المنشور

محاربة الطائفيين بالطائفية

تلاحمت الطائفية مع تناقضات الدول الشرقية عبر التاريخ، فلم يجد الجمهور المتعدد المستويات الاجتماعية سوى المذاهب يحتمي بها ويدافع من خلالها عن مصالحه، التي ذابت لديه عبر الرموز الدينية البشرية أولاً، ثم التحمت بالرموز الدينية الغيبية والمجردة.
ونجد أن كلمة طائفة في القرآن تظهرُ بشكلٍ دائم بمعنى (جماعة) من الناس لا تتميز بمذهبٍ أو بتفسيرٍ خاصٍ في الدين، مما يؤكد ان ظاهرات المذاهب الفقهية ثم السياسية الاجتماعية، ظهرت لاحقاً.
وحتى جماعة الفقهاء تظهرُ في القرآن كجماعةٍ أكثر علماً بمعانيه وبأسباب نزوله.
وبهذا فإن التقسيمات الاجتماعية المذهبية جاءت لاحقاً بعد عصر التوحد والتوحيد، حين لم يعرف المسلمون كيف يحلون صراعاتهم الاجتماعية والسياسية بوسائل الحوار وتوزيع الخيرات المادية بشكل ديمقراطي.
ثم عملت الدولُ الاستبدادية على تجذير هذه الانقسامات في الأرض من خلال أدواتها المختلفة سواءً كانت سباً في المنابر أم كانت اعتقالات واضطهاداً.
مثلما أن الجماعات الأخرى المعارضة وخاصة المتطرفة منها لجأت إلى مثل هذه الوسائل العنيفة ولتشكل ليس بدائل عن أنظمة الطوائف بل أنظمة طائفية أخرى.
وهكذا جرى تاريخُ العربِ والمسلمين حتى اليوم من دون أن يلوحَ بديلٌ واقعي لحل هذه الإشكاليات المتجذرة خلال مئات السنين. وهي كذلك تعود لما قبلها من تاريخ شرقي طويل يمتدُ من حضاراتِ المصريين وأهل الرافدين وغيرهم حتى من ورثها من اللاحقين، نظراً للعب الملكية العامة دورا مركزيا وسيطرة الطبقات الحاكمة عليها واستغلالها في مصلحتها.
فجرت محاربة الأديان بأديان أخرى، وفي الدول الإسلامية حُوربت الطائفية بوسائل طائفية، فغدت الأفكار والأديان والمذاهب وسائل بديلة للصراع الاجتماعي الخفي، مما يؤدي إلى تفكك الدول وتمزق المجتمعات من دون حل للمشكلات الجذرية من فقر واستغلال وسوء تخطيط. فتتم تنمية الحروب والكوارث إضافة إلى المشكلات الأزلية المتوارثة جيلاً بعد جيل.
ومع توسع أدوات الحوار وضخامة الإنتاج السياسي البشري لرؤية المشكلات وجذورها، وظهور الصحافة الحكومية والحزبية المعارضة، وتشكل القوى السياسية الحديثة التي تسمي نفسها حديثة، وقيام البرلمانات بهذا الحد أو ذاك من الصلاحيات، وبهذا الحجم من التعبير عن صراع الطبقات المقونن أو ذاك، إلا أن الجذور الطائفية والصراعات الطائفية لم تزل قوية.
فالدول (الإسلامية) لم تزل مذهبية وطائفية، وسواء كانت بمذهب واحد سائد منتشر بين الأغلبية أو كانت بمذاهب مختلفة متباينة الحضور بين السكان، فإنها لا تحول خلافاتها الاجتماعية إلى خلافات سياسية قابلة للحوار والحلول.
وهذا يعود في كثير منه إلى تجذر هذه الصراعات الطائفية عبر التاريخ، ولعدم فهم هذا التاريخ، ونشوء قوى سياسية تعكس التفرق الطائفي والعنصري والاثني والإقليمي، مثلما يحدث في الصراعات السياسية في شمال افريقيا الإسلامية، حيث يلعب الصراع بين العرب والأمازيغ(البربر) دوره المحوري في زعزعة الاستقرار ونشوء قوى العنف، فالعرب الذين سيطروا على هذه البلاد تركزوا في المدن غالباً وفي الأجهزة الحكومية، وبالتالي صاروا الأكثر هيمنة وغنى، فيما البربر يعيشون في الأرياف والجبال، وكم ثارت ثورات ضد هذا الوضع لكن بأشكال مذهبية، وقد عرفت الجزائر خاصة ميراثا دمويا طويلا في ذلك، وعبر الخوارج الدمويين، فتناقلت هذه التجارب عبر التاريخ، وقامت بثورة المليون ونصف المليون شهيد التي يراها المؤرخون ثورة تمت المبالغة في الدماء النازفة فيها أو في أرقامها.
