المنشور

أدخنة وغبار أغسطس

ربما لا‮ ‬يتذكر الاطفال الذين ولدوا قبل الغزو واثنائه وبعده مرارة تلك الشهور العصيبة‮ »‬شعور الانسان انه لاجئ‮« ‬وبأن الوطن صار في‮ ‬حضن الشيطان ودباباته المتغطرسة ورجاله،‮ ‬وهم‮ ‬يجوبون شوارع الكويت وضواحيها،‮ ‬بعد ان امتلأت السماء بغبار الكراهية وانتشر دخان الموت في‮ ‬كل زاوية من زوايا البيت الكويتي‮. ‬في‮ ‬تلك الايام القصيرة من ايام اعلان نبأ الغزو واحتلال صدام للكويت،‮ ‬كان علينا نحن الذين نتجرع في‮ ‬المنافي‮ ‬كؤوس مرارة حرمان عودتنا للوطن ومنعنا ملامسة ترابه،‮ ‬حوارا ساخنا حول تراجيدية الكويت‮. ‬ذلك الشعور المركب من الحنين والحسرة لدى الفرد فينا بات مضاعفا،‮ ‬فقد صار وطنه قطعة من الشطرنج‮ ‬يعبث بها الاقوياء ويحدد لها خطوطها الجغرافية ويرسم لها لونها فوق الخارطة كيفما‮ ‬يشاء‮. ‬
في‮ ‬صيف اغسطس كان الامتحان العربي‮ ‬اصعب وتخبط الشارع السياسي‮ ‬اصيب بلوثة في‮ ‬الدماغ،‮ ‬خاصة وان شريحة واسعة من النخب لعبت دورا كبيرا في‮ ‬تضليل الرأي‮ ‬العام تحت‮  ‬شعار‮ »‬الاغنياء والفقراء‮« ‬فتم شطب مفردة الوطن وحق الشعوب في‮ ‬تقرير المصير من القاموس السياسي،‮ ‬وبأن الدبابات ليست معنية بقرار الوطن والشعب في‮ ‬تحديد خياراته وحريته‮. ‬ما فعلته الاقلام العربية ونخبها من تشويه وتعمية‮ ‬يوم ذاك،‮ ‬ساهمت في‮ ‬لعبة التمزيق والتشتت،‮ ‬فانقسمت ليست الدول في‮ ‬رؤيتها لمشهد واضح لا‮ ‬يمكن التسويف فيه وحسب،‮ ‬بل وانعكست تلك الضلالات والبهتان في‮ ‬ضمير الانسان والمواطن العربي‮ ‬العادي،‮ ‬فلم‮ ‬ير في‮ ‬جغرافية الوطن والشعب الا مفردة مضخمة قد ترضي‮ ‬بؤس وحماس الكثيرين ولكنها لا تعالج الحقيقة،‮ ‬ولا‮  ‬تجد حلولا لأسئلة الاطفال الذين وجدوا انفسهم خارج الوطن ولم‮ ‬يفهموا‮ ‬يوم ذاك‮ – ‬مثل كبارهم‮ – ‬معنى حقيقيا لمفردة الاغنياء والفقراء لشعب ووطن واحد‮.‬
من هم الذين لعبوا بالجمل الثورية الرنانة وتعاطوا مع جمل الحقد والكراهية تعلموا بعد شهور من اخراج المحتل خطاب جديد في‮ ‬قاموس السياسة،‮ ‬تعلموا ان للشعوب حقها الثابت والدائم في‮ ‬تقرير مصيرها مهما اختلفت الانظمة وتعددت الحكومات والاحزاب والمجتمعات المدنية،‮ ‬فالشعوب مفردة مطلقة ونسبية وحقيقية لا‮ ‬يمكن تجزئتها لحظة الازمات والتراجيديا،‮ ‬فهناك مشهد واحد ومسرح وستارة واحدة ونص واحد اسمه مأساة شعب بلا وطن في‮ ‬لحظة تاريخية وكارثية‮! ‬الذين حاولوا الاصطياد‮ ‬يومذاك في‮ ‬الماء العكر اكتشفوا بعد شهور من هزيمة المحتل وعودة