المنشور

تحولات أوروبا الشرقية الديمقراطية

يندهش مراقبون سياسيون كثيرون لغرابة التحولات السياسية في أوروبا الشرقية، فيعتقد بعضهم أن الأحزاب الشيوعية فيها التي سقطت من الحكم هي مجرد أصداء للحزب الشيوعي السوفيتي، وأنها اختلفت كلياً بعد التحولات التي جرت وغدت معادية لإرثها السابق، وأن التحولات لا تمت بصلة للنهج الاشتراكي. ويخفف بعض المراقبين من هذه الأحكام المتطرفة بالقول إن أحزاب أوروبا الشرقية الشيوعية تحولت للاشتراكية الديمقراطية وقبلت مبادئ التعددية وتبادل السلطة، وتركت الحكم بعد هزائمها السياسية في الانتخابات أو في الثورات التي جرت ضدها، وبعضها عاد للحكم وهزم خصومه السابقين!
ومن الواضح أن التجربة الروسية مغايرة لتجارب أوروبا الشرقية، فقد توقف الحزب الشيوعي الروسي عند مقولات الماضي، ورفض التغييرات محتفطاً بعقديته(الماركسية – اللينينية) التي صاغتها التجربة السياسية الحاكمة في السابق والتي التحمت مع البيروقراطية الحاكمة الروسية ثم ألغتها هذه البيروقراطية وهي تتحول للرأسمالية على النمط الغربي ولكن من دون تحول ديمقراطي عميق.
إن تجارب أوروبا الشرقية مختلفة، فهي بلدانٌ صغيرة قياساً لروسيا الاتحادية، وذات جذور مغايرة نسبياً، وكانت النسخة الروسية من الاشتراكية تمثل لها تقدماً صناعياً وسياسياً كبيراً في بدء تشكلها حتى الستينيات من القرن الماضي، فهذه الدول كان أغلبها إقطاعياً زراعياً متخلفاً وفيها بعض التقدم الصناعي المتفاوت بين ألمانيا الشرقية والمجر وبين غيرهما.
لقد كان المعسكر(الاشتراكي) يمثل لها تحولا جذرياً ودخولاً في التحديث الواسع، صحيح أن هذا تم بأدوات عسكرية وبسياسة مركزية شمولية، لكنها كانت عملية التراكم الضرورية لخلق اقتصاد متقدم. ولكن هذه الصيغة المركزية وصلت إلى مرحلة الاختناق، بسبب بيروقراطيتها، وبسبب عجز القطاعات العامة عن إدارة كل الاقتصاد، رغم أن هذه الدول الأوروبية الشرقية لم تكن صارمة في مركزيتها مثل روسيا، وكانت لها تجارب في الحياة الديمقراطية وفي ظهور القطاعات الخاصة، ولهذا برزت أزمة الرأسمالية الحكومية الشمولية فيها قبل روسيا، خاصة أنها مكرسة من خلال سيطرة أجنبية خبا دورها التحريري السابق ضد الهتلرية والاقطاعات الرثة، وكان حدثا بولندا وافغانستان يشيران، كلٌ من جهته ودلالته، على انتهاءِ عهد السيطرة الروسية عالمياً، وعلى فرض نموذجها على البشرية.
وقد رأت هي بنفسها ضرورة التخلص من هذه التركة داخلياً ومن هذا النموذج الصارم الجامد، وشجعت أجهزتـُها السياسية والبوليسية دول أوروبا الشرقية على التخلص من سيطرتها!
لنقل إن النضال لتجاوز الرأسمالية الحكومية الشمولية في كل من روسيا وأوروبا الشرقية، كان مترافقاً متداخلاً، ولولا ارتخاء القبضة الروسية ما كان لأوروبا الشرقية أن تتحول، كما أنها تحولت إلى عبء اقتصادي ثقيل على روسيا، وفي عالم الرأسمالية الروسية الحكومية – الخاصة الجديدة، لايجاد هذا الثنائي المركب من القطاع العام والقطاع الخاص لتطوير التنمية، تم التركيز على تقليل التكاليف والأموال المدفوعة وكيفية الحصول على الرساميل وتدفق الأرباح لتطوير القوى المنتجة المتجمدة بعد هدر هائل.
إن هذا الثنائي المركب من الاقتصاد العام والخاص، يمكن أن يُصاغ في كل تجربة وطنية حسب وعي العمال والمثقفين والقوى الحاكمة، أي حسب مستوى كل بلد، وإذا كانت بلدانٌ من أوروبا الشرقية تحولت بشكل سلمي عبر الحوار والتنازلات المشتركة للحفاظ على سلامة البلد وتطوره، مثل تجارب بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، فإن بلداناً أخرى خاضت المعارك والثورات الحادة كرومانيا وألمانيا الشرقية.
لنقل ان مستوى الثقافة الجيد في هذه الدول، القريبة من تجربة أوروبا الغربية، وقد أضافت لها الحقبة السوفيتية الكثير من التعليم والتصنيع، جعلتها تتحول بشكل عقلاني، من دون حروب ضارية مثلما حدث في يوغسلافيا وبعض الدول العربية.
لقد استوعبت الأحزابُ الشيوعية في أوروبا الشرقية الوضعَ بشكل جيد، ولم تكن قيادات هذه الأحزاب كما تصور بعض الكتابات غير الموضوعية، أنها قيادات طغيان عنيف وفساد هائل، فهي لم تنشىء طغاة مثل بلدان أخرى سوى في رومانيا، وسرعان ما قبل معظمها التخلي عن الحكم، وجادلت الأحزاب المعارضة وسياساتها الحادة بالتخلي عن القطاعات العامة وبيع كل شيء، وهي سياسات مافيا وليست سياسات حكومات وطنية، وقامت بتغيير أسمائها وليس تغيير الأسماء بعمليات تضليل وخداع، بل هي مقاربة موضوعية للتطور الحقيقي، من دون التخلي عن الأهداف الاشتراكية البعيدة المدى.
وقد استطاع بعضها العودة للحكم في ظرف سنوات قليلة بعد أن اكتشف الناس خطورة التخلي عن المنجزات الاجتماعية المحققة سابقاً، ورأوا الحكام المنتخبين الاشتراكيين الديمقراطيين يجمعون بين تطور القطاعات العامة وتطور القطاعات الخاصة، ويكرسون الديمقراطية وحرية الصحافة واستقلال القضاء والأهم عدم التخلي عن سياسات دعم معيشة قوى الأغلبية العاملة.
استطاع بعض هذه الدول أن تجمع بين مكتسبات الحقبة السوفيتية وخاصة هيكلية القطاعات العامة القيادية ومستوى المعيشة المقبول لكن الذي تردى حين سيطرت الأحزاب اليمينية.
إن حلقات انتشار وتطور الرأسماليات في أوروبا الشرقية ليست متضادة كلياً مع الاشتراكية، فالاشتراكية لا تتحقق دفعة واحدة كما هي في الرؤية اللينينية، بل من خلال حقبة زمنية طويلة، لها أشكالٌ ضرورية تمهدُ لها هذه الرأسماليات المتحولة التي تتخذ أشكالاً متعددة من رأسمالية سياسية حكومية خاصة إلى حكومات اشتراكية ديمقراطية تعمق التطور التحولي الذي يهتم بمصالح الأغلبية العاملة. ويظل الجدال الاجتماعي بين هذين الخيارين الاجتماعيين طويلاً.

صحيفة اخبار الخليج
31 مارس 2009