المنشور

النفط رأس مال العرب (8)

سلعة (النفط) سلعةٌ حديثة رغم عفاريت الكيروسين والقار القديمة التي كانت تتراءى لبدو الصحراء ورغم الجمال المنبوذة التي تـُطلى بها. فهي سلعةٌ غربيةٌ اكتشفها وانتجها الغربُ عبر شركاته، فضخم من وجودها ودورها كما يفعل تجاه البضائع العصرية المركزية، كالفوسفات والذهب والفضة وباقي المعادن. لم يعرف العالمُ القديمُ السلعةَ المركزية التي تهيمنُ على البناء الاقتصادي هيمنةً كبيرةً بهذا الشكل، فهو يعيشُ على سلة كبيرة من البضائع، صحيح إن سلعة الذهب كانت تدوخه إلا أنها تبقى أداة نقد واكتناز.
إن تشكيلَ البضاعة المركزية في العالم الشرقي هو في حد ذاتهِ عمليةٌ جراحية خطرة تـُعمل لمريض بالجوع ومصاب بكل الأمراض القديمة، لكنها عمليةُ إعاقةٍ أكثر منها عملية علاج، فهي فقط تشفي الطبيب الغربي من نهمه للذهب. فالبضاعة الرئيسية المركزيةُ تقودُ إلى تورم الجسم، فالمجتمع النفطي يغدو نفطياً، والمجتمع الفوسفاتي يبقى فوسفاتياً، ومجتمع الحرير يبقى حريرياً، ويسيطر الشاي على الهند وسيلان، ويبقى العديد من أقطار أمريكا اللاتينية مصابة باستفحال الموز كبضاعة، وتحاول بريطانيا أن تجعل المجتمع الصيني أفيونياً فلا تقدر وتستطيع أن تجعل المجتمع الأفغاني حشاشاً، لمشكلات كبيرة في المجتمعات العربية الإسلامية(الصحراوية) عموماً خلافاً لمجتمعات العالم الثالث نفسه. إن الاستعمارَ يركزُ في إنتاجِ سلعةٍ واحدة كبرى في البلد المعني، مثلما يقوم في المصنع بتخصيصِ أصبعٍ واحدة للعامل من أجل العمل تاركاً كلَ جسدهِ الباقي معطلاً، وكما أنه يجعلُ العاملَ معوقاً في مصنعه فإنه يجعل شعوباً كثيرة معوقة عن المشي التاريخي الطبيعي. وفي حين ان بضاعة الشاي الهندي تظهر كجزء طبيعي من الزراعة الهندية، مثل الموز في أمريكا الوسطى، لأنها تظهرُ في شبكةٍ من البضائع القديمة المختلفة، الناتجة من كيانٍ زراعي ومدني له تاريخٌ مهم، إلا أن بضاعةَ النفط مختلفةٌ فهي تظهرُ فجأة من باطن الأرض المجدبة وحولها قفار وصحارى واسعة، ومن هنا كان ظهورها وتفجرها يُربط بشكل سحري وأنه جزء من نشاط الجن. لقد ظهرتْ عبرَ استكشافٍ غربي، علمي، فهي بضاعةٌ لها علاقة بتطور المحركات والطاقة، وبالبحث الغربي عن مصادر لطاقةِ المصانع والآلات الظامئة أبداً للنار، وجاء هذا النشاطُ الاسكشافي ككلِ حركةٍ علمية مرتبطاً بالحاجة الضرورية لقوى الإنتاج، وفي هذا الوقت كان التفسخُ يتوالى على الامبراطورية العثمانية آخر امبراطورية جمعتْ المسلمين على الجوع، فكان تفكيكُ هذه الامبراطورية يتناغمُ مع انفتاحِ شهيةِ الدول الغربية للاستعمار، ومع ظمأ مصانع الآلات الثقيلة لطاقة رخيصة كبيرة، فاشتغلت اليدان السياسيةُ والعلميةُ على تقديم البلدان شبه الصحراوية والصحراوية كبضاعةٍ سياسية كبيرة على مائدة غداء العواصم الغربية وآلاتها. وهكذا اختلفتْ بضاعةُ النفط عن بضاعةِ الشاي الهندي، فهي بضاعة مرمية في الصحراء البعيدة، لا تربطها وشائج بالمدن، وهناك رجال القبائل يمرون دون أن يعبأوا بهذه الرمال الخالية. فليس ثمة شبكة تربطها بمدن أو بزراعة، وليس ثمة أحد يملكها، فهي (معجزة). يقول باحث روسي (تعود نشأة هذا النظام بأشكاله الأولية إلى مطلع القرن العشرين. وقد ارتبطت نشأته هذه، من جهة، ببروز الحاجة الموضوعية للصناعة الثقيلة إلى كميات كبيرة من الطاقة، ومن جهة ثانية، بتسارع تطور الرأسمالية)، (نفط الشرق الأوسط والاحتكارات الدولية، إليكسندر بريماكوف). وقد اعتبر شيوخ القبائل والمسئولون (بضاعة النفط) وقتذاك كأي بضاعة تتشكلُ في أرضهم؛ فيذكر الباحثُ السابق: (إلاّ ان حجم هذه المدفوعات كان يُحتسب على نحو غريب جداً. كان صاحب الأرض من أبناء البلاد يحدد حجم هذه المدفوعات ليس على أساس الربح، الذي تحصل عليه الشركات النفطية الأجنبية صاحبة الامتياز، إنما على أساس قيمة المحاصيل والريع والضرائب، التي يجمعها من السكان المحليين، الذين يمارسون اقتصاداً طبيعياً (قبائل الرحل، بعض المزارعين، تجار المدن وسواهم)، (المصدر السابق). وهذا الاستغراب الذي يبديه المؤلفُ ليس في مكانه، فهنا تقوم الإدارةُ الإقطاعية العربية بما هو طبيعي، فالبناءُ الاجتماعي التقليدي هذا يفرضُ مقاييسَهُ الاقتصادية على البضاعة الجديدة التي تغدو لهذه الإدارة أنها لا تختلف عن البرسيم والماء. (وبالفعل، بموجب اتفاقيات الامتيازات الأولى كان الحكام المحليون يحصلون على عائدات زهيدة للغاية. دارسي، مثلاً، كان يدفع للشاه 16% من أرباح إنتاج النفط الإيراني وتصديره – وكانت شركة «أنكلو – بيرشين اويل« تحسم من هذا المبلغ نسبة 3% تدفعها لمشايخ العشائر مقابل حماية الامتياز. وبموجب اتفاقية 1925 تعهدت شركة «نفط العراق« بدفع 4 شلنات للحكومة المحلية مقابل الطن الواحد من النفط المستخرج، أي ما يعادل تقريب 1 على 8 من سعر التصدير)، (السابق) إن رؤية الإدارات المحلية للنفط بهذه الطريقة هي جزءٌ من العلاقات الاجتماعية السائدة داخل هذه المجتمعات، وهي القضية الحاسمة في المسألة، وهي إدارات من اقتصاد عتيق يصطدم بأكثر الاقتصاديات تطوراً في العالم.
 
صحيفية اخبار الخليج
11 اغسطس 2008