المنشور

أكثر من دورة اقتصادية مئـوية

عندما قال ألن جرينسبان رئيس الاحتياطي‮ ‬الفيدرالي‮ ‬الأمريكي‮ ‬الســـــــابق بأن الأزمة المـــــــاليـــــة التي‮ ‬ضـــــربت الاقتصاد الأمـــــريـــــكي‮ ‬في‮ ‬سبتـــمـــبر الماضي‮ ‬وعصفت فيما بعد بالاقتصاد العالمي،‮ ‬هي‮ ‬أزمة لا تحدث سوى مرة كــــل مائة عام،‮ ‬فــــــإنه كـــــان‮ ‬يستند،‮ ‬على الأرجح،‮ ‬إلى الأزمة المشابهة تقريباً‮ ‬التي‮ ‬حدثت في‮ ‬عام‮ ‬‭.‬1907‮ ‬فمنذ العام‮ ‬1823‮ ‬وبنوك الاستثمار‮ ‬‭(‬Investment Banks‭)‬‮ ‬محل ريبة وقلق وازدراء قسم من الرأي‮ ‬العام بسبب حجم المخاطرة التي‮ ‬تركبها دونما اهتمام بالنتائج‮. ‬
وقبل مائة عام بالتمام والكمال تسبب الأب الروحي‮ ‬لهذا النوع من المصارف وهو جيه بيربونت مورجان في‮ ‬إحداث هلع في‮ ‬عام‮ ‬1907‮ ‬نتيجة لأزمة مالية تسببت في‮ ‬حدوثها‮ ‘‬التروستات‮’ (‬التروست عبارة عن اتحاد احتكاري‮ ‬بين عدد من شركات القطاع الواحد والتي‮ ‬تُناظر صناديق التحوط في‮ ‬أيامنا هذه‮).‬
‮ ‬ولم‮ ‬يعلم الأمريكيون الذين انبهروا في‮ ‬البداية بفهلوة مورجان وسياسته الائتمانية بالمآل الذي‮ ‬سينتهون إليه إلا بعد أن تبينت لهم خطورة أن تتجمع كل تلك القوة المالية في‮ ‬يد شخص واحد،‮ ‬فكان أن أضحى محل تندر وسخرية كتاب الأعمدة ورسامي‮ ‬الكاريكاتير قبل أن‮ ‬يتوفاه الله في‮ ‬عام‮ ‬1913‮ ‬ويتم بعد ذلك إنشاء مجلس الاحتياطي‮ ‬الفدرالي‮ ‬الأمريكي‮.‬
وقد خضعت البنوك الاستثمارية لمزيد من الكبح والتقييد إبان وبعد أزمة الكساد العظيم في‮ ‬ثلاثينيات القرن الماضي،‮ ‬حيث تم شطر مؤسسات وول ستريت الاستثمارية كتلك التي‮ ‬على شاكلة البنوك التي‮ ‬أسسها مورجان إلى بنوك تجارية وبيوتات مالية تقوم بتعهد وضمان الأسهم والسندات وتقديم الاستشارات في‮ ‬مجال الدمج والاستحواذ للشركات أكثر من قيامها بقبول الودائع وتقديم القروض،‮ ‬وهو ما تقوم به واقعاً‮ ‬البنوك الاستثمارية اليوم‮. ‬أي‮ ‬أن ما اعتُقد انه تم ترويضه‮ (‬البيوتات المالية‮) ‬في‮ ‬أعقاب أزمة الثلاثينيات قد‮ ‬غدا أكثر نهماً‮ ‬وشراهة في‮ ‬ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي،‮ ‬وان ما اعتُقد انه تم تحوير وتحجيم نشاطه من خلال تحويله إلى مصارف تجارية مثل‮ ‘‬سيتي‮ ‬جروب‮’‬،‮ ‬و‮’‬جيه بي‮ ‬مورجان تشيس‮’ ‬قد فتل عضلاته الاستثمارية البنكية‮.‬