ولم تأت الحكومات المتعاقبة بتصحيح لهذا الوضع، وبإعطاء السكان الأمازيغ حقوقهم، وباحترام وتدريس تاريخهم ولغتهم، وجاءت الفرنسة والتعريب القسريان كأنهما يمثلان محواً لهذه الأقسام السكانية الوطنية وجذورها.
فانقسم المسلمون هنا انقساما اجتماعيا طويلا نظرا لمركزية الحكومات وطبقاتها الملتفة على مصالحها في المركز، وحولت الحكوماتُ هذه الصراعات الاجتماعية إلى صراعات طائفية واثنية.
وفي ومضة من الزمن التحرري الوطني وومضة من الليبرالية تجمع السكان كلهم في عمل وطني، وما لبثت الانقسامات أن عادت بمسميات جديدة وأحزاب جديدة والمضمون القديم هو نفسه.
تواجه الحكومات الانقسامات بمزيد من التقسيم، عبر تقريب الفئات المؤيدة لها ومحاباتها، وتجابه العنف بالعنف، ولم تستطع أدوات التحديث من صحافة أو برلمانات أو أحزاب أن تخترق البيضة المركزية المفرخة للفساد، إما لحداثة وهزال التجربة السياسية لأحزاب المعارضة في مسائل الاقتصاد، وإما لقدرة الحكومات المركزية المتشددة على طرح بدائل سياسية جديدة باستمرار تجعل المعارضة منحصرة وهزيلة ومتصارعة.
وتتسلط الكشافات النارية على بعض أحزاب المعارضة كالاخوان المسلمين في مصر، حارقة تجمعاتهم السياسية بشكل يومي، من دون أن تفتح بوابات للحوار معهم، وتجذب هذه الجماعات وتحسن معاملتها، بل تجعل هذا العنف وسيلة لتقويتها وترسيخها وتنامي كراهيتها وعنفها. وهنا ليس الصراع مذهبيا فالجانبان ينتميان لمذهب واحد، ولكن تقوم المعارضة المذهبية بالمغالاة في هذه المذهبية لكي تظهر انها هي الحريصة على الدين.
إن كل ما تلجأ إليه الدول هنا هو محاباة وتقريب الجماعات الموالية التي تلتهم الكثير من الثروة وتجعل لها الامتيازات التي تحنق المعارضين وتزيدهم غضباً .
هذا هو مستوى “الإصلاحات” العربية الراهنة في الأنظمة المذهبية السياسية السائدة، مما يجعل الكثير من السكان يواصل عيشه السيئ، ويحنق متعاطفاً مع أي جماعة مذهبية متشددة.
ولا يطرح الباحثون أو السياسيون العرب والمسلمون أو الدول الغربية حلولاً جذرية للخروج من صراعات العصور الوسطى الطائفية والدينية، كذلك تفعل الدول الغربية هذا، بسبب التوظيفات الذاتية المغرضة، والاستثمار السياسي لكل هذه القوى.
فالدول الغربية تعرف الوصفة الحديثة وجربتها خلال قرون واستفادت منها وكونت تقدمها بها، وهي ليست مستعدة لدخول منافسين لها، بل هي تريد الاستفادة من الدول التي تعيش في هذه الصراعات المتخلفة، ولهذه تأتي أحكامها وسياساتها حسب هذه المصالح في كل لحظة من لحظات التاريخ المتحول، فتتصاعد نبرتها العلمانية في موقف وتخفت في موقف آخر، وتصبح مهتمة بالجماعات الدينية في لحظة ومنتقدة إياها في لحظات أخرى، وهي كلها أمور تؤكد ان الديمقراطية العالمية في حالة مخاض عسير.
 
صحيفة اخبار الخليج
25 ديسمبر 2008