المنشور

الهوامش والمراكز

فيما الأحياء العربية تعيش الضنك، وهي مجموعات من الأزقة والحارات التي تعيش عصور ما قبل الحضارة، طرقا متعبة، ومساكن رثة، وتجارة صغيرة عرضية، فإن مراكز المدن تعيشُ بأبنية تناطح السحاب، في أشكال خرافية لم تنبعْ من ذوقٍ سليم ومن فنون المنطقة لكن من جيوبها المثقلة بالديون، وقد جاءت كأنها من فوق، انزلتها الطائرات والسفن حمالة الجنود.
تبدو مثل إبل سمان، امتلأت ضروعها بحليب المساكين.
الأزقة تعيش المواسم الدينية وتنبث فيها قبور الأولياء والمشايخ والسحرة من كل الأنواع، والجمهور يعيش على حافة الجوع، وغارق في الخرافات والمآسي المعيشية، لكن مراكز المدينة تمتلئُ بالكهرباءِ المضيئة من دون حاجة، والأبنية الأسطورية والاحتفالات البهيجة أو الزائفة بأفراح مختلقة، وبدواعٍ سياسية وتهريجية شتى.
ثم ان هذه الأبنية ترسل الفواتير وتصرخ: “ادفع، ادفع”.
لا تجد أي صلة بين تلك المباني الشامخة الهائلة في مركز المدينة، التي تسودُ فيها أسماء الفنادق العالمية الكبيرة، و”الماركات” التجارية الشهيرة، كأنها أراض مستقلة للشركات العالمية وللدول المسيطرة على العالم، وبين أمعاء الأزقة، حيث الظلمات وانطفاء الكهرباء وتفجر المواسير بالمياه وطفح البلاعات، وحشود الأطفال بلا ملابس، يلعبون ويتصارعون في هذه المياه المنقطعة وتلك البلاعات المتفجرة، وهذه المخابز التي تقدم الخبز المعجون بالعرق أو بالتراب.
وفيما أن الفنادق العالمية تستقبل الاحتفالات الباذخة، وآخر العطور والفساتين، والزعماء الذين يلقون خطبهم عن أن كل شيء رائع وعظيم وأن المجتمع أو الوطن أو البشرية كلها تمشي في تقدم مستمر، يتفجر أنبوب في زقاق يحتاج سده إلى معارك مع البلدية والأشغال ووزارة الموتى.
عبرتْ مراكزُ المدن عن مصادر ثراء القوى المالكة وفي مجتمعات بلا ديمقراطية، وراحت القوى المسيطرة تمتلك هذه المنطقة الاقتصادية الغنية التي تقود البلدان وترتفع فيها الإيجارات ويضطر الناس إلى البقاء في بيوتهم الرثة يتحملون الأمرين من الزحام ولا من مجيب، ومن انسداد شرايين المياه والعروق ومزاحمة الغرباء البؤساء.
وجاهة، وضخامة المباني، وتضاربها وعدم تنسيقها، وحشود من السياح والمحتفى بهم وفرق الطبالين القادمة من كل فج للجوائز والأعطيات.
فيما هؤلاء يقدمون كل هذه الألعاب في مركز المدينة يرفعون بها الميزانيات التي لا تحاسب أجندتها إياهم، فإن الأزقة تشهد مشاهد أخرى، حيث يتقدم بعض الناس ليدينوا البذخ والطفيلية والكفر ويجمعوا هم أيضاً شيئاً من عرق ودم الأزقة.
في هذه الممرات المعتمة ولعدم وجود الكشافات، والمدارس، ومحو الأمية، ولجان الأحزاب التقدمية والعمالية، يستطيع أي ساحر أن يغدو زعيماً في بضع سنوات. لا يحتاج سوى إلى مجموعة “جوامع” ولحية طويلة وبلاغة جاهلية أو قدرة على تأجير لسانه وضميره لمن يدفع.
بتركيزه في هذه البلاعات الخاصة والعامة وتمترسه في المساجد يفيض من بلاغة الهجوم على الكفر الرابض في الفنادق، والمطارات، والأندية العصرية، ويرقص فرحاً لإغلاق الفنادق والجرائد اليسارية وانتشار صحافة الارتزاق والنفاق وقطع الأرزاق، فيرضي حكومات الفساد ويرضي ضميره، يصبح زعيما (إسلاميا) تتراكضُ الفضائياتُ لنيل بركاته، وهو يقدم من هذه الرشوة القادمة من حكومات الفساد ومن المسيطرين على الشركات على اتباعه من الشباب الذي نشأ في أزقة المستنقعات ويهفو لشراء السندات والكراسي والقبضات الحكومية.
كان صدام يحتفل بتموز وبقية شهور فساد السنة، وتأتي قوافل المثقفين العرب لتحرق البخور لسيادته، مثقفون من كل الأقطار العربية، سياسيون محنكون في الخداع والتضليل الفكري العميق، شعراء يمدحون تموز الأسطورة خائفين من أزقة بغداد الشعبية، كتاب يظهرون في كل عاصمة حناجرهم مؤجرة وضمائرهم مختطفة، وينتقدون القمع ومصادرة الحريات، وتحتفي بهم المآدب الوافرة وتحتها جثث الفقراء والمسلوخين.
كل بلاد تقتفي أثر صدام وتنكره أمام الملأ، آبارها مخصصة للكرم الأجنبي، يحبون إكرام الضيوف حبا جما، وكل حزب يتبع صداماً ويرفضه علناً، يفجر صواريخ الكلام الثوري ولا يستطيع أن يمحو أمية صبي.
يحبون الصرف على الغريب، ربما من الخوف، ربما من حب التظاهر والمظاهر، ربما لشراء الأصوات في محكمة العدل الدولية، ربما يخافون أن توضع أسماؤهم كمطلوبين في المخافر الدولية، ربما يرتعبون من تقلبات الغرب غير المفهومة لدى أصحاب النظارات الليلية المعشية.

صحيفة اخبار الخليج
30 مارس 2009