‮ ‬ولم تتخلف حيتان القطاع البنكي‮ ‬الأوروبي‮ ‬عن هذا الركب الأمريكي،‮ ‬فدخلت بنوك مثل دويتشه بنك وUBS‮ ‬وكريدي‮ ‬سويس،‮ ‬سباق القمة المصرفية العالمية‮. ‬
وكانت الأرباح تترى وتتضخم،‮ ‬وكانت هذه البنوك‮ (‬الاستثمارية‮) ‬تحاول إخفاء هذه‮ ‘‬الكنور‮’ ‬لإبعاد العيون والأنظار التي‮ ‬كانت ترقب عن بعد هذه الظاهرة‮.‬
ولقد لعبت البنوك الاستثمارية منذ ثمانينيات القرن الماضي‮ ‬وإلى ما قبل اندلاع الأزمة‮ (‬وخاصة في‮ ‬السنوات الخمس الأخيرة‮)‬،‮ ‬دوراً‮ ‬رئيسياً‮ ‬في‮ ‬خلق الفقاعة المالية والنفخ فيها إلى الحد الأقصى،‮ ‬حيث ارتفعت قيمة الأسهم وصكوك المديونية العامة والخاصة في‮ ‬الولايات المتحدة من‮ ‬4‭,‬2‮ ‬مرات حجم إجمالي‮ ‬الناتج المحلي‮ ‬الأمريكي‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1995‮ ‬إلى‮ ‬3‭,‬3‮ ‬مرات في‮ ‬عام‮ ‬2004‮ (‬وفقاً‮ ‬لمؤسسة مكنزي‮ ‬الاستشارية‮). ‬وفي‮ ‬أوروبا كان الارتفاع أكثر دارماتيكية‮.‬
‮ ‬علماً‮ ‬بأن هذه الأرقام لا تشمل قيمة المشتقات التي‮ ‬بلغ‮ ‬الاتجار الخاص فيها في‮ ‬شهر‮ ‬يونيه الماضي‮ ‬370‮ ‬تريليون دولار بعد أن كان‮ ‬258‮ ‬تريليون دولار قبل أقل من سنتين بحسب بنك التسويات الدولية في‮ ‬جنيف‮.‬
ورغم انهيار البورصة في‮ ‬عام‮ ‬1987‮ ‬وتضخم حجم أسواق الإقراض بعد الأزمة المالية الروسية في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1998‮ ‬إلا أن البنوك المركزية وسلطات الضبط الرقابي‮ ‬لم تتحرك لمنع حدوث ما هو أسوأ،‮ ‬بل تركت‮ ‘‬كواسره وطرائده‮’ ‬تتفنن في‮ ‬توليد أدوات ومشتقات جديدة راحت تعقد خيوط الأزمة وتجعل من إمكانية تفادي‮ ‬وقوعها ضرباً‮ ‬من المستحيل حتى بعد انفجار أزمة الرهن العقاري‮ ‬وتكشف حجم ذيولها‮.‬
فقد كانت هذه المصـــارف‮ (‬الاســـــتثــــمارية‮) ‬تنـــــتقل من‮ ‘‬بدعة‮’ ‬استثمارية‮ (‬كـــانت تسمى ابتكاراً‮ ‬وكان‮ ‬يُغدق عليها المديح‮) ‬إلى أخرى وصولاً‮ ‬إلى ما وصفها الإعلام الغربي‮ ‬المتخصص بالأدوات المغامرة‮ ‬‭(‬Gambling Devices‭)‬،‮ ‬وهو ذات الإعلام الذي‮ ‬كان‮ ‬ينعت هذه الأدوات بالإبداعات الفكرية الاستثمارية‮.‬
‮ ‬وكانت أرباح هذه المصارف تسجل أرقاماً‮ ‬تصاعدية‮ ‬غير طبيعية‮. ‬
