المنشور

الرقابة الاجتماعية


كل الثورات والنضالات والوعود المشرقة والأحلام الاجتماعية على مدى التاريخ كانت ومضات ولحظات سريعة في مسيرات الأمم والشعوب والطوائف، وكان السائد هو القهر والاستغلال والإذلال والتجارة باسم المبادئ والتغني بالماضي المبهر غير المستعاد.

ولهذا يتشكل التاريخ الباقي كصنوف وألوان من المعبودات، وصلات بين المؤمنين بتلك الأفكار، وروابط من مضامين خبت وزالت.
لا فرق فيها هذا بين الإسلام والشيوعية، فكلاهما حلمٌ، وثورة في زمنه، ونقلة في مدارج التاريخ العليا، وفي الاثنين شيءٌ مشتركٌ آخر هو الرغبة في هزيمة الأغنياء وعدم وجود سلطان لهم على جماهير المؤمنين المساكين، الذين قدموا التضحيات في البدء ورفعوا الدول إلى الذرا.
هناك الظروف الموضوعية المختلفة، وهناك العادات المتباينة، وقسمات القوميات والقبائل والطبقات الحديثة، ولكن المشترك يبقى وهو ثورة إلى القمة ثم تبدل مريعٌ، وتتلاشى الأحلام بسيادة العدل.

حين نجد صرخات المعتزلة والقدرية والجهمية وغيرها في بدء الانتقال من الذروة الثورية إلى حضيض الاستغلال الجشع، ومن الحلم المشترك بأن يبقى الناس متساوين، تطالبُ تلك الصرخات بإعادة عقارب الساعة للوراء، وبضرورة توزيع الفيء العام على أهله، الذين لهم حقٌ فيه، فتطاردهم قوى الشرطة والعيون البصاصة، وتلقيهم في المطابق والمحابس، تذيقهم ألواناً من التعذيب حتى ينسوا تلك الدعوات ولا يقارنوا عصراً بعصر آخر.

والناس مشغولة بأرزاقها تسأل عن الدرهم وكم يُباع البقل وبكم يشوى اللحم، وبكم إيجار البيت الصغير، وكيف يُلقى الأولادُ في حفرِ الشغل ومستنقعاتِ الزرع، وبكم تـُباع البنت لعريسها..
والمعتزلة والإمامية يقولون لهم أنتم تطالبون بالفلس والفلسين ونحن نريد أن نعطيكم حقكم في فيئِكم الذي كتبه لكم الدين، ولكن الرجال يذهبون لزوجاتهم المريضات ومنازلهم الساقطة وأولادهم الضائعين.

لم تفكر الفرق بإنشاء لجان للرقابة الشعبية على الأموال العامة، وكم كانت لهم مجالس للأدب والفقه والتاريخ، ولكن لم يشكلوا من الناس رقابة تتبع ما يجري من سيل أموال نحو القصور واللهو، وبعضه القليل المتوجه للخدمات العامة.

كانت الفرق السياسية ذاتها لا تعتني بأن تكون للناس البسطاء إرادة مستقلة وعيون مفتوحة على السرقات العامة، وعلى قصور الخدمات، وكانت تستهين بالعامة وما يطلقون عليه اسم(الرعاع)، فهي يجب أن تسمع الكلام فقط وتؤيد وتحفظ أما أن تشارك في السلطة الرقابية وتكتب الدفاتر بالأموال وبنقصها وبسوء توزيعها فهذا ما يعرفونه ولكنهم لا يريدونه.

ومن النظام المؤمن إلى النظام غير المؤمن دينياً، ستجد أن السلبيات واحدة، فقد قامت الثورة السوفيتية وكنست امتيازات الأغنياء الكبار، وحررتْ الفلاحين من عبودية الأرض وأعطت العمال الكثير من الحقوق، وصارت تلك ذروة خلاقة منيرة للقادمين من بعدهم، وانصبت عليها أحلامٌ كبيرة بتجاوز الإنسانية مرحلة الحيوانية حيث المجتمعات غابات، لكن الغابات عادت كالعادة.

كلمة (سوفيت) تعني المجالس الشعبية المنتخبة، وهي أكبر شكل خلقته الإنسانية للرقابة الشعبية، حيث يقوم العاملون المزاحون عبر التاريخ بالرقابة المباشرة على الوزارات ويشكلونها ويتتبعون خطواتها ويزيحون الوزراء غير الكفوئين، وينتخبون غيرهم.
وحين استمرت هذه المجالس بقوة وحين ظل لها بعض القوة عرف الاتحاد السوفيتي التطور الكبير في الصناعة والزراعة ومعاش الناس المتقارب والسيطرة على الأسعار والأعمال، ثم تلاشى دور هذه المجالس، فالقوى البيروقراطية الحزبية والعسكرية والاستخباراتية، وجدت فيها عائقاً يمنع سيطرتها على المجتمع، وعلى تسرب الفوائض إليها، وعلى حرية حراكها السياسي، فقلصتْ من دورها حتى جعلتها مجرد مجالس شكلية معينة، وانتقلت السلطة كلياً للهيئة الحزبية العليا فالزعيم الأوحد.

والسوفيتات التي كانت في كل جمهورية، وعلى مستوى الجمهوريات، معبرة عن قوميات مشتركة متوحدة في إرادتها السياسية لخلق مجتمعات تمنع تكون كبار الأغنياء وعودة سيطراتهم، تهمشت هذه المجالس فتباينت الأحوالُ بين الجمهورياتِ والقوميات، وبين مستوياتِ الإدارات الحكومية وما تقبضُ من مالٍ حرام. تضاءلتْ السوفيتات وسُحب مضمونها، وصارت أشكالاً مفرغة من دورها الرقابي الحاكم الحازم، فتهدم الاتحاد (السوفيتي(!

القوميات التي كانت تأكل على سفرة واحدة، وتقدم لحوم أبنائها للدفاع عن الوطن، تحاربت مع بعضها بعضا وتمزقت الخريطة الجامعة.
وهكذا في كل صيحة وطنية للجهاد وفي كل ثورة يضحي فيها الفقراء، وفي كل دعوة للانتخابات وعقد الدورات البرلمانية، التي تـُذبح فيها الذبائح وتـُرش الوعود وتتجمع التبرعات، يُطلب من الناس المشاركة والتصويت والتضامن، ثم ينفض المولدُ ويعود الفقراء والعاملون إلى بيوتهم يحسبون فواتير الكهرباء والإيجارات ويعدون لعرس أولادهم وبناتهم، وقد تركوا السياسيين يديرون ما يريدون من صفقات وعمليات سياسية ويصعدون في سلالم الثراء، من دون أن تكون لهم لجان يراقبون الأعضاء وما فعلوه وأين دخل البلد؟ وكيف يتوزع ويضيع؟ ثم يعودون للتصفيق والإشادة بدور الزعماء والعلماء!