المنشور

جورج حبش

منذ أسبوع فقط التقيت ابنته الصغرى لمى حبش التي كانت في زيارة للبحرين، وكانت فرصة ثمينة للحديث عن والدها، هذه الشخصية الوطنية والتقدمية الفلسطينية والعربية الفذة، وأحد صناع التاريخ العربي الوطني والقومي المعاصر. ومع أنه يحمل على عاتقه ثلاثة وثمانين عاما من العمر، إلا أن ذهنه، كما تروي لمى، كان متقدا، حاضرا، مثابرا في متابعة تفاصيل ما يدور حوله من أحداث جسام. “هذا هو قدره” – قالت ابنته، ورغم أن الحديث مع لمى أخذ منحنى إنسانيا للتعرف على الأوجه الحميمة في حياة جورج حبش من رؤية إنسانة قريبة إليه، وعلى معرفة به، غير متيسرة للآخرين، ليدور الحديث عن جورج حبش الإنسان، إلا انه لم يكن بالوسع أن نفلت أبدا من الحديث عن جورج حبش المناضل . فهو مؤسس واحد من بين أهم التيارات السياسية في العالم العربي، هو تيار حركة القوميين العرب، ومن ثم مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبين هذا وذاك هناك دوره الاستثنائي كشخصية كاريزمية تركت بصماتها القوية التي لا تمحى في تاريخ النضال الوطني والقومي التحرري ضد الصهيونية والاستعمار والتخلف، ومن أجل الحقوق الوطنية العادلة للشعب العربي الفلسطيني، ومن اجل انتصار حركة التحرر الوطني والتقدمي العربية. عبر جورج حبش في مسيرته الكفاحية الحافلة معراجا مهما من تبني الفكرة القومية العربية في إطارها الضيق، الذي لم يخل من بعض النزعات الشوفينية، إلى فضاء الفكر التقدمي بأفقه الإنساني والأممي الرحب، التي مكنته من إنضاج وتطوير أطروحاته الفكرية والسياسية، في اتجاه إضفاء البعد الاجتماعي – الطبقي- العلمي عليها. كانت هزيمة الخامس من يونيو 1967 محطة فاصلة في تفكير وموقف ورؤى جورج حبش وصف واسع من رفاقه، الذين أدركوا أن القضية القومية لأية أمة لا يمكن أن تؤخذ منعزلة عن بعدها الاجتماعي- الطبقي، وفي تلك المرحلة الحاسمة خطى جورج حبش خطوة حاسمة في اتجاه تبني الأفكار الماركسية، وهو ما أضفى مهابة ونضجا على مجمل خطابه السياسي. رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجماهير شعبه يطلقون عليه اسم “الحكيم”، وهي صفة اكتسبها، في البداية، من كونه قد أنهى دراسة الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث يطلق أخوتنا في بلاد الشام على الطبيب وصف الحكيم، ولكن جورج حبش سرعان ما غادر مهنة الطب ليتفرغ كلية للنضال الوطني، وأضحت صفة “الحكيم”، في حالته، تحمل دلالات أخرى. فقد غدا جورج حبش رمزا وطنيا، تقدميا فلسطينيا وعربيا وامميا اقترنت حياته كاملة بقضية شعبه، حتى بعد أن تنحى عن منصب الأمين العام للجبهة الشعبية الذي خلفه فيه، على التوالي، الشهيد أبوعلي مصطفى والمناضل الأسير أحمد سعدات. بغياب جورج حبش يغادرنا رمز كبير من رموز مرحلة بكاملها، شهدت مجدا ثوريا صهر أجيالا بكاملها، كما شهدت تراجعات وإخفاقات وانكسارات، ولكن يحسب لرجال ونساء ذلك الزمن، وحبش واحد من أبرزهم، أن بصرهم وبصيرتهم، وهم يقارعون العدوان والظلم والاستغلال والاحتلال، كانتا تتطلعان نحو المستقبل والتقدم وتحديث الفكر والمجتمع، لا نحو الماضي وأفكار الانغلاق والتزمت.
 
صحيفة الأيام

28  يناير 2008