المنشور

واقعة “الحذاء”.. ومنظمات حقوق الإنسان؟!

الحوادث والحكايات السياسية التي ارتبطت بالحذاء أو الأحذية هي بلا شك عديدة سواء في تاريخنا العربي بشقيه القديم والحديث أم في التاريخ العالمي ماضيا وحاضرا. لكن على الأرجح ستكون واقعة قذف الصحفي العراقي منتظر الزيدي فردتي حذائه في وجه الرئيس الأمريكي جورج بوش أمام المنصة التي جمعته مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في المؤتمر الصحفي المشترك ستدخل التاريخ السياسي العالمي باعتبارها الواقعة الثالثة الأشهر ارتباطا بالسياسة خلال خمسة عقود خلت.
كانت الواقعة الأولى قد جرت خلال خريف عام 1960 في الجمعية العامة للأمم المتحدة وكان بطلها الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف الذي كان حاضرا في جلستها المنعقدة حينذاك.. ففي ظل نقاش محتدم خيمت عليه أجواء الحرب الباردة وبينما كان الاتحاد السوفييتي يسعى الى جمع أكبر حشد في الأمم المتحدة الى جانب مقترحه بإصدار وثيقة للقضاء على الاستعمار، في حين وقف مندوب الفلبين الحليفة لأمريكا منددا بالاتحاد السوفييتي لاستعماره، على حد تعبيره، دول أوروبا الشرقية أيضا، وبينما يطلب خروتشوف الكلمة أكثر من مرة من رئيس الجلسة الايرلندي فريدريك بولند، فيما ظل هذا الأخير يتجاهله، فما كان من خروتشوف إلا أن فاجأ الحضور بخلع إحدى فردتي حذائه، وأخذ يطرق بها بشدة مرات عديدة على الطاولة التي كانت أمامه احتجاجا على تجاهل طلبه بالمداخلة.
أما الواقعة الثانية من الحكايات السياسية التي ارتبطت بالأحذية فهي حكاية قرينة الرئيس الفلبيني الدكتاتوري الراحل فرديناند ماركوس “ايميلدا ماركوس” التي كانت معروفة في العالم بأسره بولعها الجنوني بجمع أرقى وآخر موديلات الأحذية النسائية.
وبعد سقوط نظام زوجها الاستبدادي ذُهل المحققون ومراسلو صحف العالم عن المتحف الخاص بما جمعته من أحذية قدرها البعض بأكثر من 1200 حذاء، فيما قدرها آخرون بثلاثة آلاف فردة من الحذاء. وكانت هذه الحكاية شاهدا من شواهد فساد نظام ماركوس ونهبه وزوجته لأموال شعبهما البائس الفقير طوال سنوات طويلة.وأخيرا فلعل الواقعة التي فاجأ بها الصحفي العراقي منتظر الزيدي جورج بوش أثناء زيارته الغبية الوداعية الأخيرة للعراق، وذلك خلال المؤتمر الصحفي بقذفه بفردتي حذائه هي الواقعة التي ستدخل التاريخ من أوسع أبوابه مضاهية في قوة إثارتها ودلالاتها السياسية الواقعتين الحذائيتين المتقدم ذكرهما، حذاء خروتشوف في الأمم المتحدة، ومتحف أحذية ايميلدا ماركوس الخاص بمختلف “الموديلات” من أحذيتها النسائية، والتي جمعت الآلاف منها طوال الفترة الطويلة من حكم زوجها.
أما عراقيا فلا تذكر وقائع وأحداث التاريخ القريب من أحذية مرتبطة بالسياسة سوى خطاب للرئيس الدكتاتوري الراحل صدام حسين أثناء الحرب العراقية ــ الإيرانية، ربما لا يتذكره الآن الكثيرون حينما حكى في هذا الخطاب عن واقعة مندوب أو مسئول أمريكي كبير زاره في قصره وكان هذا المسئول على حد زعم صدام، أخذ يتعمد وضع رجله اليمنى على رجله اليسرى في جلسته مبديا باطن حذائه أمام مرأى ووجه الرئيس صدام، فما كان من هذا الأخير، حسب قوله، إلا أن واجهه بالمعاملة بالمثل أي بذات السلوك.
وسواء صحت الواقعة التي تحدث عنها صدام، من حيث تعمد تصرف المندوب الأمريكي بذلك السلوك، أم جاء عفويا، وهو الأرجح، إلا أنه يدل على جهل الساسة الأمريكيين المطبق في الطبقة السياسية الحاكمة بقواعد وأصول آداب السلوك التي ينبغي ان يتبعها الضيف عند أهل الشرق، ولاسيما في مثل هذه الجلسات الرسمية.
