المنشور

هل نحن نعيش في كوكب غريب؟!

انصبت كل الأقلام والموضوعات السياسية هذه الأيام حول محنة غزة، منها كتابات هادئة وهي القليلة، ولكن الأغلب مال إلى الشعرية والسردية الانفعالية ، بل ومالت كثيرا نحو فن الشتيمة واللعنة والتنديد، في عالم المصالح والدول التي لا يجذبها كثيرا المشهد الإنساني المؤلم وهي تشهدها من بعيد، وتحديداً المتحاورين في أروقة الأمم المتحدة، فالمنحازون لإسرائيل لم تؤنبهم ضمائرهم إزاء مناظر النساء والأطفال وهم أشلاء مقطعة في مدرسة كانت تحت مظلة وحماية الانروا، فمثل هؤلاء لا تشدهم الجثث الممزقة ولا عويل البشر، وهم يحملون فلذات كبدهم، وإنما ينطقون بجمل تبدو أكثر من عديمة الإحساس ، حين نجد إن الهم الأكبر لديهم هو مصير الجندي الإسرائيلي» جلعاد شاليط « وكأن دمه وشكله مصنوع من طينة أخرى تختلف عن طينة البشر، إذ تناست السيدة كونداليزا رايس – والتي ستغادر مقعدها مع جوقة الرئيس بعد أيام – غير أنها لم تخف – غطرستها وانحيازها للموقف الإسرائيلي بالكامل ، بل ولا يهم الولايات المتحدة في مجلس الأمن أن تمتنع عن التصويت، حتى وان وقف العالم في ضفة أخرى عنها، فهي أيضا بلد مصنوع من طينة أخرى تختلف عن طينة البشر .
لكم كان غريبا أن تتناسى وزيرة خارجية الدولة العظمى أكثر من 11 ألف أسير في السجون الإسرائيلية، بل والمخجل والغريب إن جزءاً من هؤلاء السجناء هم نساء وأطفال وعائلات بأكملها حشرت في زنازين ضيقة بالمعتقلين الذين فاضوا عددا عن سجن غوانتانامو السيئ السمعة، وسجناء كانوا أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني فلم تحترم إسرائيل شرعيتهم وحصانتهم النيابية . كل ذلك لا يهم بقدر ما يهم السيدة الراحلة أن تعزف حتى اللحظة الأخيرة أغنيتها القميئة عن حماية إسرائيل من الصواريخ أكثر من حماية أولئك الذين يقتلون أمام مرأى العالم بدم بارد فلم تكن أعذارها وحججها في مجلس الأمن إلا حجج واهية. كان واضحا ترتيب تل أبيب توقيت الهجوم بأسرع ما يمكن قبل فوات الأوان فقدوم اوباما قد يضع عصا غير مريحة في وجه ساسة تل أبيب، فقد كانت إدارة بوش تبصم على كل ورقة تقدمها إسرائيل للبيت الأبيض، إذ أغمض الرئيس الأمريكي عن كل ما واعد الفلسطينيين به عن وعوده بان الدولة الفلسطينية سيتم الإعلان عنها مع نهاية عام 2008، مؤكدا إن رحيله سيكون مع خاتمة ذلك المطاف، ذلك المطاف الذي انتهى بين قذائف الموت على غزة ووسام كارزاي في كابل وحذاء الزيدي في بغداد، الذي مهما اختلفنا أو اتفقنا حول حجمه ونوعيته في المحلات التجارية، فانه بالمعنى الدلالي والتاريخي ،سيظل في الذاكرة الإنسانية وفي الأرشيف الكوميدي والحكايات النادرة سياسيا. ومع ذلك فليس تفاهة وحكايات البيت الأبيض وفضائحه أهم من حكاية الحذاء، ففي الوقت الذي تقذف إسرائيل حممها وقنابلها من الفضاء في سماء غزة ، وتدمر كل شيء دون أي حس إنساني أو احتراما للمواثيق الدولية، تناقش الصحافة الأمريكية كيف اخفت سيدة البيت الأبيض المرتحلة ، عن «سرقتها» الأطباق والأواني التي أمرت بإحضارها لكي تناسب موائدها الملكية ومظاهرها الارستقراطية، ولكون الأطباق المذهبة والكؤوس الكريستالية كانت كلفتها الرسمية ناهزت 485 ألف دولار، فان غواية المطبخ وصالة الاستقبال والطعام بدت مغرية لنقلها من البيت الأبيض لبيتها وهي تغادر المكان الذهبي بسجل مخجل، فمن المعروف إن كل محتويات البيت الأبيض مهما كانت كلفتها وحجمها، فان نقلها سهوا أو بقصد تعتبر جريرة أخلاقية، لا يجوز للسيدة الأولى وحرمها المصون إتباعه، خاصة وان العائلة ليست في الأساس من العائلات الفقيرة في تكساس.
من تابع تلك الحكاية المخجلة في الصحافة الأمريكية ، يرى مدى التهكم والامتعاض إزاء تصرف السيدة لورا بوش، التي نست أنها قضت ثمان سنوات في عشها الذهبي ، ولا يحق لها أن تحمل من هناك معها غير ممتلكاتها الشخصية والمدفوعة فواتيرها وفق اللوائح الرسمية المعتادة. لكم بدت بالمقارنة لوحة غزة الصامدة بكبرياء الفقراء المحاصرين والجياع وبكائهم أفضل بكثير، من سيدة البيت الأبيض التي لم تفكر في تلك اللحظة إلا بنقل ممتلكات عامة لا تخصها دون حياء، فيما لم يجد أهل غزة ما ينقلونه من ممتلكاتهم الشرعية الممزقة والمحروقة البائسة التي تعمد الجيش الإسرائيلي بتدميرها وحرقها ، وبذبح الأطفال الذين كانوا يشكلون للأمهات والآباء أهم وأغلى قيمة إنسانية من تلك الأواني والأطباق المذهبة القادمة من الصين. هل يحتاج العالم اليوم لدلائل اشد على جرائم الحرب والإبادة أم سيعود المجتمع الدولي للمناقشة والتبرير لاسرائيل بان ذلك لا ينطبق على سكان قطاع غزة لكونها ليست دولة ؟! إن كارثة غزة ومذابحها الدموية ينبغي أن تهز الوضع العالمي في أركانه، بحيث تقتضي حالة غزة الوقوف مجددا وبعمق حول شرعية مجلس الأمن الدولي – ودوره الحقيقي والعادل – الذي تشكل ذات يوم على أساس القوة والحرب وتوزيع كعكة المهزومين على الأقوياء ، وبات منحازا حتى يومنا هذا على أساس المصالح أكثر من انحيازه للعدل والحقيقة. ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة وناسها في هذه اللحظة من كراهية وعداء ومن شحن داخلي مشبع بالعدوانية، ليست موجهة لحماس وحدها وحسب – كما تتذرع للإعلام والرأي العالمي، وإنما هناك ممارسات واضحة لتصفية قضية وتنفيذ مخطط يستكمل كل السيناريوهات التاريخية التي مارسها أسلاف الدولة العبرية ، التي بنيت على الدم والجريمة وظلت تتواصل على نهجها ، فمن يتوقون للسلام في المنطقة لا يمارسون تلك الوحشية على شعب اعزل بحثا عن قوى تعتبرها خطرا على أمنها وسلامة حدودها، فمن يتوق للسلام بالفعل يدرك طريقه وبوابته المشرقة دون حاجة إلى قذائف واستعراض للقوة لكل الجيران والعالم ، بل ويتحدى المجتمع الدولي بغطرسة ودون حياء.

صحيفة الايام
25 يناير 2009