المنشور

بين ناصر.. ونصرالله

في أوائل شهر رمضان المبارك الجاري والمتزامن هذا العام بالعدة والتمام مع شهر سبتمبر، سألني شاب صديق وزميل لي في العمل، في أواخر الثلاثينيات من عمره، ملتزم دينيا باعتدال، ولا تستهويه السياسة إلا باعتدال أيضا، أي ليس الى درجة الانغماس فيها أو احترافها، وهو الى ذلك من مؤيدي حزب الله اللبناني ومن مقلدي مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، ويعد أيضا من الشباب المنفتحين غير المتعصبين حيث تربطهم علاقات مودة أو صداقة مع العديد من ذوي التيارات والتوجهات الوطنية والإسلامية المختلفة..
أقول سألني هذا الشاب الصديق سؤالا وجيها أراه جديراً بالاهتمام والمناقشة والحوار في ذكرى وفاة الزعيم العربي الرئيس المصري جمال عبدالناصر التي مرت ذكرى رحيله الثامنة والثلاثون عن عالمنا هذا اليوم. هذا السؤال مفاده هو: قل لي بربك كيف تنظر إلى كل من جمال عبدالناصر والسيد حسن نصرالله من حيث أيهما الأكثر عظمة وشأناً في الدور السياسي الذي لعبه كل منهما في تاريخ العرب المعاصر؟ وأيهما أقرب الى قلبك؟ فأجبته باقتضاب بأن لكل منهما دوره التاريخي المميز والمختلف في سياقات ظروفه الزمانية والمكانية، وانني لأكن التقدير والمحبة لكليهما بصرف النظر عن تفاوت عمق هذا التقدير، وبغض النظر أيضا عما أراه من أخطاء وسلبيات وقعت فيها سياسات كل منهما في محطات حياة كل منهما النضالية. حينما وقعت هزيمة 1967 والتي نالت من صحة الزعيم ناصر ما نالته حتى أودت بحياته بعد ثلاثة أعوام فقط، كان عبدالناصر قد باشر على الفور بتطهير الجيش المصري من رموز الفساد من قادة وأركان الجيش، وأعاد بناء القوات المسلحة من الصفر بمساعدة الاتحاد السوفيتي، وأطلق على الفور معارك الاستنزاف على القناة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي في سيناء استعدادا لخوض معركة فاصلة لتحرير شبه جزيرة سيناء. وبالتزامن مع هذه المعارك الاستنزافية انطلقت أو تصاعدت أعمال المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي ولاسيما في أهوار نهر الأردن. وحينها عندما وصفها عبدالناصر في أواخر الستينيات، أي قبل وفاته بسنتين، بأنها انبل ظاهرة أنجبتها الأمة لم يكن عمر السيد حسن نصرالله أكثر من تسع سنوات فيما كان الصديق الشاب السائل لم يبصر على نور الحياة بعد. إلا أن القدر لم يمهل عبدالناصر فقد لقي حتفه تحت تأثير مضاعفات «السكري« وهو يخوض، بأقصى ما يملكه من جهد مضن مميت، معركة سياسية خلال القمة العربية الطارئة التي انعقدت في القاهرة لحماية المقاومة الفلسطينية على إثر ما تعرضت له من مجازر في الأردن وصفت حينذاك فلسطينيا بـ «أيلول الأسود«. والقدر ذاته لم يمهل عبدالناصر ليستكمل ما بدأه من إعادة بناء القوات المسلحة لخوض حرب التحرير الفاصلة مع العدو لتحرير سيناء، فجاء تحريرها بسبب مساومات خلفه أنور السادات منقوصا غير مكتمل. أما المقاومة المسلحة الفلسطينية التي وصفها ناصر بأنها أنبل ظاهرة أنجبتها الأمة بعد هزيمة 67، فقد تم استكمال تصفيتها أو إجبار فصائلها على الانسحاب من جنوب لبنان عام 1982 بعد سنوات قليلة من إجبارها على الانتقال من الأردن الى هذا المكان، لتبدأ حركة التحرر الوطني الفلسطينية سلسلة من التراجعات والانتكاسات السياسية والعسكرية انتهت بالنهاية المؤسفة الراهنة التي مازلنا نتابع فصولها المأساوية وليكون تصفيتها هذه المرة ليس على يد الجيش الإسرائيلي أو على يد واحد من جيش نظامي البلدين العربيين اللذين استضافاهما تباعاً بعد النكسة، بل على أيدي أبنائها أنفسهم تطبيقا حرفيا لمقولة «حينما تأكل الثورة أبناءها«. وتشاء المقادير التاريخية، ولعوامل ذاتية وموضوعية ليس هنا موضع تناولها، ان تكون أنبل ظاهرة أنجبتها الأمة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وإجبار فصائل المقاومة الفلسطينية على الانسحاب الى خارج لبنان هي المقاومة الوطنية اللبنانية التي انطلقت على أيدي ائتلاف من قوى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في مثل هذه الأيام عام 82 على إثر وصول قوات الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، والتي بات يحمل لواءها اليوم حزب الله لعوامل وأسباب ليس هنا أيضا موضع تناولها. فلو أن عبدالناصر أمهله القدر بضعة أعوام لما تردد عن وصف المقاومة اللبنانية، سواء جاءت تحت لواء الأحزاب الوطنية أم تحت لواء حزب الله بأنبل ظاهرة جديدة ثانية عرفتها الأمة العربية بعد اجتياح 1982م بافتراض أن الظروف السياسية أفضت إلى ذلك الاجتياح لو أدرك ناصر زمن حدوثه. ذلك أن هذه المقاومة اللبنانية هي التي أذلت، اعتماداً على سواعد وبطولات أبنائها، العدو الإسرائيلي ثلاث مرات، الأولى: حينما أجبرته على الانسحاب الى الشريط الحدودي بعد سنوات قليلة من اجتياح 82، والثانية حينما أجبرته على الانسحاب من الشريط الحدودي عام 2000م، والثالثة حينما أحبطت عدوانه الوحشي البربري صيف .2006 وبهذا نستطيع القول ان كلا الرجلين القائدين العربيين، نصرالله، وناصر، لكل منهما دوره التاريخي المميز في الصمود والممانعة دفاعا عن كرامة الأمة العربية، أيا كانت أخطاء كل منهما السياسية. وليس من الإنصاف السياسي أو الموضوعية والأمانة التاريخية غمط دور كل منهما التاريخي انسياقا وراء عواطف وأهواء سياسية أو حزبية أو فئوية ضيقة. ومن المفارقات الموضوعية التاريخية العربية التي تخلو من مغزى أن يكون المثل الأعلى والقدوة في الجهاد والمقاومة للسيد حسن نصرالله هو قائد ورجل دولة غير عربي ألا هو السيد علي خامنئي الذي بكى عبدالناصر غداة وفاته، وقال ما معناه إنه أحس بأن جزءا من كرامة العرب قد ولت أو ثلمت برحيله. وفي عشية الذكرى الحالية لوفاته كان الرجلان، نصرالله وناصر، من المكرمين من قبل أحد الأحزاب الناصرية في الذكرى الأخيرة لثورة يوليو . ومع ذلك فإن الكثيرين من جيل نصرالله ومناصريه الشباب مازالوا، للأسف، يجهلون مكانة وزعامة ناصر التاريخية أو يقدرونها حق قدرها إذا ما قيض لهم معرفة شيء عن هذه المكانة والوعي المعمق بدورها التاريخي.
 
صحيفة اخبار الخليج
28 سبتمبر 2008