المنشور

حسـن التـرابي


رجلٌ تعددت فيه الآراء والمواقف، ورفضته قوى دينية وليبرالية ويسارية، وكل من وجهة نظره، لا لثراء فكره، بل لقدرته على التلون وتغيير مواقفه وتجاوزه لفهم الدين كما يقرأه المحافظون وتأييده للنظام الديني، وتبقى ثيمة الدكتاتورية السياسية الدينية المحافظة متجذرة فيه.
وسيرته توضح هذه التقلبات وكذلك البحث عن مخرج لدولة نازفة في التخلف والصراعات القومية والدينية والاجتماعية: حسن عبدالله الترابي (ولد في 1 فبراير 1932). ولد في كسلا في السودان بالقرب من إريتريا. له دور فعّال في ترسيخ قانون الشّريعة الإسلامي في الجزء الشّمالي للبلاد. كان والده قاضياً وخبيراً في قانون الشّريعة. ويعد الصادق المهدي، رئيس الوزراء السابق للسودان من أقربائه.

بعدما تخرج عاد للسودان، وأصبح أحد أعضاء جبهة الميثاق الإسلامية وهي إحدى الفروع السودانية للإخوان المسلمين. بعد خمس سنوات أصبح لجبهة الميثاق الإسلامية دور سياسي أكثر أهمية، فتقلد الترابي الأمانة العامة بها عام  1964 ، عمل الترابي مع طائفتين من الحركة الإسلامية في السودان هما الأنصار والختمية.

بقي مع جبهة الميثاق الإسلامية حتى عام 1969 حينما قام جعفر نميري بانقلاب. تم اعتقال أعضاء جبهة الميثاق الإسلامية، وأمضى الترابي سبع سنوات في السجن. أراد الانقلاب والطائفتان الإسلاميتان الوصول لحل وسط في عام 1977، وقد كان إطلاق سراح الترابي جزءا من هذا الحل. أعلنت حكومة نميري فرض قوانين الشريعة الإسلامية في عام 1983، وانقلبت بعدها على جبهة الميثاق الاسلامية – حليفتها في السلطة- عارض الشعب هذا الأمر بواسطة الإجراءات القانونية مثل حل البرلمان السوداني، وبواسطة المظاهرات مما أدى إلى ثورة شعبيه ضد نميري في عام 1985 .

بعد عام أسس الترابي الجبهة الإسلامية القومية، كما ترشح للبرلمان ولكنه لم يفز. في يونيو عام 1989، اقام حزب الترابي انقلاباً عسكرياً ضد حكومة المهدي، بعد ان طردت أعضاء حزبه من البرلمان، وألغت قوانين الشريعة الاسلامية، وعين الترابي عمر حسن البشير رئيسا لحكومة السودان.

في عام 1991 أسس الترابي المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي يضم ممثلين من 45 دولة عربية وإسلامية، كما انتخب الأمين العام لهذا المؤتمر. اختلف مع حكومة الإنقاذ حول قضايا، أهمها الفساد، والشورى، والحريات، وحل البشير البرلمان، في أواخر عام 1999م، وبعدها أصبح الترابي أشهر معارض للحكومة.

شكل مع عضوية حزبه المؤتمر الشعبي، في 31 يونيو 2001م.. وحوى معظم قيادات ورموز ثورة الإنقاذ الوطني، وتخلى مسئولون كبار في الحكومة عن مناصبهم. اعتقل في 2001م لتوقيع حزبه مذكره تفاهم مع الحركة الشعبية، ثم اعتقل مرة اخري في مارس 2004 بتهمة تنسيق حزبه لمحاولة قلب السلطة. له العديد من الرؤى الفقهية المتميزة والمثيرة للجدل)، (من وكيبيديا، الموسوعة الحرة، ومن فتاوى الدكتور الترابي ورؤاه).

