المنشور

نقـد ركاب الموجة

 
حين كان الشارع قومياً حاداً كانوا قوميين متطرفين صاخبين. وحين صار الشارع ناصرياً صاروا ناصريين. وحين صار الشارع ماركسياً صاروا ماركسيين. وحين صار الشارع طائفياً صاروا طائفيين.
انها نخبة تركب الموجة الشعبية في كل مرحلة وظرف. انها نخبة التلاعب باللغة والفذلكة الكلامية وتمييع المواقف وخلط الأوراق والتورم الذاتي.
ولكل مرحلة من هذه المراحل أسبابها، فالشعب ليس(ببغاء عقله في أذنيه) كما قال أحد الشعراء، والشعب كذلك ليس كائناً مقدساً لا يعرف الأخطاء، والانقسامات والتشوهات، بل هو قوى متعددة محكومة بسببيات اجتماعية وظروف اقتصادية في كل فترة، دأبه أن يبحث عن منافذ سياسية لكي يغير أوضاعه المتردية والمضنية.
والقوى السياسية التي تتصدر حياته تتحمل مسئوليات قيادته في هذا الطريق أو ذاك، في خلق الروابط الفاعلة معه كي يحقق أهدافه ويحسن معيشته.
 
الخطورة في القوى السياسية أن يسودَ فيها ركابُ الموجة، وطلاب المصالح ويقرروا مصيرها، والمشكلة الطويلة المريرة التي عاناها طوال تاريخنا السياسي هي في هذا الشكل من الركوب، هي في هذه النوعية التي لا مبادئ لها سوى القفز فوق ظهور الناس للوصول إلى أهدافهم.
وقد عانينا خلال العشرين سنة الماضية من خطورة التيارات المذهبية السياسية وشقها لصفوف شعبنا، وبعثرتها لنضاله وحركته الاجتماعية الموحدة، وانسياق الشعب وراءها والذي تم لأسباب موضوعية كثيرة، ولتبدل الدول المؤثرة في المنطقة، وما ساد فيها من حركات طائفية أعادت الوعي والحياة إلى العصور الوسطى.
وإذا بدا أن هذه التيارات قد تركت التطرف وبدأت تتلمس الخريطة الموضوعية لبلدنا، وأمامها طريق طويلة في هذا، لتدرك بأن وعيها الإيديولوجي هو أحد أسباب عجز واقعنا عن متطلبات الناس في التغيير، فإن بعض ركاب الموجة الذين خيبت هذه الموجة نفسها آمالهم، و(أنحرفت) كما يقولون، فنبذتهم وراحت تبحث عن شراء الأصوات الانتخابية أكثر من الحفر في الواقع ونقده وتغييره، أحسوا بفاجعتهم الشخصية، وأن جثومهم فوق ظهر الحصان الجامح لم يؤد إلى رفعهم فوق الأكتاف ليصلوا إلى العرش، والكرسي.
وبدلاً من أن يوجهوا سهام النقد لهذه الحركات ويقارنوا بين الدعاية الرهيبة التي كانوا يرددونها والصرخات المدوية التي يطلقونها لكنس الأرض من الشر والأرذال، ثم يتمعنوا في حجم (المنجزات) الهزيلة التي حققوها، بدلاً من ذلك يوجهون النقد إلى قوى كانت دائماً مقموعة ومهمشة ومضحية! إن أعظم منجزاتكم هي إنكم فرقتم شعباً كان متحداً، وحولتم خريطة بلد إلى خرائط! بدلاً من أن يلوموا(رفاقهم) الطائفيين الذين كانوا يوجهون الحركات الفوضوية للحرق وهدم المؤسسات الأهلية، وكانوا دائماً يقولون انها من عمل الحكومة بدلاً من أن يلوموا رفاقهم هؤلاء الذين كانوا يرسلون مثل هذه الأوامر، والذين تحولوا من صائدي الملايين في بضع سنوات، (دون أن يسألوهم من أين لك هذا) يلقون اللوم على تنظيم لم يحصل من هذه المرحلة على ما حصل عليه هؤلاء، ومن قطفهم ثماراً جاءت من سذاجة الشعب ومن خداعه! ولكن لا تظنوا أن الشعب سيبقى هكذا ! لكن راكب الموجة لا يريد