وعودة لواقعة قذف الصحفي الزيدي بفردتي حذائه الرئيس بوش فبالرغم من أنها “قبلة وداع” جديرة به ويستحقها فعلا وأثلجت صدور ليس عشرات الملايين من العرب بل مئات الملايين في العالم بأسره من المعارضين والمتضررين من سياسات إدارته على مدى ثماني سنوات، فإن لمجرد أن بطلها عربي هذه المرة وجدنا عدداً لا بأس به من منظري وفلاسفة العقلانية العرب المتحضرين من يندد بالواقعة من دون أن يرف له جفن لما تعرض له الزيدي من تعذيب أمام الملأ. فأين هؤلاء حينما قفزت في خريف عام 2007م إحدى المحتجات الأمريكيات من نشطاء الأمريكيين ضد الحرب على العراق واحتلاله نحو الوزيرة السيئة الصيت كوندوليزا رايس محاولة صبغ وجهها بكلتا يديها المخضبتين بهذا الصبغ الأحمر، كدلالة ورمز على أيدي رايس ورئيسها وكل رموز الادارة الأمريكية المخضبة الملطخة بدماء مئات الألوف من العراقيين والأفغان الأبرياء التي يحتل الجيش الأمريكي بلديهم؟
لماذا لم يوجه هؤلاء تنديداً لسلوكها باعتباره خارجا عن قواعد السلوك واللباقة المألوفة؟ وهل تعرضت هذه السيدة حينئذ للتعذيب والاستخدام المفرط للقوة أمام مرأى العالم كما تعرض له الصحفي العراقي الزيدي على أيدي ضباط وجنود الاحتلال وأتباعهم العراقيين؟
وأين كان هؤلاء المنظرون العقلانيون المتحضرون العرب من حادثة الألماني العاطل عن العمل الذي صفع المستشار الألماني السابق على وجهه أمام الملأ لأنه خذل العمال بوعوده الانتخابية الكاذبة؟ هل عُذب أمام الملأ وهل سجن بعد ذلك ولو لبضعة أيام؟
وأين هم من أشهر سلاحين لطالما استخدمهما المتظاهرون وقوى المعارضة في احتجاجاتهم في بلدان الأنظمة الديمقراطية الغربية، ألا هما البيض الفاسد والطماطم الفاسدة، سواء أثناء خطب الرؤساء الفاسدين أو الفاشلين الجماهيرية، أو لدى مرور مواكبهم بالشارع؟ وأين هؤلاء “العقلانيون المتحضرون” العرب من حادثة قريبة مشابهة تماماً لحادثة قذف بوش بالحذاء في العراق الأخيرة، وقد جرت هذه المرة في موسكو وبطلها صحفي روسي كان يحضر اجتماعاً ألقى خلاله الرئيس ميدفيديف كلمة بمناسبة يوم الدستور فتفاجأ الحضور بصراخ الصحفي بأعلى صوته بشكل متواصل مطالباً بعدم الإصغاء للرئيس ميدفيديف لأنه كذّاب ولا علاقة له بالدستور والديمقراطية اللذين يتشدق بهما في كلمته ولأن الرئيس انتهك الحقوق وسلب الحريات العامة بسطوة وقمع أجهزة الأمن السرية، وزوّر الانتخابات. فكل ما فعله رجال الأمن عندئذ أن كمموا فمه وأخرجوه من القاعة وربما سجن لبضعة أيام، فهل شهد العالم في شاشات التلفزة تعذيبه وانقضاض رجال البوليس عليه كالوحوش؟
أخيراً، والأهم من كل ذلك وذاك، وحيث مازلنا نسمع تعاطف وتضامن منظمات صحفية وإعلامية وسياسية عربية وعالمية مع منتظر الزيدي متواصلة ومنقطعة النظير، أين منظمات حقوق الإنسان البحرينية والعربية والعالمية من هذا الانقضاض الوحشي على الزيدي فور انتهائه من قذف الفردة الثانية وهو يتأوه ألماً وينزف دماً تحت تأثير الضرب المبرح من قبل لا يقل عن عشرة من رجال أمن الحكومة وضباط الحماية من قوات الاحتلال الأمريكي، فيما الرئيس الأبله الفاشل المنتهية ولايته في البيت الأبيض يبتسم ويضحك ليداري حرجه ويعتبر فعلة الزيدي ما هي إلا دليل على ثمرة شجرة “الديمقراطية” التي غرسها في العراق.. أي تعذيب الإنسان أمام مرأى العالم بأجمعه؟ أليست هذه الواقعة الصغيرة شاهدا حيا ونموذجا مصغرا لجرائم الاحتلال الدموية الجماعية الأبشع وحشية في العراق؟!

صحيفة اخبار الخليج
21 ديسمبر 2008