نلاحظ بوضوح في سيرة الترابي هذه العملية المركبة للجمع بين الحداثة والإسلام، فهو باحثٌ متعمق في كلا الجانبين الديني والعصري، لكن على أساس سياسي غائي شخصي، وهو إذ يتمسك بحرفية النصوص الدينية لكنه يأخذها كنصوص من دون بناها الاجتماعية التي قامتْ عليها، أي يعتمدُ على ما قامتْ به الأنظمة المحافظة من تأويل الإسلام حسب مصالح طبقاتها العليا، فمن الناحية السياسية يرى منصب الرئيس أو الخليفة باعتباره المنصب الجوهري في الحكم، وليس البرلمان والمجالس الأخرى إلا ملاحق به، وإذ يتحول منصب الرئيس إلى منصب منتخب، لكن يتم ذلك على أساس انقلابي دكتاتوري، حيث يفرض الحزب المنتمي للترابي سيطرته، فتغدو عمليات (الديمقراطية) ملحقة بتلك السيطرة الشمولية، فهو لا يؤيد الحداثة الديمقراطية بمعاييرها الإنسانية، من علمانية وإبعاد الأديان عن الاستغلال السياسي، أي هي أشكال من (الديمقراطيات) الشرقية المقننة لخدمة الدول عادة. وابتكارات الترابي تغدو جزئية فهو لا يمانع بوصول (المسيحي) أو (المرأة) لرئاسة الدولة الإسلامية، ولكن هذه جزئية غير ممكنة في ظل سيطرة حزب العسكر الذكوري على سبيل المثال أو ان يغدو المسيحي أو المرأة مجرد أداة شكلية في دولة ذكورية ودينية. فالقضية ليست وصول المسيحي أو المرأة إلى الحكم بل هذا البناء السياسي المتلاعب بالدين، فالدولة الدينية المذهبية ستظلُ مسيطرة على الأقاليم المختلفة دينياً وعلى الجمهور المتعدد الرؤى.

لا يصل الترابي هنا ككلِ إجتهاداته الدينية المفيدة بطبيعة الحال، إلى نزع سيطرة المحافظين عن الدين. فهو محافظ مثلهم، بعدم رؤيته تاريخية الدين، وانتماء الدين للأغلبية الشعبية، بل هو ينتمي للأقلية السياسية العسكرية التي كيفت الدين خلال قرون لسيطرتها. ولهذا نرى هذه الجزئيات التجديدية التي يضعها في رؤية تقليدية شمولية، لا تتسق مع بعضها بعضا، بل هي جزء من رؤية استعراضية وتجميلية ودعائية بهدف كسب فئات مضطهدة لحساب الحزب. كذلك فهي اجتهادات تثير عليه رجال الدين مثل تدخلاته في قضايا الحدود ولكن مثل هذه الأحكام لم تدخل في تطبيقه السياسي، وتغدو هذه الانشقاقات الاجتهادية كجزء من محاولته التأثير في التنظيمات والناخبين، ولا تأتي جزءًا من مشروع ديمقراطي حداثي متكامل، وهي كلها جزء من محاولته التسريعية في الصعود. ولهذا نرى كيف أن الترابي كان من الإخوان المسلمين ثم انفصل عنهم، بسبب النمو المتدرج للإخوان وعدم تأييدهم للانقلابات السياسية والفقهية، حسب المسار السوداني المشار إليه سابقاً. 
 



حسن الترابي (2)


لا تقومُ مرجعية الدين أو الناس لدى حسن الترابي كمرجعيةٍ محورية ثابتة، بل تعودُ المرجعية لذاتهِ، لفرديتهِ الطموحة للوصول للحكم.
ومن هنا يغدو الفضاء العام المحافظ هو الذي تحلقُ فيه تلك الذات للوصول إلى كرسي العرش، لأن الفهم الديني المحافظ هو الذي يكون لها عصبة سريعة التشكل، وانتقائية الاجتهاد والتقلب.

يغدو الدينُ كما شكلهُ المحافظون عبر قرون الاستبداد هو المرجع وهو الذي طرأتْ عليه تغييراتٌ في التأويل السياسي الراهن، من حيث تراجع مرجعيات الليبراليين والعساكر الانقلابيين، والمدنيين القوميين التحررين، وصعود مرجعيات الأرياف الإسلامية، بغياب ذلك التحضر وتصاعد العصبيات الطائفية والعنصرية، واللاعقلانية السياسية واعتماد سياسات التصفيات والعنف والإرهاب في كثير من الأحيان. 
 
