المنشور

مكافحة الإرهاب ليست مهمة بوش وحده

حاول الرئيس جورج بوش أن‮ ‬يودع مقعده الرئاسي‮ ‬باحتفالية إمبراطورية تليق بمن‮ ‬يودون دائما الدخول للتاريخ بحالة من تمجيد الذات،‮ ‬وقد بدت تلك المعالم واضحة من خلال تلك الجنائزية التاريخية للكارثة،‮ ‬فذكرتنا بعظمة الموسيقارالألماني‮ ‬هاندل الذي‮ ‬أدخل قطعة موسيقية لموكب جنائزي‮ ‬في‮ ‬احد أعماله وأسماها‮ »‬كسرى‮«. ‬
ما تم في‮ ‬مناسبة الذكرى السابعة لضرب البرجين ومبنى البنتاغون من احتفالية طقوسية المظهر،‮ ‬لم تكن ذات طبيعة شخصية أو زواج الفيغارو لموزارت،‮ ‬وإنما مارش حزين لشتراوس،‮ ‬يذكرنا أكثر بكل الهزائم التاريخية في‮ ‬الحروب وتلك النفحات المعبرة عن الحماسة المزيفة‮. ‬ما فعله الرئيس وما‮ ‬يفعله الطاقم المحيط به ليس إلا،‮ ‬محاولة‮ ‬يائسة لامتصاص المأساة الكبرى في‮ ‬التاريخ الأمريكي،‮ ‬والتي‮ ‬لم تحدث في‮ ‬ظل أي‮ ‬رئيس معاصر فيما عدا الرئيس بوش،‮ ‬محاولا تحويلها من حالة سلبية إلى صورة ايجابية لفترة حكمه‮. ‬سيكون ذلك النصب التذكاري‮ ‬الذي‮ ‬تم تشييده،‮ ‬مشهدا لمأساة وتاريخ من الألم في‮ ‬ذاكرة الشعب الأمريكي‮ ‬عامة وعائلات الضحايا بشكل خاص،‮ ‬عندما‮ ‬يتساءل الأبناء أسئلة أعمق لماذا فشل الرئيس بوش في‮ ‬منع ذلك الهجوم؟ لماذا لم‮ ‬يستقل في‮ ‬الحال؟ لماذا لم تتم محاكمته على إهماله للأمن القومي؟ المسألة ليست بتدشين نصب كلفته ‮٢٢ ‬مليون دولار أمريكي،‮ ‬ولا بفخامة الاحتفال الوداعي‮ ‬للرئيس الذي‮ ‬يعي‮ ‬جيدا انه راحل دون شك،‮ ‬غير أن الحزب الجمهوري‮ ‬سيبقى دائما حصانا منافسا في‮ ‬الساحة السياسية لبلد‮ ‬يتبادل فيه الحزبان البيت الأبيض‮. ‬سيرحل بوش ولكن الأسئلة التي‮ ‬لن تهدأ حتى بعد ذهابه،‮ ‬وقد تكون جزءاً‮ ‬من مفاتيح إجاباتها محفوظة في‮ ‬خزانات الدولة والأرشيف السري‮. ‬في‮ ‬العام القادم وفي‮ ‬الذكرى الثامنة لضحايا البرجين والاعتداء على مبنى البنتاغون سيتذكر احد المنتصرين في‮ ‬انتخابات نوفمبر،‮ ‬سواء كان باراك أوباما أو جون ماكين،‮ ‬فكلاهما سيضع‮ ‬يديه في‮ ‬جيبه الأيسر ويخرج ورقة كتبت فيها السطور البكائية المعتادة،‮ ‬وبنفس إصرار الدولة العظمى في‮ ‬مكافحة الإرهاب،‮ ‬وبأن أمريكا هي‮ ‬الدولة الوحيدة القادرة على زعامة العالم وقيادته في‮ ‬ملاحقة الشيطان في‮ ‬سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان‮. ‬ما لا‮ ‬يمكن أن نجزم نهائيا هو رحيل حزب بوش التاريخي،‮ ‬إذ من المحتمل أيضا أن‮ ‬يصعد للرئاسة مرة أخرى حزب المحافظين،‮ ‬فهامش الفرق بين المتنافسين على الرئاسة ليس كبيرا،‮ ‬وبذلك فان مكافحة الإرهاب بنهج‮ »‬بوش‮« ‬سيظل قائما،‮ ‬وبنفس الروح والخطاب سيتواصل الموال والعزف القادم من البيت الأبيض،‮ ‬فالمحافظون الجدد،‮ ‬يحاولون مواصلة هندسة العالم،‮ ‬غير اننا بتنا ندرك ان دهاليز الدولة العظمى أعمق من أولئك الزعماء الواقفين أمامنا‮. ‬
