المنشور

مؤسسات كشفت الأزمة زيــف‮ »‬تبرجهــا‮« ‬الدعائــي‮!‬

الأزمة المالية الطاحنة التي‮ ‬هزت النظام المالي‮ ‬والمصرفي‮ ‬العالمي‮ ‬والتي‮ ‬توشك على الإطباق على أنفاس الاقتصاد العالمي،‮ ‬أماطت اللثام عن كثير من المظاهر والظواهر،‮ ‬والاختلالات السلبية التي‮ ‬كانت شائعة في‮ ‬المعاملات الاقتصادية الوطنية والدولية،‮ ‬والتي‮ ‬كانت ترسم عن نفسها صوراً‮ ‬خادعة صقيلة ومهيبة،‮ ‬فإذا بالأزمة تكشف مدى هشاشة‮ ‘‬ممثليات‮’ ‬تلك المظاهر والظواهر،‮ ‬من مؤسسات وصناديق استثمار ووسطاء ماليين وتجار متعاملين في‮ ‬أسواق السلع،‮ ‬وأسواق قطع أجنبي‮ ‬وأسهم وسندات‮.‬ ففي‮ ‬حمأة الازدهار المنفلت للدورة الاقتصادية العالمية واندفاع الجميع من حكومات وشركات ومؤسسات وأفراد لاستثمار الفرص الاستثمارية الوفيرة التي‮ ‬وفرتها في‮ ‬كافة مناحي‮ ‬النشاط الاقتصادي،‮ ‬لم‮ ‬يلتفت أحد ويتحوط للضوابط والقواعد المنظمة للنشاط الاقتصادي‮ ‬الموضوعة خصيصاً‮ ‬لحماية الأسواق والمتعاملين من انزلاقاتهم المتهورة نحو المجهول،‮ ‬مدفوعين ببريق تصاعد العائد على الاستثمار،‮ ‬ليس استناداً‮ ‬على الأساسيات الاقتصادية وإنما على سيكولوجية السوق وعقلية المقامرة التي‮ ‬تتحكم في‮ ‬المضاربين‮.‬ ويوم الثاني‮ ‬عشر من مارس الجاري‮ ‬اعترف برنارد مادوف أمام القضاء الأمريكي‮ ‬أنه قام بعمليات نصب واحتيال وسرقة ما‮ ‬يصل إلى‮ ‬65‮ ‬مليار دولار عبارة عن أموال التي‮ ‬أودعها مستثمرون من جميع أنحاء العالم في‮ ‬شركته على أمل تدويرها بعوائد رأسمالية مجزية‮.‬ قبل هذا التاريخ ببضعة أشهر فقط،‮ ‬وتحديداً‮ ‬إلى ما قبل انكشاف وافتضاح أمره في‮ ‬11‮ ‬ديسمبر‮ ‬‭,‬2008‮ ‬كان هذا الشخص وهو مصرفي‮ ‬أمريكي‮ ‬من ولاية نيويورك‮ ‬يرأس محفظة استثمارية ويديرها من خلال شركته التي‮ ‬أنشأها عام‮ ‬1960‮ ‬وتحولت إلى أكبر صنّاع السوق‮ ‬‭(‬Market Maker‭)‬‮ ‬في‮ ‘‬وول ستريت‮’ ‬‭-‬‮ ‬نقول إلى ما قبل افتضاح أمره كان عنواناً‮ ‬للإبداع والنجاح الاستثماري‮ ‬وللاستقامة وعمل الخير حيث كان من المحسنين البارزين‮.‬ أما اليوم فقد اتضح أنه نظَّم أكبر عملية نصب واحتيال في‮ ‬التاريخ،‮ ‬وأن المحكمة طالبت بسجنه‮ ‬150‮ ‬عاماً‮ (‬عمره الآن سبعون عاماً‮)! ‬ شخصية أخرى مصرفية أمريكية لامعة،‮ ‬هذه المرة من ولاية تكساس في‮ ‬الجنوب الأمريكي‮. ‬هي‮ ‬شخصية السير روبرت ألن ستانفورد‮ (‬من مواليد عام‮ ‬1950‮)‬،‮ ‬الذي‮ ‬اشتهر إلى ما قبل بضعة أشهر فقط بكونه أحد رجال المال الأمريكيين البارزين والمشهورين برعايتهم لرياضات المحترفين وبسخاء عطائه في‮ ‬أعمال الإحسان والخير،‮ ‬كما‮ ‬يحمل جنسية مزدوجة بعد أن أصبح مواطناً‮ ‬في‮ ‬انتيكوا وبربودا قبل عشر سنوات حيث صار أول أمريكي‮ ‬يحصل على وسام فارس من دول الكومنولث بتكريمه من قبل الحاكم العام لانتيكوا وبربودا جيمس كارليسل‮.