المنشور

البرلمـــان بوصفــه‮ ‬‮”‬مهـــدرة‮” ‬للـــوقت‮!!‬

فيما العالم المتقدم‮ ‬يقطع أشواطاً‮ ‬طويلة ونووية من أجل الارتقاء والنهوض بالوعي‮ ‬المجتمعي‮ ‬وتهيئته لمواجهة أصعب التحديات في‮ ‬هذا الكون الواسع والممتد والمعقد،‮ ‬معضداً‮ ‬بإدراكه واستيعابه لأهمية الزمن وضرورته في‮ ‬حياة الشعوب‮..‬ فيما هذا العالم‮ ‬يستثمر كل أفكاره ورؤاه لحظة بلحظة وثانية بأقل منها،‮ ‬من أجل خلق مجتمع مدني‮ ‬منتج وفاعل ومبدع وخلاق‮ ‬ينطلق في‮ ‬كل شؤونه الصغيرة والكبيرة من مؤسسات وبيئات التنوير ومضخات توليد الفكر المنتج‮.‬
فيما هذا العالم المتقدم‮ ‬يذهب عميقاً‮ ‬نحو تدشين المستقبل وقراءة آفاقه،‮ ‬نستثمر‮ -‬حفظنا الله‮- ‬أهم منجزات الحضارة على امتداد التاريخ الكوني ‬بمختلف جهاته الواقعية والافتراضية،‮ ‬وأعني‮ ‬بها المؤسسة الديمقراطية ممثلة في‮ ‬البرلمان أو المجلس النيابي،‮ ‬نستثمرها لهدر الوقت وتقويض أركان هذه المؤسسة بالمشاجرات الشخصية العقيمة بين النواب وتقاذف التهم فيما بينهم وتصعيد كل ما من شأنه تعميق الفرقة والتمزق بين أفراد المجتمع بمختلف طوائفهم وأطيافهم وألوانهم واتجاهاتهم،‮ ‬وكما لو أن هذه المؤسسة الديمقراطية وجدت أصلاً‮ ‬لتصفية الحسابات الشخصية و‮’‬فش الغل‮’ ‬بين طائفتين بعينهما‮..‬
نلحظ هذا التوظيف‮ ‘‬الأعرج‮’ ‬للزمن في‮ ‬كثير من القضايا والملفات التي‮ ‬تبدأ من هم اجتماعي‮ ‬ملح وضروري‮ ‬رأب صدعه،‮ ‬لتنتهي‮ ‬إلى كوارث شخصية تسقط ظلالها الثقيلة على المجتمع برمته،‮ ‬لتعلن التخلف شعاراً‮ ‬لمرحلة التحول الديمقراطي،‮ ‬ولتمتد هذه الكوارث بإشكالاتها على صفحات الصحف وعبر الوسائط الإعلامية والإلكترونية التي‮ ‬أصبحت إزاء هكذا إشكال مؤسسات رديفة بامتياز لنتوءات التخلف الطافحة في ‬المؤسسة الديمقراطية الأم،‮ ‬لتعطي‮ ‬انطباعاً‮ ‬في‮ ‬نهاية الأمر بأن ما‮ ‬يجري‮ ‬من تجاذبات ومشاجرات وملاسنات شخصية مؤسسة على وعي‮ ‘ممسوخ‮’‬،‮ ‬هي‮ ‬الديمقراطية عينها والديمقراطية عنها براء‮!‬
الغريب في‮ ‬الأمر والذي‮ ‬بات إزاء هكذا إشكال‮ ‬غير مستغرب تماماً،‮ ‬أن هؤلاء النواب‮ ‬ينطلقون في‮ ‬أغلب جلساتهم بأن ما تم‮ ‘‬الاعتراك‮’ ‬بشأنه في‮ ‬مجلس النواب‮ ‬ينصب في‮ ‬نهاية الأمر في‮ ‬مصلحة المجتمع والوطن،‮ ‬معتقدين بأن النائب الهمام والحقيقي‮ ‬والحريص على مصلحة هذا المجتمع والوطن،‮ ‬كلما رفع عقيرته إلى حد الصراخ و‮’‬الزعيق‮’‬،‮ ‬صار مسموعاً‮ ‬صوته لدى أعلى السلطات في‮ ‬البلد،‮ ‬ومصدر ثقة لدى من‮ ‬يمثلهم في‮ ‬مجلس النواب،‮ ‬وأن من انخفض صوته وقلت‮ ‘‬عقيرته‮’ ‬في‮ ‬المجلس،‮ ‬وإن كان كلامه مقنعاً،‮ ‬فإن صوته‮ ‬غير مسموع لدى السلطات العليا وأنه ليس