إصلاحاً وتغييراً، بل نجومية سياسية وكراسي، وإلا لقام بنقد هؤلاء الرفاق المرحليين الذين صعد معهم على سفينة الفوضى وأجرمَ معهم بما أجرموا، وفعل معهم ما لا يُقبل من مبادئه الوطنية التقدمية، فمحى فكرا وأزالَ نظرية في لمحةِ عينٍ، ضارباً بعرض الحائط بشهاداته ودراساته. عادَ إلى شعائره العتيقة، التي يريد أن يركب ظهرها هي الأخرى، لا لتوصله هذه المرة إلى العرش المكين، بل لينقد جمعية متواضعة الحضور في ظل تكالب الطائفيين على لحم الناس.
بماذا أجرمت هذه الجمعية وتستحق هذه الاتهامات؟ بسبب إن بعض أعضائها صار في مؤسسات حكومية وهم على عدد الأصابع الواحدة ونتيجة عملهم واختياراتهم، ولحسن الحظ لم يصيروا وزراء أو وكلاء وزارات كما أصبح بعض ركاب الموجة! بل حتى عندما كانوا نواباً في دورة المجلس السابق، وكان بعضهم مستميتاً في الدفاع عن مصالح الناس، وتتبع الاختلاسات والرشاوى، لم يلق من ركاب الموجة الذين ترنحوا من فوق ظهر هذه الموجة الطائفية وفقدوا توازنـَهم العقلي والأخلاقي، إلا كل تشهير شخصي لا يرقى أبداً إلى مستوى مناقشة سياسية تحليلية عامة.
في الوقت الذي يلملمُ هذا التيار أشلاءه ويعددُ اسماءَ شهدائه ويبحث عن أوراقه وتاريخه، ويتذكر السنوات الطويلة التي قضاها في السجون، ويلوذ بالصمت عن الرد على هذه الشتائم، يتحمل من ركاب الموجة العاقرة كل سباب بعدم الكلام، ويتوجه إلى البحث عن سبل العمل والوحدة مع التيارات الأخرى من أجل المواطن الضائع بين حشود العمالة الأجنبية وهجمة الهوامير على الشواطئ وعلى دخله، ويتحمل من بعض ركاب الموجة الذين تناقصوا لحد كبير بعد أن اتسعت حفلات الغنائم، المسئولية عن كل خطأ في البلد وكأنه بيده السلطة أو أنه يحكم هذه الجماهير الكثيفة التي لا تـُحرك إلا ضد التاريخ؟ بل انه إذا مات أحد رفاقهم طعن في الجمعية والتيار وحملهم مسئولية موته الشخصي، في حين إن الرفيق المذكور سانده أصدقاؤه بقوة ووقفوا معه، عبر التوظيف والدعم المالي، وثمة حيثيات ومستندات في ذلك، والرفيق تعرض لمرض ومات بسببه، ولا يملك أي تنظيم سياسي أن يقاوم مثل هذه الأمراض الخطيرة، ولكن رجل الاتهامات والنقد الشخصي لا يريد أن يعرف أي حقيقة موضوعية، وأن يسأل عن الواقع، بل في رأسه كراهية يريد أن يفرغها بأي شكل رافضاً احترام سنه وعلمه المفترضين. وإذا كان الرفيق العاطل الفقير كما يقول راكب الموجة يعاني البطالة والفقر أما كان من راكب الموجة أن يتصل برفاقه القدامى الذين كان يجتمع معهم ليرسلوا فاكسات النار إلى البلد، وقد أصبحوا مسئولين كبارا وتجاراً، بيدهم الوظائف والفلوس الكثيرة، أن يترفقوا بالمناضل المريض العاطل؟ أم أنكم لا تتذكرون إلا روائح الشواء البشري؟! ولا تلتموا إلا على كل مصيبة وحفلة غنائم؟ لا ينتظر من ركاب الموجة إنتاج فكر وتنمية عقل نضالي وخلق تراكمات له، تتغلغل بين الناس وتصبح قوة مادية مؤثرة، بل هم يبحثون عن حصان جديد يركبونه، وأي جماعة أخرى من البسطاء المفرغين من أي وعي عميق يمتطونها لتنفخ في هذه النجومية المريضة التي إهترأت من كثرة ما خدعت وزورت التاريخ.



أخبار الخليج  9 سبتمبر 2008