العكري في نادي الديه، وانتما في مقتبل الشباب والتألق والتأنق. يومها كنت أنت طالباً في جامعة دمشق ورضي في جامعة بغداد مفعمين بالنشاط والحيوية والعطاء الذي لا يهدأ مما حفزني على المضي للدراسة في الخارج دون خوف أو وجل كما فعلتما، وكان لي ما أردت فقد فتحتما باباً للكثيرين أن يواصلوا مسيرة العلم فساروا على دربكم واثقين .

رحيلك المبكر يا أبا محمد أشعل النار في قلوب محبيك والدهشة كانت مرتسمة في جميع العيون التي غزاها ذعر مخيف ووجوه وجلة مما سمعت، ولكن لا أحد يضمن الآتي من الأيام وما يخبئه الدهر والعالم منذ سنتين لا يتنفس الا روائح الموت في ظل جائحة كورونا تاركين وراؤهم قصصاً مؤجلة والناس يعيشون من خوف إلى خوف ومن حنين إلى حنيين ترمينا موجات صرخاتهم مسموعة والكل يأمل في الخروج سالماً من هذا الكابوس ليندفعوا في فراغ مخيف.

لقد بدأ العقل يرسم كآبته داخل هذه الخسارات المتتالية للأحبة أسبوعاً تلو الاخر والكل عاجز عن وقف ما يحدث مما يزيد من الظلمة والبحث عن أمل مفقود، ومع ذلك نتشبث بضؤ تحت النفق علّنا نستعيد ألق الحياة ودفئها رغم تلك الخسارات، فكلنا ننهزم أمام الموت لكن لا شي أفظع من الهزيمة أمام الحياة .

أمر لا يصدق على الاطلاق أن نفقد عزيزين خلال أسبوع واحد، جواد العكري وطيبة مطر ولكن هي مشيئة القدر وكلاهما يدخلان القلب بدون استئذان مسبق، عجنا من طيبة عائليتهما، فلكما منا حب لا ينضب أبد الدهر.

لقد استعجلت الرحيل وغادرت وفي القلوب غصة، ونعود فنقول هو القدر المحتوم لبني البشر ولا مفر منه ولا راد له، فالكل راحل من هذه الدنيا وتبقى أعماله وخلقه، فقلبك أخضر عشق الناس وأحبهم فرحلت بكبرياء ووفاء فودعتك الجموع بطيبة كبيرة وبدموع غزيرة وبقلوب مفطورة ألماً وحسرة، فبرحيلك تدفقت الأشواق من محبيك حزناً وألماً، فتدفقت الرسائل والبرقيات تعزيك وتأسى على غيابك.

أكتب عنك بحزن وحنين وبروح مثقلة بأوجاع الفراق، فراقك لأحبتك من زوجة وأولاد وأخوة وأصدقاء وبقلب متعب أقول لهم لكم الصبر والسلوان وله الرحمة والغفران .

أنت يا من حلمت وفي قلبك شوق وفرح بأطفالك وهم مازالوا يأملون الكثير من حبك وحنانك استعجلت الرحيل، فالقدر كان أكبر من حلمك وأحلامهم، لكنك ستظلّ لهم اباً حنوناً محباً واسع القلب وصاحب خلق عظيم رغم هذا الفقدان المبكر، فالزمن لا يتوقف عن المسير. فلروحك الهدوء والسكينة. نم قرير العين، فيك الحنيين وفيك أجمل ما يحلم به القلب.