المنشور

أحقيـة النائــب


هل من حق عضو مجلس النواب أن يأخذ الأمور بالشبهة، أو أن يجرّح أو يشهر في ذمة أي وزير أو مسؤول كيفما يشاء، وبأي اتجاه أراد يميناً وشمالاً، ويرمي الناس بأقذع الاتهامات من دون أدلة أو براهين، أو على أساس أنصاف معلومات، أو شائعات روجت عمداً أو بالمصادفة، وأن يجعل كفاءته تقتصر على عنتريات وثرثرة وشتائم يتقن فن توجيهها بالاتجاه حسبما يريد، حتى وأن جاء ذلك تحت ذريعة مواجهة الناس بالحقائق، أو ممارسة الدور الرقابي في ملاحقة الفاسدين والمفسديـــن.. !!
وهل من حق أي نائب أن يستكثر أو يستنكر على أي وزير أو مسؤول أو مواطن في أن يمارس حقه في الدفاع عن نفسه بالرد والتوضيح والتكذيب وحتى باللجوء إلى القضاء ليرفع عنه تهمة القذف والسب والتشهير أمام من يتخندق بحصانته البرلمانية ظاناً بأنه فوق القانون، وهو الذي يفترض أن يكون القدوة في الالتزام بالقانون..!
وهل من حق النائب أو بعض النواب أن يجعلوا الخلافات والاختلافات بينهم أو فيما بين كتلهم النيابية أو التيارات أو الجمعيات التي يمثلونها أو ينتسبون إليها أكثر فائدة لمصالحهم من التفاهم والتوافق بينهم إلى الحد الذي لا تعود فيه هواية الخلاف والاختلاف مجرد دفاع عن مصالح تجاه الآخر، بل تشكل احترافاً لتأمين تلك المصالح على حساب المصلحة العامة.
وهل من حق النائب بصفته، أو تحت مظلة أي كتلة نيابية أن يمارس كل أشكال الضغط، أو المساومة، أو الابتزاز لبعض من هم في مواقع المسؤولية للتدخل في قرارات ادارية بعينها، أو لتمرير بعض المعاملات الاستثنائية، أو لاختطاف بعض المناصب للهيمنة على مواقع قيادية واشرافية في هذه الوزارة أو تلك المؤسسة الرسمية لصالح من هم محسوبين عليه أو على كتلته، أو ذاك التيار الديني أو السياسي، مسقطاً غيلة وجبراً واعتسافاً معايير الكفاءة ودهسها بالإقدام، ووضع أصحاب الكفاءة والأحقية هدفاً لرماية حرة في صورة غامضة مفعمة بالأسرار والأحاجي والألغاز!!
وهل من حق النائب أن يخرق المبدأ الدستوري القاضي بفصل السلطات بتدخله بشكل فج في كل شأن صغير أم كبير من شؤون وأعمال السلطة التنفيذية، يريد أن يعين من يشاء، ويعزل من يشاء، ويقيّم على هواه من يشاء من المسؤولين، ويريد أن يلغي أو يفرض إجراءات أو قرارات ادارية محددة، ولا غرابة أن يتحول بعض النواب وكأنهم وزراء، وحتى مدراء تنفيذيين يتدخلون في أعمال السلطة التنفيذية وفي كل عمل اداري بشكل لا تنجوا منه شرعة القانون وقاعدة الفصل بين السلطات، مثيراً لقدر كبير من الردح وخلط الأوراق وتضييع بوصلة الأولويات.
وهل من حق النائب أن يسيء إساءة بالغة إلى مسلمات العمل السياسي والبرلماني، وأن يفتي في كل شأن من شؤون البلاد والعباد وأن يطلق العنان لآراء وتصريحات ومواقف ملغومة دون تبصر أو دراسة أو تروٍ، أو أن يعمد عن قرب أو عن بعٌد أيضاً بالأساليب التي باتت مفهومة ومعلومة إلى افتعال الأزمات، أزمة تلو الأزمة وخلق أجواء مشحونة بالتوتر تدفع الى الانغماس في هامشيات بعض الأمور، أو الى شحن طائفي بغيض، وهل من حق النائب تخريب أو تعطيل جلسات مجلس النواب بالصراخ والعويل وعدم الالتزام بأدبيات الحوار والنقاش من أجل نفع شخصي، أو نفع للجهة التي ينتمي إليها كتلة أو تكتل أو تيار، أو جمعية، أو طائفة، أو مذهباً، أو لتصفية حسابات أو مرارات مترسبة في الأعماق، وهل من حق النائب أن يفهم ويمارس الديمقراطية بطريقة لا علاقة لها بالأصول والأسس التي يجب أن تقوم عليها أو أن يجعلها مجرد شعار يتلاعب به حسب مشيئته واهؤاءه، ويجعلها ديمقراطية تنتصر للطائفة والمذهب بدلاً من أن ننتصر للوطن والمواطن.
