في الادبيات السياسية عندما يتحدثون عن روسيا، يميلون الى استخدام تعبير “الدب الروسي”، ليس فقط لأن روسيا موطن الدببة، وانما لأن فيها من صفات الدب الشيء الكثير: الصبر الذي يجد احد تعبيراته في المقدرة على تحمل العيش في ظروف الصقيع القاسية، وايضا الغموض المحيط بالسلوك، لأنك لا تستطيع ان تتوقع ما الخطوة التالية التي سيتقدم عليها الدب. روسيا الغامضة، المحيرة دفعت الى موقع الرئاسة فيها برجل يحمل تسمية الدب، اذا ما عرفنا ان اشتقاق اسم عائلة الرئيس الجديد آت من مفردة الدب في اللغة الروسية.
قلنا ان روسيا دفعت بميدفيدف الى الرئاسة، لكن هل تراها كانت ستفعل ذلك من تلقاء نفسها، اي لو لم يوظف رجل الكريملين القوي فلاديمير بوتين كل رصيده الشعبي والسياسي لمصلحة الرجل الذي اصطفاه خليفة له، حين بات متعينا عليه ان يغادر الكرملين لأن الدستور لا يمنحه فرصة اضافية لترشيح نفسه، فدفع بميدفيدف الذي بالكاد تجاوز الاربعين من عمره. لقد اختار الرئيس الذي انتهت ولايته واحدا من اخلص خلصائه، من موقع الاطمئنان الى ان خطاهما معا ستكون متناغمة في المستقبل، باعتبار ان الطموح السياسي لبوتين اكبر من ان ينتهي بنهاية ولايته الرئاسية التي دامت ٨ سنوات، وهذا ما برز في ما كان معروفا سلفا: غادر الكريملين كرئيس لروسيا، ليذهب الى البيت الروسي الابيض غير البعيد بصفته رئيسا للحكومة، تاركا الباب مفتوحا امام التأويلات المختلفة حول ما ستكون عليه طبيعة العلاقات بينه وبين ميدفيدف، خاصة وان بوتين لايزال في اوج قوته ونشاطه وحيويته، محمولا على امجاد نجاحاته البينة التي اعادت لروسيا الكثير من هيبتها التي اهدرها يلتسين ومن قبله غورباتشيوف.
منذ ان اصبحت موسكو عاصمة بناء على اقتراح من مؤسس الدولة السوفييتية فلاديمير لينين، لم يحدث ان حكم الكرملين شخص من موسكو، فكل الرؤساء السوفييت والروس اتو اليه من الأقاليم البعيدة. الرئيس الذي انتهت ولايته والرئيس الجديد لم يشذا عن القاعدة، فهما ليسا من موسكو، ولكن مع ملاحظة انهما آتيان من المدينة الروسية الثانية، سانت بطرسبورغ، والتي قد تكون اجمل مدن روسيا على الاطلاق، بناها بطرس الاول محاكيا في تصميمها نموذج مدينة البندقية الايطالية لتكون عاصمة القياصرة.
نشأت العلاقة بين بوتين وميدفيدف في تلك المدنية التي ذاع صيتها في الحرب العالمية الثانية يوم كانت تحمل اسم لننغراد، حيث صمدت سنوات متتالية بوجه الحصار النازي. كان بوتين عمدة سانت بطرسبورغ، فيما كان الرئيس الجديد محاميا استعان به “العمدة” في تقديم استشارات قانونية، قبل ان يتدرج معه في المناصب، حين اتى بوتين الى موسكو ضمن الحلقة المحيطة ببوريس يلتسين. وستحتاج روسيا، ومعها العالم كله، الى بعض الوقت للتيقن ما اذا كان رئيسها الجديد سيظل ظلا للرجل الذي دفع به الى دائرة المجد، ام انه سيشب عن الطوق.
صحيفة الايام
13 مايو 2008