المنشور

عمودي وأفقي

يمر عالم نبات في غابة، فيرى ورقة صفراء، فيقف عندها ليقول أي شيء عن الصبغة الخضراء التي جفت، وأشياء عن تأثير الضوء في هذه الصبغة، وهكذا. ويمر الأديب بالغابة نفسها، والورقة الصفراء نفسها، ويتأثر بما يرى، فماذا سيقول؟ قائل هذا الكلام أو مؤدي هذا الكلام، هو العلامة العراقي الكبير الراحل علي جواد الطاهر في مطلع كتابه عن النقد الأدبي. إنه كتاب وضع لتلاميذ المدارس العليا وطلبة الجامعة، ولكن هؤلاء لم يكونوا يرمونه حال الوصول إلى البيت، كما يرمون سواه من الأعباء المدرسية، على نحو ما يذهب إلى ذلك أستاذنا د. محمد حسين الأعرجي. إنه كتاب كسر فيه صاحبه رتابة الأدب وتجهمه اللذين يبدوان للطلبة على شكل محفوظات ثقيلة، فإذا به على يد علي جواد الطاهر يبدو سلساً، محبباً، لطيفاً وجذاباً.. كان الطلبة الجدد يختارون الانتساب إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب ليكون الطاهر أستاذهم، كانت أمنية الكثيرين أن يتتلمذوا على يديه، ويسمعوا محاضراته، ويتبادلوا معه الآراء عن قرب على نحو ما يفعل طلبة الجامعة مع أساتذتهم المحبوبين. «ولو كانت الجامعة جامعة لا تلتزم بالأوراق التي تسميها شهادات الأساتذة، لكان سعدي يوسف أولى بهذا الكرسي مني لنسمع رأيه ونناقشه»، قائل هذا الكلام الذي يفيض بالتواضع هو علي جواد الطاهر نفسه، أستاذ النقد والبلاغة الذي ربى أجيالاً من الأساتذة الكبار، وقال هذا الكلام أمام طلابه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة بغداد، وهو يعرض لهم حركة الشعر الحر في العالم، ثم يعرج على هذه الحركة في العالم العربي وفي العراق بصورة خاصة. وهذا القول من أكاديمي صارم مخضرم عرف بالدقة التي كانت تتعب طلبة الدراسات العليا حيث كان يشرف على أطروحاتهم العلمية، يدل على سعة أفقه، وإدراكه أن فضاء الثقافة والإبداع أوسع وأرحب.. لقد درس في «السوربون» وتخرج فيه يوم كان السوربون «سوربوناً» ودرس على يد الشهير ريجيس بلاشير، لكن ذلك لم يمنعه من أن يرى في أستاذ من أساتذة المرحلة الثانوية الذين درسوه بمدينته، مدينة الحلة، مثلاً من الأمثلة في حياته: «درّسنا التاريخ القديم، وكأنه عاش مع السومريين». مرة سجل الشاعر يوسف الصائغ رسالته للماجستير بعنوان «الشعر الحر في العراق منذ نشأته عام 1958» تحت إشراف علي جواد الطاهر، فكان أن قسم الصائغ خطة أطروحته إلى أربعة فصول هي: «السياب، نازك الملائكة، البياتي، بلند الحيدري» وعرضها على أستاذه فاستحسن الخطة، وبعد أن أنجز الطالب أطروحته عرضها على الأستاذ الذي قرأها أول مرة أو مرتين باستحسان، لكنه بعد القراءة الثالثة استدعى الصائغ وفاجأه بالقول: – كتبت راسلتك يا يوسف أفقياً، وينبغي أن تعيد كتابتها عمودياً، كأن تكون: «اللغة، الصورة، الفكر، وما أشبه». كان على الصائغ بعد ذلك، الذي ظن أنه أنجز الأطروحة، أن ينفق سنة أخرى كاملة في إعادة كتابتها، لكن تلك لم تكن سنة ضائعة، إنها سنة للمعرفة بتوجيه الأستاذ العارف.
 
صحيفة الايام
26 مايو 2009