وفي هذا الخضم، وعبر موقع السودان المتقلب سياسياً ومدنياً، وجد الترابي نفسه بذلك الطموح المحوري في شخصه، وبتلك الحربائية المتلونة في كل مرحلة، يستعير لباساً لكي يصعد، لحلمه الدائم، فوجدناه ينضم لحركة الإخوان فلا يصبر على الثبات فيها، نظراً لبطئها، ويعادي حزب الأمة وهو مثله بانتمائه للمحافظين الاجتماعيين، ممثلي الطبقات المسيطرة، لكن حزب الأمة لا يؤمن بالمغامرات العسكرية والعنفية خاصة، وهي التي تجلبُ أكبر الكوارث للشعوب، ولهذا قام الترابي بمهاجمة هذا الحزب وإزاحته وتثبيت عقلية الانقلابات والمغامرات، التي هي جزءٌ أصيلٌ من ذاته السياسية.

إن ظهورَ القطعِ الكبير بين عقليةِ التدرج السياسي السلمية وتفجر عقلية المغامرات العنيفة، هو نتاجٌ لعدم تثبيت المؤسسات الديمقراطية الهشة في الأرض السودانية وعجز قوى المحافظين عن تطوير حياة الأغلبية العاملة، معاً.
إن ذلك خلق هوة سمحت للمغامرين السياسيين والعسكريين بالانقضاض على السلطة، وتشكيل إعصار سياسي راح يلفُ السودانَ ممزقاً خريطته وبشره.

لعب الترابي دوراً محورياً في إنتاج مثل هذا الإعصار، فقد قاوم جعفر النميري من خلال المنطلقات (الإسلامية)، كما يصورُ ذلك، وقد عارض النميري بسبب رفع هذا الأخير الشعارات القومية والاشتراكية التي لا يعرف عنها شيئاً، وحين انفضت القوى المدنية من حوله بسبب طغيانه الشخصي، رفع النميري الشعارات ) الإسلامية) وحاول أن يستثمرها لتمديد كابوسه السياسي. ووجدها الترابي فرصة للخروج من السجن والقفز للسلطة!

لكن القوى المدنية الشعبية هي التي أزاحت النميري، وظهر الترابي مناوئاً مرة أخرى لحزب الأمة، وللتدرج الإصلاحي، وراح يعدُ مغامراتٍ جديدة للحكم والشعب.

بدأت جماعة الانقلاب الديني والمغامرة تتخذ لنفسها مسمى جديداً، تضفي عليه الكثيرَ من بهرجة المشرق الإسلامي وشعاراته الحماسية الفارغة من أي مضمون ديمقراطي. وسمت نفسها جماعة (المؤتمر). وحاولت أن تجعل من هذا النهج نهجاً عربياً واسعاً، مما يمثل خطاً آخر بين الخطوط المتكاثرة للجماعات المذهبية السياسية.

وحانت الفرصة خاصة عندما ألغى حزب الأمة التشريعات التي سماها النميري )الإسلامية)، فكان أن ظهر فصيلٌ في الجيش خيطهُ الترابي بإبرتهِ الحادة، وألبس السودان بدلة نظام شمولي عسكري جديد، فكان أن ظهر البشير، فصار للدولة رأسان، ولكن الرئيس هو من يقبض على أداة العنف، لا من يقبض على أداة الكلام.