فلقد ارتفعت عائدات أكبر‮ ‬10‮ ‬بنوك استثمار عالمية خلال سنتين بواقع الثلثين من‮ ‬55‮ ‬مليار دولار في‮ ‬عام‮ ‬2004‮ ‬إلى‮ ‬90‮ ‬مليار في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬2006‮ ‬وتجاوزت هذا الحد في‮ ‬الثمانية عشر شهراً‮ ‬الماضية،‮ ‬مع انه لم تقم هذه البنوك بإنتاج شيء ملموس‮ ‬يستحق هذه العوائد الفلكية،‮ ‬سوى مزايداتها المغرورة بأنها إنما تحصد عوائد رأسمالها الفكري‮ ‬‭(‬Intellectual Capital‭)‬،‮ ‬وذلك حين تعجز إداراتها عن تبرير أرقام أرباحها الفلكية‮.‬
وكانت أولى ألعابها الاحتيالية تحويل الديون‮ (‬ومعظمها ديون رديئة أو‮ ‬غير موثوقة السداد‮) ‬إلى مشتقات‮ ‬‭(‬Derivatives‭)‬‮ ‬معظمها سائل‮ ‬‭(‬Liquid‭)‬،‮ ‬والثانية إنشاء فئة جديدة من زبائن الاقتـراض لإعـادة الاسـتثمار في‮ ‬صـناديق التحـوط وسواها‮ ‬‭(‬Leveraged clients‭)‬‮ ‬وذلك بإقناع صاحب الأصل‮ ‬‭(‬Asset owner‭)‬‮ ‬أو حائز حساب الادخار أو الشخص المشارف على التقاعد بأفضلية الاقتراض للاستثمار على الفوائد البنكية،‮ ‬أي‮ ‬أفضلية العائد على استثمار القرض على الفوائد البنكية أو عدم استثمار الأصل‮. ‬والثالثة البحث عن أسواق مال جديدة وزبائن جدد حول العالم لاصطيادهم‮. ‬وما هو أدهى أن هذه البنوك لم تعد تكتفي‮ ‬باستخدام أموال زبائنها وإنما أصولها هي‮ ‬نفسها،‮ ‬النقدية وغير المتحركة،‮ ‬من دون الاعتبار لمخاطر الانقطاعات المفاجئة في‮ ‬دورة القروض‮. ‬
والحال أن انفلات نشاط البنوك الاستثمارية قد تعدى الحدود،‮ ‬وأحال لندن إلى منافس قوي‮ ‬يقف الند للند مع نيويورك كمركز مالي‮ ‬عالمي‮ ‬يجمع خواص مراكز مالية أمريكية مثل نيويورك وشيكاغو وهيوستن وواشنطن دي‮ ‬سي‮ ‬مجتمعة وأحالها إلى مرفأ أوروبا المالي‮. ‬ليس هذا وحسب،‮ ‬بل انه إذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا استحوذتا معاً‮ ‬على ثلثي‮ ‬عوائد البنوك الاستثمارية تقريباً،‮ ‬فإن هذه البنوك قد استدرجت إلى سوق المقامرات المالية أعداداً‮ ‬متزايدة من أسواق وزبائن البلدان الصاعدة حتى أن‮ ‬140‮ ‬من كبار زبائن مجموعة سيتي‮ ‬جروب على سبيل المثال من أصل ألف زبون كانوا من الأسواق الصاعدة مقارنة بـ‮ ‬40‮ ‬زبوناً‮ ‬فقط قبل خمسة عشر عاماً‮. ‬وهو ما‮ ‬يعطي‮ ‬المشكلة بعداً‮ ‬معولماً‮.‬
بهذا المعنى فإن المسألة ليست مسألة دورة اقتصادية مئوية كما قال ألن جرينسبان،‮ ‬وإنما هي‮ ‬أعمق من ذلك بما تنطوي‮ ‬عليه من جشع،‮ ‬معولم هذه المرة،‮ ‬أسهم فيه الكثيرون بمن فيهم جرينسبان نفسه حين‮ ‬غذّى الفقاعة بأسعار فائدة مغرية ومسهلة للتمادي‮ ‬الاستثماري‮ ‬الصوري.
 
صحيفة الوطن
1 ديسمبر 2008