الشعب إلى وطنه،‮ ‬ان معمار الوطن ليست تلك الثروة والعمارات الشاهقة ولا المؤسسات اللامعة،‮ ‬وانما ارث تاريخي‮ ‬ومشاعر متجذرة في‮ ‬وجدان الانسان،‮ ‬ربما لا‮ ‬يشعر به وهو في‮ ‬داخل الوطن ولا في‮ ‬لحظة الاسترخاء والانتشاء والاختطاف المادي،‮ ‬وانما‮ ‬يشعر به عندما تهبط فوق رأسه اصوات الجحيم القادمة من الغزو،‮ ‬يومها لا‮ ‬يصبح للوطن قياسات الهدوء السلمي‮ ‬ومعاييره ولا تفسيرات عمياء ميكانيكية بليدة،‮ ‬وانما قراءة حسية للألم والمعاناة،‮ ‬فالجميع بات كسفينة نوح ورهط موسى الهارب من طغاة الفراعنة‮. ‬كان علينا نحن الابعد عن مشاعر الشوفينية والكراهية ان نناقش عند شواطئ قبرص الصيفية بروح هادئة‮. ‬
ان ما‮ ‬يحدث في‮ ‬الكويت ليس صراعا بين الاغنياء والفقراء،‮ ‬او لذة الشهوة في‮ ‬الانتقام من بلد نفطي‮ ‬صغير‮ ‬يعيش الهدوء والنعمة،‮ ‬وانما حالة وظاهرة لواقع عربي‮ ‬مرير وممزق لا‮ ‬يرفع الا شعارات براقة نحو الوحدة والدفاع عن شرف الأمة العربية وكرامتها من الاعداء‮!! ‬الغزو‮ ‬يعلمنا مثلما علّم طابور من الشباب ماذا‮ ‬يعني‮ ‬هيمنة الدكتاتور على قرار الحرب والسلم وعلى شعوره بتملك القوة والسطوة العسكرية في‮ ‬بلد شاسع ضد بلد صغير مسالم وشقيق‮. ‬فلماذا ضاعت المشاعر العربية وانقسمت‮ ‬يومذاك تحت مظلة الاوهام والتزييف؟ ودفعت بالشارع العربي‮ ‬نحو الانقسام والهروب من بؤسه وشقائه الداخلي‮ ‬نحو واقع آخر اكثر رخاء وبحبوحة‮. ‬
بتلك التفسيرات العاجلة مارست اقلام النخبة تحليلاتها النظرية متناسية سؤالا مهما لحظة الغزو‮ »‬ماذا‮ ‬يعني‮ ‬مصير شعب ووطن«؟ كلها بدت لهم ثورية عابثة وشعارات مفرطة بلغت حد الجنوب والتطرف‮. ‬لقد دفع المواطن العربي‮ ‬يومذاك مرارة التخبط بسبب ما رفعه الزعماء والنخب من افكار عدوانية ضللت الناس وفقراء الدول العربية،‮ ‬لعلها‮ – ‬تلك التحليلات‮ – ‬تحيل معاناتهم وكراهيتهم المحلية إلى كراهية قومية بكل جدارة‮! ‬وبدلا من تعميق حالة التضامن العربي‮ ‬من الخليج إلى المحيط،‮ ‬انظمة وشعوب ازاء حالة واضحة هو الاحتلال والغزو وجدنا انفسنا ضحايا التطرف القومي‮ ‬والانهيار وبرفض كل مشروع عربي‮ ‬حالم‮.‬
‮ ‬فهل نحن كنا مخطئين عندما قمنا بتفسير ظواهر ذات طبيعة اشكالية ومفارقات نحو مفاهيم متحركة في‮ ‬علم السياسة كمقولة التحرير والغزو‮. ‬ربما الدرس التاريخي‮ ‬في‮ ‬الكويت‮ ‬يستعيده العراقيون في‮ ‬زمن آخر،‮ ‬فقد رحل الطاغية مهزوما ليس من الكويت وحسب وانما من الوجود دفعة واحدة‮.‬

صحيفة الايام
18 اغسطس 2008