المنشور

الأديانُ أكبرُ من الأنظمة

تقوم الأنظمة دائماً بتمثيل عنيف ومستبد للأديان، تقول إنها الوحيدة الممثلة للديانة، وماعداها هرطقات أو انحرافات.
هي محاولاتٌ عنيفة عاطفية، وفكرية، ومتشنجة أو عقلانية مدعية، أوتعصبية قاتلة، أو إلحادية مضادة ساحقة، وغير هذا من المحاولات لتمثل الأديان أو نفيها.
لكن الأديان أكبر من الأنظمة.
والمسألة تعود لسر بسيط هو أن مؤسسي الأديان كانوا أصحاب تضحية، ودمجوا تضحياتهم في الرموز الدينية.
ومن الجهة المعاكسة كان مشيدو الأنظمة قوى استغلال وقهر للأغلبية من السكان.
فكان مشيدو الأنظمة يسحبون الأديان لتلائم أسرة أنظمتهم، فإذا زادت الأديانُ قطعوا أطرافها وإذا تقلصت سحبوها بأدوات الجر الثقيلة من مثقفين وجلادين.
والغريب هو أن الأديان تغلبت في حضورها على الأنظمة الفكرية الحديثة المنتجة في الغرب.
وقد قامت تلك الأديان الناشئة في الأزمان القديمة على أبطال فرديين كبار، رهنوا أنفسهم لتضحية جسيمة، وطرحوا نموذجاً للعلاقات الاجتماعية يتجاوز عصرهم، وفيه بذرة مهمة للتعاون الإنساني الكبير مثل قول الانجيل والقرآن معاً إن الأرضَ يورثها الله للفقراء والعبيد، وهو قول يتفق مع البيان الشيوعي يا عمال العالم اتحدوا!
الأنبياء والأئمة والمجاهدون والمضحون على مر العصور قاوموا في أزمنتهم قوى الاستغلال، فكان هذا هو الخالد الباقي في الأفكار والأديان، وهي أقوالٌ عامة تصلح لكل زمان ومكان، ومع هذا فهي مجردة، غير محددة بخطط تناسب كل العصور، رغم أن الرسالات الدينية في زمنها حددتْ الموقفَ السياسي الدقيق في عصورها.
ومهما تضاربت الأقوالُ في المسيح ومهما كثرت الروايات والمذاهب وتعددت الاجتهادات، فإن القصة تقومُ على رجلٍ مضح، قال بعضهم انه صُلب لأنه ابن الإله، وقال آخرون إنه إنسان وصُلب، وقال آخرون إنه لم يُصلبْ لأن الله نجاه، وقال آخرون وآخرون كثيراً من الروايات.
لكنهم اتفقوا جميعاً بأنه إنسانٌ مضح، لم يقل أحد إنه مزور أو كاذب، أو استغلالي، وأنشأ شركة ليلتهم أموال المودعين، أو أنشأ دولة جعل أموالها في جيبه.
أخذت الناس على مر العصور تضحيته الرمزية، لكن التابعين له والمؤسسين الدول باسمه، لم يصلوا إلى نموذج تضحيته، والصليبُ دليلُ المعاناة، فالشوك والجراح والوقوف المقيد على الخشب الصلد، ليس سوى أمثولة للمعاناة في اقصى حالاتها، ليس سوى رمز للتضحية، فدع عنك المماحكة في حقيقتها، فما هي سوى صورة للإنسان المعذب في كل العصور، والضحية والرمز القائد للذوبان والامتثال لقوى البطش.
فهذه الصورة للصليب الكنائسي المعاصر ثبت علمياً انها غير دقيقة، ولا تتطابق مع نماذج الصلبان التي يتم الإعدام عليها في ذلك العصر وبمقاييس الخشب ونسبه وبأجسام المصلوبين عليه!
ولكن ليس المهم الحيثيات الصغيرة الملموسة، ولا الخيالات الشعبية، المصاحبة لظاهرات خطيرة مثل هذه لا تتكرر سوى في قرون.
وهي قرونٌ فاصلة بين عهود وعهود، فيها نهضة وتحولات لم تكن من قبل.
بل المهم هو المضمون العميق المجسد في كائن بشري يرفض خيارات المتع والسعادة الشخصية والجهل والسير وراء قطعان الذل ليطرح شيئاً آخر فيه ثورة خطيرة في العلاقات الاجتماعية، وفيه إزالة للإمبراطورية الرومانية وأنظمتها المتعسفة التي تقهر عشرات الملايين من الناس.
وكلما زادت الأنظمة استغلالاً وبشاعة في تمثلها للرموز الدينية زادت تلك الرموز من توهجها وتحديها لمن يتمثلها!
الأنظمة والجماعات الدينية السائدة تطرح الرموز الدينية المضحية وهي غير قادرة على التضحية بل على جمع الأموال من الناس وتراكمها للمتع!
وهذا يُحدث شروخاً عميقة مثلما أن المعلم يعلم الفضيلة ثم يعتدي على تلامذته!
من يتصدى لتعليم نماذج التضحية يُرى للجمهور وهو يحول بيته أو قصره إلى مخزن هائل للسلع، وهو يضع الحراس لحمايتها والكلاب لتتشم أي متسلل إليها،، ويحول الميزانية لصالحه ولصالح جماعته، ثم يمضي لمراكز العبادة ليحرق البخور ويلعن اللصوص والملحدين بالعقيدة والمفسرين الخطرين لها، والناسخين لفحواها!
وقد وجدت الأنظمة الغربية أن إبعاد الكنيسة عن السياسة هو أمر جيد، لكن تم ذلك للسيطرة على أراضي الكنيسة التي كانت أكبر الأملاك الزراعية، ومن أجل أن تكون مجالاً لاستثمار الحكام الجدد وأصحاب رؤوس الأموال، لكن الدين يجب أن يظل في صيغه العبادية، المحددة من قبل الكنائس لكي تنتشر الفضيلة!
لم يستطع الحكام الغربيون وطبقاتهم المالكة أن يكونوا في مستوى رموز الديانة التضحوية، والغيبية، والأمثولة المطلوبة لتواريخ البشر الراهنة والمستقبلية، وهم يعمقون الاستثمار الرأسمالي الواسع النطاق في بلدانهم وفي الكرة الأرضية قاطبة.
الاستغلال الرأسمالي هو تطور وكوارث ومشكلات، وهو تقدمٌ مصحوب بالألم وبالنجاح وبقوى التصحيح المتابعة للأخطاء، وهو يماثل على نحو ما رمز المصلوب، المرتفع والنموذج، لكن الرأسمالية تعجز عن المطابقة مع رمز المصلوب المضحي بكل شيء، ولهذا فإيديولوجيات الرأسمالية الحديثة تزول وتستمر الديانة.
كذلك فإن الديانة ذات حضور شعبي، وفي عمقها رمز اشتراكي يقول بضرورة زوال الاستغلال والملكية الخاصة لوسائل إنتاج الحياة والبقاء، وان البشر يجب أن يتساووا ويعيشوا سعداء، ولكن ذلك يتطلب تطور قوى الاستغلال حيناً وقوى النضال ضد الاستغلال حيناً آخر وأبداً.

صحيفة اخبار الخليج
9 فبراير 2009