إذًا جاءتْ كلُ تحركاتِ الترابي التنظيمية والدعائية والسياسية لكي تصب في وصولهِ للسلطة، وهنا ظهر بوضوح ذلك أثناء تسلم البشير مقاليد الحكم، فالبشير رفض أن يكون الرجل الثاني، أو الأداة للترابي، رغم أنه قادم من نفس التنظيم، ونفس (الفكر( .
ومثل كل الفرق الدينية – السياسية التي نتجت من خلال استغلال مادة الإسلام التراثية، التي تجعل الدين أداة لوصولها للحكم، لم يكن لدى الإنقاذ شيئاً تنقذ به السودان، بل على العكس جاءتْ لتغرقهُ في الأزمات، ويقومُ ذلك على عدم فهم الدين والعصر، وعدم اعتماد هذه الجماعات على أي ركيزة اجتماعية موضوعية، فشكلتْ التعصبَ المزعوم للإسلام والمسلمين، وتصعيد قوانين الردة والعقاب الجماعي (للمرتدين) و(أهل الذمة)، وتبرير قطع الأيدي وغيرها من ترسانة القوى المحافظة المتطرفة، وتحولت تلك إلى حروب للمسيحيين والقوميات الأخرى والديانات المغايرة!
أي أنه في عجز الطبقة السائدة من العسكريين وحرامية الحكم والإقطاع وغيرهم عن تنفيذ سياسة إصلاحية مدنية متطورة، وضعوا أخطاءهم على مشجب الدين، ومزقوا الخريطة الوطنية للسودان.

ولكن الترابي في صعوده الإنقاذي هنا رأيناه في حالتين، الحالة الأولى هي حالة المصاهرة السياسية مع البشير، مثلما استغل المصاهرة الزوجية مع عائلة المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق، فعلى كل مصاهرة هو يصعد، ويقتربُ من حلمهِ الخاص، ومن إنتاج الكوابيس للناس، ومصاهرة البشير قادتهُ للاقتراب الكبير من السلطة الفردية، لكنه لم يصل إليها، فغيّر من قناعته تجاه حزب المؤتمر وحيال حال السودان بكل سهولة، وتلك حالته الثانية التي غدت تشهيراً بالعسكريين والدينيين الشموليين وبضرورة الديمقراطية!

تغير الحال فتغير الخطاب، لم يحتل السلطة، فلا بد أن تتغير المصطلحات والحلفاء ويُدان الرفاقُ الشركاء، والرجلُ قادرٌ على تفتيق الكلام وزخرفته بجدارة، يقول عن البشير الذي صعدهُ للسلطة وشاركَ معه في مسئولية الحكم، حول قضية المحاكمة الراهنة:
(هي مبادئ ونحن في سبيلها ويمكن أن نـُعتقل في سبيلها من قبل ومن بعد والموقف واحد . أولا نحن نؤمن بالعدالة على كل مسؤول في السلطة. لا نعرف حصانات. البلد كله الآن حصانات تحمي المسؤولين. نحن نرفض هذه الحصانات تماماً. ثانيا نحن مع العلاقات الدولية ونؤشر في العلاقات الدولية العلاقات العدلية لان بين أيدي المحكمة الناس سواء. في المنتديات العامة والصراعات السياسية يمكن القول ان الضعيف يُؤكل والعالم كله الآن يعرف من هي الدول الأقوى والدول الأضعف والدول الأفقر. ولكن إذا كانت فيه محكمة في العالم وبدأت تتحول خلافات العالم إلى محاكمات والى قضاء فنحن نقف معها تماماً. والسودان بلد واسع وله جيران عديدة. هو بلد مركب من تركيبات عالمية وهو بلد عالمي أصلا. هذه مبادئ نعلم بها ورأينا أن الحكومة كان ينبغي إذا لم تفصح حصانتها وحريات الناس وحريات القضاء حتى يستقيم السودان. لا بد أن نطلب العدالة في أي مكان كما نطلب الإعانات الاقتصادية والصحية من منظمة الصحة العالمية والمنظمات الخيرية العالمية. جاؤوا الآن وانقلبوا على المنظمات الخيرية وانقلبوا على العدالة الدولية. نظام الحكم بدأ الآن يتشدد في التضييق)، (9، 3، 2009(

تصريحٌ لا غبار عليه في المضمون لكنه يبقى صادرا من زعيم متقلب ذاتي الهوى.


أخبار الخليج 7 ابريل 2009