المنشور

سلمان وسعيد: حكاية أغنية

لم يلتق سلمان زيمان بسعيد العويناتي على ما أرجح. سعيد من سكنة البلاد القديم وسلمان من سكنة المحرق. حين ذهب سلمان إلى بغداد لدراسة الهندسة، كان سعيد قد أنهى دراسة الصحافة فيها وعاد إلى البحرين ليعمل محرراً في صحفها.
في شتاء 1976 كنتُ مقيماً في بغداد، ودائم التردد على الشقة التي كان سلمان يسكن فيها هو ومجموعة أخرى من زملائه الدارسين في جامعة بغداد ومعاهدها، وأحياناً كنت أمكث معهم أيامًا. تقع الشقة في الأعظمية، في مكان اسمه “راس الحوّاش”، أو على الأقل كان هذا اسم المحطة التي يتوقف فيها الباص الصغير، “ميني باص” الذي كنا نستقلّه من باب المعظم في مركز العاصمة حين نقصد الأعظمية.
وهو متيسر من معلومات يشير إلى أن “رأس الحوّاش” هو شارع طويل يمتد من جامع الإمام أبي حنيفة إلى ساحة عنت، ويضمّ على جانبيه عمارات ومحلات مختلفة، وعند اقتراب الباص من هذا الشارع، ينادي السائق: “رأس الحوّاش”، لينزل من شاء من الركاب، فجرى هذا الاسم على ألسنة أهل الأعظمية واشتهر به بين الناس.
وأذكر أننا، مثل العراقيين، كنا نخاطب السائق بصوت عالٍ بعض الشيء، كي يسمعنا، حين يقترب باصه من تلك المحطة: “قطعة نازل عيني”، وهي عبارة بمثابة طلب من السائق أن يتوقف عند المحطة لننزل من الباص، فإن لم يفعل الراكب ذلك، فالباص سيواصل سيره إلى الأمام، فمقاصد من فيه من ركاب مختلفة، بعضهم من يبلغها أولاً وبعضهم يبلغها تالياً.
في ديسمبر من ذلك العام بلغنا النبا الفاجع باستشهاد سعيد العويناتي تحت التعذيب بعد أقل من 24 ساعة على اعتقاله، محدثاً صدمة للجميع، خاصة وأن الخبر أتى بعد أيام من استشهاد محمد غلوم، وسعيد العويناتي الذي أحبّ العراق وتعلّق به، معروف لدى الكثيرين، من أبناء جيله خاصة، من شعراء العراق وأدبائها، وحتى من لم يعرفوه شخصياً تأثروا كثيراً بنبأ استشهاده، وما اكثر النصوص التي كتبت عنه هناك، باللغتين العربيّة والكرديّة.
ضمن من كتبوا في رثاء سعيد كان الشاعر كاظم الرويعي، حيث نُشرت قصيدته بالعامية العراقية، والتي عرفت باسم “دمع الدفاتر حبر”، في أحد أعداد جريدة “طريق الشعب” اليومية. والرويعي شاعر عذب غنى مطربون عراقيون قصائد له، بينها” ياعشكَنا” التي لحنها الفنان حميد البصري وغنتها زوجته الفنانة شوقيّة بمشاركة الفنان الراحل فؤاد سالم، و”سلامات” التي غناها الفنان حميد منصور.
قرأ سلمان، مثلنا كلّنا، بتأثر، تلك القصيدة، وكان في بداية عهده بالتلحين، وقرر أن يُلحنها ويغنيها. أعتبر نفسي أحد الشهود على ولادة ذلك اللحن في الشّقة إياها، لأن الغيثار لازم سلمان في تلك الأيام وهو يعمل على وضع اللحن، الذي أصبح، في النهاية، الأغنية التي اشتهرت في البحرين، خاصة بعد أن قدّمها سلمان في مهرجانات فرقة “أجراس”، من توزيع شقيقه المايسترو خليفة زيمان.
سعيد وسلمان اللذان جمع بينها الفكر والهدف لم يلتقيا في الحياة، لكنهما التقيا في هذه الأغنية المؤثرة.