المنشور

الدمى حين تغامر‮ ‬بالخروج على النص


في الغرب كما في الشرق يطلقون عليهم نعت الدمى “Puppets”، بالنظر لطبيعة المهام والأدوار التي يضطلعون بها. إذ تحركهم القوى التي اشترتهم (أو التي باعوا أنفسهم لها، الأمر سيان) كيفما وحيثما ووقتما تشاء.
وارتبطت ظاهرة نشوء هذه النوعية من الناس بتاريخ الحروب والصراعات منذ ما قبل التاريخ.. إبان عصر الحروب القبلية التي سيطرت على حياة المجتمع البشري ردحاً من الزمن. إلى عصور اليونان القديمة في القرون من الثامن حتى الرابع قبل الميلاد (سبارطة وأثينا) وإمبراطورية الأسكندر المقدونية في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، والإمبراطورية الرومانية خصوصاً إبان أزمتها في القرن الثالث الميلادي، مروراً بالعصور الوسيطة التي شهدت الغزوات الإقطاعية الكبرى وولادة الدول البربرية في أوروبا.. وصولاً إلى فترة الاستعمار في العصر الحديث، التي شهدت ظاهرة الدمى فيها ازدهاراً منقطع النظير.
فلقد توسعت القوى الاستعمارية في عملية تصنيع الدمى المحلية طمعاً في تأبيد احتلالها لبلدان الشعوب الأخرى واستغلال واستنزاف ثرواتها.
بريطانيا بالذات أبدعت، كقوة استعمارية عالمية رئيسة ‘ارتقت’ لحد الإمبراطورية المحاكية للإمبراطورية الرومانية في عصورها الذهبية، أبدعت في التعاطي الفعال والكفء مع هذه الطينة من البشر الذين يمتلكون ‘موهبة’ المقامرة بكل ما هو متاح لهم المقامرة به، بما في ذلك المقامرة ‘بأوطانهم’ التي أنشأتهم وربتهم وعلمتهم وكستهم وأطعمتهم.
ومن مفارقات الزمن، وقد دارت دوائره على الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس (كناية عن اتساع رقعتها الجغرافية على امتداد الكرة الأرضية)، فانكمشت وارتدت إلى داخل حدود الدولة البريطانية التاريخية، أن يصبح زعيمها في نظر شريحة واسعة من أبناء الشعب البريطاني وبحسب تقييم وتصنيف وسائل الإعلام البريطانية، دمية يحركها من هم وراء البحار كيفما يشاؤون.
هذا ما أسهب وأطنب فيه الإعلام البريطاني المقروء والمسموع في حملته الشعواء على رئيس الحكومة السابق توني بلير، إذ أظهره في صور كاريكاتورية وأفلام وأغان تسجيلية ساخرة في صورة دمية يحركها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن طبقاً لوجهة المصالح الأمريكية في العالم.
الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رغم حداثتها (أكثر قليلاً من مائتي عام)، وعلى رغم عدم معاصرتها للاستعمار (بسبب تأخر صعود نجمها كقوة عالمية كبرى)، فقد أبت إلا أن يكون لها ‘الكعب العالي’ في ‘صناعة الدمى’ بعد أن كانت الظاهرة قد انكفأت مع انكفاء الاستعمار التقليدي. فلقد حرصت وعملت بكل دأب، كإحدى مقاربات تمثُل خاصية العظمة، على أن يكون لها في ‘كل بيت مسمار’ (كما سبق أن فعلتها شخصية جحا التراثية)، في السلطة وخارجها على حد سواء. فرصدت لذلك الأموال وعملت أجهزتها الأمنية على إنشاء مختلف أنواع الواجهات الجاذبة والحافظة للدمى. فلا غرو أن تعود مفردات مثل ‘حصان طروادة’ و’الطابور الخامس’ لتسجيل حضور ‘مميز’ في العلاقات الدولية.