ما سيبدو مسليا ليس جون ماكين في‮ ‬حالة انتصاره فنحن اعتدنا خطاب الرئيس بوش خلال ‮٨ ‬سنوات،‮ ‬ولن‮ ‬يضيف ماكين تحولا دراماتيكيا في‮ ‬البيت الأبيض،‮ ‬ولكن من سنسمع نغمتهم المختلفة والملونة وربما المتطابقة هم الديمقراطيون في‮ ‬حالة نجاحهم،‮ ‬فغياب بوش لا‮ ‬يعني‮ ‬غياب الإرهاب العالمي،‮ ‬فليس باستطاعة أوباما وحزبه إهمال مسألة مكافحته،‮ ‬حيث تحول إلى أوسع من رغبات بوش وأجهزته الاستخباراتية،‮ ‬التي‮ ‬أفهمت العالم أنها خارقة ولا‮ ‬يمكن اختراقها بهذه الدرجة من السهولة‮!‬
‮ ‬نعم كانت مهزلة سياسية وأمنية وعسكرية،‮ ‬بأن‮ ‬يتم الهجوم على دولة عظمى في‮ ‬عقر دارها وبهذا الحجم،‮ ‬وهذا ما لن‮ ‬ينساه الشعب الأمريكي‮ ‬كلما حدق في‮ ‬النصب المشاد أمامه‮. ‬
ما تركه الرئيس بوش خلفه من إرث ثقيل،‮ ‬لأي‮ ‬رئيس لاحق،‮ ‬بحاجة إلى سنوات طويلة،‮ ‬فمكافحة الإرهاب ما عادت مهمة مناطة برئيس رحل أو ترك العالم خلفه لكي‮ ‬يرتاح في‮ ‬مزرعته،‮ ‬فلعنة ذلك اليوم ستبقى كظلال قاتمة تلاحقه حتى وهو خارج البيت الأبيض،‮ ‬وبتعبير المتحدثة الإعلامية في‮ ‬البيت الأبيض دانا بيرينو التي‮ ‬قالت‮ »‬إن الرئيس‮ ‬يفكر في‮ ‬أحداث ‮١١ ‬سبتمبر كل‮ ‬يوم عندما‮ ‬يستيقظ من النوم وقبل أن‮ ‬يذهب إلى فراشه‮« ‬فلا نعرف إن كانت تلك مزية حميدة كشعور بالمسؤولية أو نوع من تأنيب الضمير لما قد حدث في‮ ‬عهده‮ !. ‬
ربما تلك التراجيدية قد تركها المخرج الأمريكي‮ ‬مور في‮ ‬فيلمه الوثائقي‮ ( ١١/٩ ) ‬عندما صور مشهد الرئيس واجما وجوم الموت وهو في‮ ‬زيارة لحضانة أطفال في‮ ‬فلوريدا،‮ ‬فبعد همسة قصيرة في‮ ‬أذنه كادت الغصة أن تخنقه‮. ‬لم نسأل أنفسنا سؤالا تاريخيا ماذا كان سيفعل رئيس آخر‮ ‬غير بوش في‮ ‬مواجهة الكارثة،‮ ‬سؤال افتراضي‮ ‬لا‮ ‬يمكننا انتظاره،‮ ‬غير اننا بالإمكان أن نشاهد ماذا سيفعل رئيس قادم في‮ ‬مكافحة الإرهاب ؟‮! ‬فالسؤال المجرد أسهل بكثير من سؤال مرهون بواقع سياسي‮ ‬قادم وبعد شهور‮. ‬ما لا‮ ‬يمكن أن نهمله أو نتجاهله في‮ ‬عهد بوش هما أمران ترابطا معا،‮ ‬وتم توظيف الأول لصالح الآخر،‮ ‬وان كانا موضوعين أو مشروعين مختلفين،‮ ‬الأول هو مشروع مكافحة الإرهاب العرضي‮ ‬ومشروع الهيمنة العالمية الثابت‮’ ‬كموضوع جوهري‮ ‬لمسألة عصر العولمة،‮ ‬فتلك سمة من سمات بنيوية للامبريالية في‮ ‬الألفية الثالثة،‮ ‬فيما الإرهاب مظهر من مظاهر تلك الحقبة،‮ ‬وقد تم توظيف تلك الظاهرة أو المشروع لصالح الهيمنة وأعطاها المبررات لخرق القانون الدولي‮ ‬وتكريس مشاريع عدة كالعسكرة وتدشين القواعد ومحاولة إرساء الأحادية القطبية ونشر ثقافة الغطرسة وروحها العمياء‮. ‬وهذا ما لن‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يتحرر منه أوباما كمشروع أمريكي‮ ‬مماثل ومستمر لذهنية الهيمنة‮. ‬قد تختلف الأجندة السياسية بين أوباما وبوش‮ / ‬ماكين في‮ ‬المناهج والوسائل،‮ ‬ولكن لا احد فيهما سيتوقف عن ملاحقة الإرهاب،‮ ‬ولا المجتمع الدولي‮ ‬بكل منظماته المدنية وحكوماته،‮ ‬فمكافحة الإرهاب باتت مهمة عالمية،‮ ‬تركها لنا الرئيس بوش كنصبه التذكاري،‮ ‬بعد أن تحولت له كابوسا في‮ ‬النوم وفي‮ ‬اليقظة،‮ ‬مثلما لم‮ ‬يعد الإرهاب عدواً‮ ‬وهمياً‮ ‬كما‮ ‬يصوره المتشددون الاسلاميون‮!.  ‬

صحيفة الايام
28 سبتمبر 2008