‬ إلا أن مطلع عام‮ ‬2009‮ ‬حمل المفاجأة الكبرى للعالم،‮ ‬فقد كان روبرت ستانفورد مثاراً‮ ‬للعديد من التحقيقات في‮ ‬جرائم نصب واحتيال وتم اتهامه من قبل لجنة الأوراق المالية والبورصة‮ ‬‭(‬SEC‭)‬‮ ‬بتهمة الاحتيال والقيام بانتهاكات قوانين الأوراق المالية الأمريكية والتورط في‮ ‬سرقة‮ ‬28‮ ‬مليار دولار‮. ‬وقصة هذا الثري‮ ‬المحتال الأمريكي‮ ‬الكبير ونجاحه طوال سنوات في‮ ‬خداع الناس وتقمص شخصيات كجزء من‮ ‘‬عدة‮’ ‬الاحتيال،‮ ‬تصلح لأن تكون فيلماً‮ ‬سينمائياً‮ ‬مثيراً‮.‬ هنا أيضاً‮ ‬في‮ ‬الخليج لاحظنا كيف تداعت مشكلات إحدى الشركات الاستثمارية ذات التوجهات الاستثمارية المحلية والإقليمية ووصولها لحد الحجر على أصول الشركة بعد تعثرها في‮ ‬سداد قروضها قصيرة الأجل،‮ ‬وهي‮ ‬‭-‬‮ ‬أي‮ ‬الشركة التي‮ ‬لطالما داومت على الحضور الطاغي‮ ‬في‮ ‬الصحافة كمحلل خبير في‮ ‬الشؤون الاقتصادية الدولية وتطوراتها ومستجداتها‮.‬ هنا‮ ‬يتساءل المراقبون،‮ ‬أين دور وكـالات التصنيف الدولية‮ ‬‭(‬International Rating Agencies‭)‬‮ ‬التي‮ ‬بنت سمعتها على أنها مراقب وراصد محايد للشركات،‮ ‬ومقيِّم لأدائها وملاءتها المالية،‮ ‬بما‮ ‬يوفر صورة‮ ‘‬ناصعة‮’ ‬لكل من‮ ‬يرغب في‮ ‬التعامل مع هذه الشركات،‮ ‬وخاصة لجهة إجابة طلباتها لتمويل عملياتها ومشاريعها؟ الحال أن هذه الوكالات أنفسها اخترقها الفساد لارتباط أعمالها ومداخيلها بالتصنيفات الإيجابية التي‮ ‬تمنحها للمؤسسات والمصارف التي‮ ‬تقوم فيما بعد باستغلال هذا التصنيف كجواز سفر لركوب مغامرة الاقتراض المكشوف أي‮ ‬غير المغطى رأسمالياً‮ ‬‭.(‬Leveraging‭)‬ ‮ ‬علماً‮ ‬بأن الشركة الاستثمارية الخليجية المشار إليها آنفاً‮ ‬كانت قبل انكشاف وضعها المالي،‮ ‬قد حصلت على تصنيف عال من قبل‮ ‘‬ستاندرد اند بورز‮’ ‬و‮’‬فيتش‮’‬،‮ ‬فإذا بها في‮ ‬وضع‮ ‬ينطبق عليها المثل الشعبي‮ ‬المصري‮ ‘‬باب النجار مخلَّع‮’!‬ وعلى ذلك فإن أحد أبلغ‮ ‬الدروس التي‮ ‬أنتجتها الأزمة هو ذلك المتعلق بأهمية وضرورة التثبت من حقيقة أوضاع العملاء والشركاء المحتملين،‮ ‬سواء كانوا شركاء صفقات مقطوعة أو شراكات استثمارية قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأجل،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك التثبت من صحة مزاعم وشهادات تصنيفاتها الائتمانية قبل التعاقد معه.

صحيفة الوطن
29 مارس 2009