ميخائيل ساكشفيلي في جورجيا وفيكتور يوشنكو في أوكرانيا، واسم آخر يقاتل الغرب من استيلاده في بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، وجوه جديدة لمعت في سماء بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق بفضل التدخلات السافرة للدول الغربية في شؤون تلك الجمهوريات، مستفيدة من حالة الضعف والهوان التي تردت إليها بعد الانهيار العظيم.
ويبدو أن قلة خبرة الرئيس الجورجي ساكشفيلي السياسية وصلفه وحماقته قد فضحت أمره، فكان أن تسبب في إحراج الدول الغربية لاسيما الولايات المتحدة التي ترعاه وتقدم له دعماً عسكرياً وسياسياً، إضافة إلى معونات اقتصادية، ثمناً لدعمه مشاريع الطاقة الاستراتيجية الأمريكية. ففيما كان العالم يترقب بتلهف لحظة انطلاق أولمبياد بكين الذي يعتبر أكبر تظاهرة احتفالية عالمية ينصرف خلالها الشعور الجمعي العالمي للتلاقي والتوحد البهيج، إذا بقوات الجيش الجورجي تندفع تحت جنح الظلام لتباغت سكان إقليم أوسيتيا الجنوبية وتقتل وتدمر بوحشية تنم عن روح ثأرية وانتقامية من الإقليم الذي لم يشأ سكانه، وغالبيتهم من الروس الذين استوطنوا هناك إبان الاتحاد السوفيتي الذي تداخلت في جمهورياته وأقاليمه القوميات والأجناس بفعل حرية التنقل والإقامة، لم يشاؤوا الالتحاق بجورجيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991 وفضلوا الاستقلال الجزئي والحفاظ على روابط متينة مع روسيا.
في خضم اشتداد المعركة على الجبهة السياسية بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي هنا متعهدة نظام ساكشفيلي، والتي استُدعيت خلالها مفردات الحرب الباردة، لمَّح كبار المسؤولين الروس أكثر من مرة بأن ساكشفيلي ما كان ليغزو إقليم أوسيتيا الجنوبية لولا أن يكون قد تلقى ضوءاً أخضر من واشنطن. والأرجح أن لا يكون الروس جادين في اتهاماتهم المرسلة هذه، وإنما المقصود هو الحفاظ على إيقاع تبادل اللكمات الكلامية ذات المفعول السحري في الحرب النفسية الموازية.
وبذا نحسب أن ساكشفيلي تحرك من تلقاء نفسه فأراد الاجتهاد ‘بالخروج على النص’. النص الحرفي للدور المرسوم عادة للدمى.. مفترضاً، تحت نشوة الدعم المعنوي الذي حازه من زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس للعاصمة الجورجية تبليسي قبل أسبوعين من مغامرته الكارثية، أن الولايات المتحدة والغرب عموماً سيهبان لنجدته ونصرته إن هو نفذ وعيده وتهديده باجتياح أوسيتيا الجنوبية وإعادتها بالقوة إلى بيت الطاعة الجورجي.. وإن روسيا لن تهب للدفاع عن الإقليم وسكانه وعن مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية الحيوية هناك، وإنها ستكتفي بالتهديدات اللفظية على نحو ما فعلت عندما أعلن إقليم كوسوفو استقلاله من جانب واحد وسارعت الدول الغربية للاعتراف به كدولة مستقلة عن صربيا، وعندما قررت واشنطن نشر الدروع الصاروخية في كل من تشيكيا وبولندا.
إنه اختبار للقوة لم يكن في محله كما كان حذر منه وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسينجر مطلع تسعينيات القرن الماضي حين كتب في فورن ريفيو مقالاً حذر فيه من التعامل مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بخفة وتركة هي من نصيب الغربيين ليقتسموها فيما بينهم بدلاً من التعامل معها كأمة لها مصالح وكقوة رئيسة في القارة الأوروبية.
 
30 أغسطس 2008