جديراً‮‬بثقة من‮ يمثلهم،‮‬وعليه‮‬يصبح الشعبان شعبين،‮ ‬شعب‮ ‬ينتمي‮ ‬لمن‮ ‬يرفع عقيرته ويستشيط‮ ‬غضباً‮ ‬وصراخاً ‬وزعيقاً ‬في ‬البرلمان، ‬وشعب‮ ‬ينتمي‮ ‬لمن انخفض صوته في‮ ‬المجلس،‮ ‬وتتطور المسألة ليصبح هذا الشعب منقسم إلى شعوب،‮ ‬شعبين‮ ‬ينتميان للطرفين المتناحرين بصراخهما وشعبين‮ ‬ينتميان للطرفين المتهامسين بصوتيهما،‮ ‬ويحسم الأمر في‮ ‬نهاية المطاف للدرجات المتباينة في‮ ‬الصوت،‮ ‬لا للقضايا التي‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تتصدى لها هذه الأصوات والتي‮ ‬تتصل مباشرة بضرورة الارتقاء بالوطن وتبيئته في‮ ‬منطقة تنتمي‮ ‬للحضارة قولاً‮ ‬وفعلاً‮ ‬ورؤية ومستقبلاً‮ ‬وكوناً‮.‬
الأكثر كارثية في‮ ‬الأمر،‮ ‬أن ردود الأفعال هي‮ ‬التي‮ ‬تتحكم وتحكم هذه الأصوات في‮ ‬الشارع بعد فض كل جلسة نيابية،‮ ‬فهناك من‮ ‬يعتزم أمام قواعده اللجوء إلى طرق أكثر شدة واحتداماً‮ ‬في‮ ‬التعامل مع السلطات العليا ومع زملائه في‮ ‬البرلمان بعد خيبة رجاء‮ ‘‬صوته‮’‬،‮ ‬حتى لو اضطر الى أن‮ ‬يعلن مصالحته وهدنته مع من أعلن قبل جلسة نيابية اختلافه الشديد معهم وإدانتهم في‮ ‬سلوكياتهم ومآربهم المتطرفة،‮ ‬وهناك من‮ ‬يلجأ إلى استفزاز ذاك الطرف ببرودة أعصابه في‮ ‬المجلس وكما لو أن هذا المجلس مكان لجس نبض ردود أفعال هذا الطرف أو ذاك تجاه القضايا التي ‬أودع الشعب أمانتها في‮ ‬أيديهم،‮ ‬والنتيجة في‮ ‬نهاية الأمر تتشابه في‮ ‬وجهيها الغوغائيين في‮ ‬المجلس النيابي‮ ‬والشارع،‮ ‬ومعه لم‮ ‬يعد هذا المجلس بيئة لفلترة الأفكار والمطالب وطرحها بوعي‮ ‬مشترك ومسؤول بين النواب،‮ ‬بل حتى القضايا التي‮ ‬لا‮ ‬يمكن الاختلاف عليها باتت مطية لأهواء وأمزجة هؤلاء النواب الذين تحكمهم النوايا المبيتة والترسبات المجتمعية المريضة قبل المسؤولية تجاه المجتمع والوطن‮.‬
الأكثر نكاية من ذلك كله أن بعض النواب الذين تم انتخابهم لتمثيل الشعب،‮ ‬هم في‮ ‬واقع الأمر أبعد ما‮ ‬يكون عن شرفية التمثيل لهذا الشعب،‮ ‬ذلك أن مواقفهم في‮ ‬البرلمان رجراجة وغير منضبطة،‮ ‬تارة بهذا الاتجاه وفي‮ ‘‬التارة‮’ ‬نفسها باتجاه آخر،‮ ‬لتكتشف أنهم ليسوا في‮ ‬وارد صناعة القرار أو اتخاذه،‮ ‬وأن من‮ ‬يوجه هذا القرار أطراف أخرى أكثر كفاءة منهم،‮ ‬سواء كانت هذه الأطراف إسلاموية التوجه أو خبيرة بشأن القضايا المطروحة أكثر منهم،‮ ‬وأنهم جاءوا في‮ ‬حقيقة الأمر نظراً‮ ‬لحسابات تقتضيها وجاهة ما،‮ ‬أو لحسابات تقتضيها أغلبية الطائفة،‮ ‬وعليه نسأل‮: ‬كم من الوقت هدرنا وكم من القضايا وأدنا في‮ ‬غياب عدم إدراك هؤلاء النواب بأن الزمن حسب اليابانيين والعالم المتقدم حضارة؟
 
صحيفة الوطن
4 يونيو 2008