المنشور

الاستيراد الفكري لدى زكريا إبراهيم (2)

يقول المؤلفُ عن كتيب لبرجسون أثناء الحرب العالمية الأولى: (وفي هذا الكتيب الصغير يتساءل برجسون عن مصير الإنسانية ومعنى التقدم، ويعربُ عن ثقته في انتصار القيم الروحية والقوى الأخلاقية والمثل العليا (مُثــُل العدالة والحق والحرية)، ضد قوى الشر والانحلال، ودعاة الآلية والمادية وأنصار البغي والعدوان)! (السابق ص 28 – 29). تتوجه فلسفةُ برجسون كما يعرض الباحثُ إلى تغيير في طابعِ الفلسفة (المثالية) وهو لا يقول لنا عن هذا التغيير ولكن نحن نستشفه، يقول برجسون: (.. إذا أردنا للميتافيزيقا أن تكون مظهراً جدياً من مظاهر نشاطنا العقلي، فلابد لنا أن ندير ظهورنا لذلك (العقل التصوري)… والواقع أنه لا سبيل إلى تحصل معرفة ميتافيزيقية حقيقية إلا بالعدول عن التصورات والالتجاء إلى «الحدس«)، السابق ص .34 فبرجسون لم يرفض فقط الفلسفات الآلية والمادية بل أيضاً الفلسفات المثالية السائدة، فهو لا يريد إنشاءَ أبنيةٍ فكرية مثالية ذات تصورات موضوعية على طريقة هيجل أو حتى كانط، بل يريدُ جعلَ (الحدس) أداةً منهجية شاملة، وهنا يغدو الحدسُ ليس لحظةً في بناء عقلي متراكم عبر التحليل في مادة الطبيعة أو المجتمع، بل أن يغدو هو البناء نفسه، مما يؤدي إلى الإطاحةِ بمجملِ عناصر المنهج الأخرى. أي لابد هنا من إيجاد مقولات تقومُ ببناء تصور عن الأشياء الكبرى كما فعلت الفلسفاتُ المثالية الموضوعية، التي لا تستعين بالحدس وحده بل بالمقولات وبالبراهين والتحليلات التي يأتي الحدسُ فيها كأداة جزئية، في حين انه عندما يتحول هذا الموتيف الجزئي إلى كلِ اللوحة، فلن يغدو هناك بناءٌ منطقي معقلن بغضِ النظر عن كيفية نمو هذا البناء، في جهة الطبيعة أم في جهة الخالق، أم جهة الإنسان، أم كل هذه الجهات. حين تتضخمُ أداةٌ منهجيةٌ معينة لتبتلعَ كلَ الأدوات المنهجية فلابد أن ثمة مشكلةً اجتماعية فكرية كبرى. ويشرح الباحثُ هذا الحدسَ قائلاً: (إذ المعرفة الحدسية هي في جوهرها معرفة مباشرة فيها تمزق حُجب الألفاظ وشباك الرموز، لكي نغوص في طيات الواقع ونمضي مباشرة إلى باطن الحقيقة)، ( ص 35). تبدأ سلسلةُ التناقضات المطلقة الأولى بالظهور هنا، فالحدسُ يغدو معرفة بلا وسائط، فبرجسون يشكلُ تناقضاً بين الحدس وبقية الأدوات المعرفية، وفي هذا خطورة كبيرة على الوعي للوصول إلى الحقيقة، فالحدس شكلٌ مغامر من المعرفة، ظرفي، وتلقائي، وذاتي، ووامض، لكنه يغدو هنا هو كل أدوات المعرفة. هناك تناقضٌ آخر بين تجليات الحقيقة وجوهرها، فالجوهر يغدو صافياً منغلقاً على ذاته، في حين ان أشكالَ وظاهرات الحقيقة تغدو زائفة. والتناقضُ بين الشكل والمضمون هنا تناقضٌ كلي، وهو التناقض بين البراني والجواني، بين الخارج والداخل، بين الظاهرة والماهية. فيبدو أن الأشياءَ تمتلكُ بعدين متضادين غير قابلين للجمع الجدلي، مما يحليها إلى ظاهر وباطن، وواقع زائف وواقع حقيقي. وهذه التعبيرات لاحظناها بوفرة لدى المثاليين العرب المغالين والصوفيين خاصةً، أي أولئك الذين طرحوا وجود باطن للقرآن أو باطن للحقيقة هو غير ظاهرها. وبالتالي فإن الوعي (الحقيقي) يتجاوزُ الظاهرَ، ولابد أن أداتهِ المعرفيةَ (متفوقة)، أي نخبوية لم توهب إلا لمن يمتلك حدساً ورؤيا. إن برجسون هو باطني بمعنى معاصر! أي أن الحدسَ هنا لا يحددُ طبيعةَ الحقيقةِ المصطفاة، بل يحددُ أيضاً المتوجهين إليها ذوي الأداة الخاصة المصطفاة هي الأخرى. فالحقيقةُ ليست في ظاهرها الشعبي الذي يمكن للعقل العادي الوصول إليه عبر التحليل والبراهين بل تتطلب عقلاً غير عادي، وحدسي، وإلهامي، وصوفي. إن الأشكال الخارجية للحقيقة وهمية لكن هناك الباطن جوهر الظاهر الذي يمكن الوصول إليه كما يقول صوفيونا القدامى عبر نزع الملابس البرانية للعقل وللأشياء معاً. يوضح الباحث هذه المعرفة بالصورة التالية: (ومعنى هذا أن معرفة أي شيء من «الباطن« هي بالضرورة معرفة بسيطة تنصبُ على هذا الشيء باعتباره «مطلقاً«، بينما معرفة الشيء «من الخارج« هي معرفة نسبية قوامها التحليل والتجزئة، فهي بالضرورة معرفة تقريبية لا يمكن أن تستغني عن الرموز)، (ص40). نجد ان قوالب: الباطن – المعرفة البسيطة – المطلق – الداخل، تتضافر في شكل معرفي واحد هو الشكل الصوفي الذي يدخلُ في معرفةِ المطلق، سواء أكان حقيقةً كلية أم إلهاً، بدفعةٍ واحدة وبقفزة شعورية غير تحليلية، وهذا القالبُ يتناقضُ مع القالب الآخر، قالب المعرفة من الخارج: التحليلي، والتجزيئي، والتقريبي، وذي الأدوات المنهجية العلمية.

صحيفة اخبار الخليج
15 ديسمبر 2008