هل من حق النائب أو بعض النواب أن يدعون احتكار التمثيل الوطني ونكرانه على الآخرين، أو يجنحون بالعمل البرلماني السياسي إلى عمل يفتح قنوات من الالتباسات والمناورات التي تمعن في رسم صورة متشائمة، بل وكافرة بالديمقراطية وكأن هذا النائب أو بعض النواب ينفذون خطة تيئيس المواطن من مجلس النواب.
هل من حق النائب أن يستغل الاستجواب النيابي الذي هو حق دستوري مكفول له لممارسة دوره الرقابي في المساءلة والحساب ليجعل الاستجواب حقا يراد به باطل أو موقفاً مسخراً لأجندات مختلفة، فئوية أو طائفية، أو حسابات شخصية، أو تحويل الاستجواب إلى مناكفات ومهاترات أو حالة لغط سياسي وشعبي لا حالة رقابية وإصلاحية، وهل من حق النائب أن يلوح بالاستجواب في كل قضية ادارية بسيطة إلى الحد الذي يفقد تلك الأداة الدستورية قوتها ويفرغها من مضمونها.
  هل من حق النائب أن يتحفنا نحن الملسوعين بالخيبات بأن يكون جل اهتمامه إحداث الضوضاء في كل خطوة يخطوها، أو في كل موقف يتبناه، أو في كل رأي يطرحه، بشكل لا يضفي الحيوية على العمل البرلماني، ولا يعزز الإيمان بالتجربة النيابية، وهل من حقه أن يضرب على الوتر الطائفي، أو أن يستثير العصبيات الطائفية وأن يجعل منطق الكيدية السياسية هو الغالب في تعامله مع غيره من النواب، أو في تعاطيه مع بعض الملفات، وأن يجعل كل طرح وطني أسير المعادلات الطائفية والمذهبية.
نستطيع أن نمضي قدماً وأن نستأنف المزيد من التساؤلات والملاحظات والمآخذ حيال ممارسات وتصرفات نواب كثر باتوا يضيعّون معظم أوقاتهم في تبرير أو تأكيد حضورهم في المشهد السياسي، ويتلذذون باتهام الآخرين بفشل هم صانعوه. فإننا على قناعة بأن ثمة عوامل مجتمعة من المؤكد أنها المسؤولة عن تضخيم الفصل الذي نعتقد والله أعلم بأنه لن يكون الأخير في مسلسل العلاقة بين الحكومة ومجلس النواب، رغم شعارات التعاون التي تبديها الحكومة والمجلس فكلاهما لا يعفى من المسؤولية.
مهما يكن من أمر فإن من الواضح حتى الآن أن العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لا زال يعتريها التباين والبلبلة والتوتر، وما حدث في شأن رفع الصيحة الاحتجاجية للنواب على خلفية عدم حضور الوزراء للجلسات، يبدو أنها »بروفة« محسنة لتوتر كبير في العلاقة بين مجلس النواب والحكومة قد تدخلنا في نفق التحدي السلبي، أو المناكفات غير الجائزة، أو تجعلنا أمام مزاد علني قد ينساق فيه كثيرون جل همهم أن يرسموا لأنفسهم دور بطولة زائفة.
ما حدث في علاقة التجاذب الراهنة بين السلطتين والتي أحسب أن من بين تجلياتها الأخيرة ذلك التصعيد اللافت ضد مجلس النواب حينما منع جهاز التسجيل العقاري لجنة التحقيق النيابية في أملاك الدولة من زيارة القسم الخاص بأملاك الدولة في الجهاز، الأمر الذي عده رئيس اللجنة ضرباً لهيبة المجلس وخرقاً للدستور واللائحة الداخلية.. علاقة التجاذب هذه ينبغي أن تكون موضع تأمل ومراجعة وتصويب اذا كانت هناك ثمة جدية في أن يكون هناك ولو قليل من الحكمة التي يجب تسود في علاقات مؤسسات دستورية بعيداً عن منطق المنتصر والمهزوم، أو الوعيد أو التهديد، أو المناورات والتجاذبات والمساومات التي لا تورث غير التأزم وتخلق فصولاً جديدة من الخلافات والاختلافات والتصعيد الذي نخشى أن يكون خيار الطرفين رغم كل عناوين وشعارات التعاون وذلك أمر تترتب عليه نتائج لا داعي للاستفاضة فيها، ولكنها في المحصلة النهائية ستجعل حصاد العمل البرلماني شائكاً ومراً وباهظ التكلفة.
 
الأيام  28 نوفمبر 2008