المنشور

حديث في الديمقراطية والمحاصصة والتوافق

كان هناك من يعرّف الديمقراطية بأنها «حكم الشعب بالشعب لمصلحة الشعب». وقد جرى اعتبار هذا التعريف ، على مدى طويل، تعريفاً كلاسيكياً للديمقراطية . غير ان الفقه القانوني تخلى عن هذا التعريف منذ امد بعيد . واتجه الى تعريف الديمقراطية بأنها «حكم الاكثرية « المنبثق عن انتخابات حرة لكل البالغين من ابناء الشعب، الذين لهم حق الانتخاب .مع ضمان حق الاقلية في ممارسة حقوقها الديمقراطية والعمل من اجل ان تكون هي الاكثرية في انتخابات قادمة ، وهذا هو ما استقر عليه الحال في الديمقراطيات العريقة مثل الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والسويد وفرنسا وغيرها من البلدان . إلا ان حكم الاكثرية هذا واجه صعوبات جدية في البلدان المتعددة القوميات والاديان والمذاهب، حتى في بلدان اوروبية متطورة ديمقراطياً. وخير مثال على هذه الحالة دولة بلجيكا. ذلك ان دستورها ، وهو احدث دستور اوروبي ،إذ جرى تشريعه في العام 1993 ، وجرت عليه تعديلات جاوزت العشرة منذ اقراره حتى الآن ، ينص في مواضع اساسية فيه على ان شعبها يتألف من اربع مجموعات قومية . وينبغي ان تراعى هذه التعددية في ادارة الحكم وتشكيل هيئات السلطة التنفيذية حفاظاًعلى حق كل مكوّن من مكونات الشعب في المشاركة في السلطة، وادارة شؤون المكون القومي الخاصة . جئت على ذكر هذه المقدمة تمهيداً لتناول الوضع في العراق في ضوء الجدل المثار بسبب تصريحات السيد المالكي رئيس الوزراء ، وتداعياتها في الحقل السياسي العراقي ، ابتداءً من رئيس الجمهورية مروراً بالعديد من الكتل السياسية ، التي رأت في ما طرحه رئيس الوزراء امراً خطيراً لاينسجم مع الواقع العراقي ، غير المؤهل في الظروف الحالية ، لتطبيق حكم الاكثرية ، بشكل مجرد ، من دون مراعاة ما درجت عليه العملية السياسية في العراق حتى الآن .وما جرى إدراجه في الدستور لمنع امكانية احتكار السلطة ، بإسم اليمقراطية والاستحقاق الانتخابي من قبل مكون واحد من مكونات الشعب العراقي ،القومية اوالدينية اوالمذهبية. وقد ترسخ هذا الفهم ، اي ضرورة اشتراك كل مكنونات الشعب العراقي في العملية السياسية وفي ممارسة السلطة التنفيذية (اي الحكومة) ما دام العراق يعيش فترة انتقالية تستوجب التوافق بين هذه المكونات . هذه الفترة التي قد تطول نسبياً بسبب السياسة الامريكية التي اعتبرت الشعب العراقي، منذ ما قبل اسقاط النظام السابق : سنة وشيعة واكراد ، وليس قوى سياسية واتجاهات فكرية ، لا تتأسس على اساس ديني او مذهبي او قومي ، وبسبب ما خلفته تدابير المحتل التي نفذها بريمر ، إذ جعل من مبدأ التوافق،المطلوب في الفترة الانتقالية ، محاصصة صارمة ما زالت العملية السياسية تعاني منها اشد المعاناة حتى الآن . وبسبب من هذا الفهم قوبلت تصريحات السيد القبانجي خطيب صلاة الجمعة في النجف الاشرف ، واحد القياديين في المجلس الاعلى الاسلامي ، قبل حوالي الاسبوع، التي دعا فيها الى تولي الشيعة للحكم في العراق بإعتبارهم اكثرية الشعب ، بالرفض الواسع من قبل غالبية القوى السياسية ، إن لم يكن كلها ، الامر الذي اضطر المجلس الاعلى الى محاولة ازالة تأثيرها السيء على الرأي العام بالقول انه جرى فهمها بشكل خاطىء. وحسناً ما اقدمت عليه مرجعية السيد السيستاني برفض ماطرحه السيد القبانجي ، والقول بأن الاكثرية التي يحق لها ان تحكم هي الاكثرية السياسية وليس المذهبية . ولئن كان مبدأ التوافق مطلوباً في البلدان المتطورة المتعددة القوميات والأديان والمذاهب كبلجيكا ، فهو مطلوب بشكل اكثر الحاحاً في البلدان من هذا النوع في بداية سيرها لبناء ديمقراطياتها الخاصة المتلائمة مع ظروفها الملموسة . سواء اكانت هذه البلدان قد تخلصت من السيطرة الاستعمارية أو من حكم دكتاتوري بشع دام عدة عقود من السنين ولم يسبق لها ان مارست حقوقها الديمقراطية ، كما هو حال العراق اليوم . ولذا فإن الدعوة الى اقامة النظام الرئاسي وإعتماد الاستحقاق الانتخابي وحده ، كما يريد السيد المالكي ، ربما تجد مبرراتها كوجهة نظر ، غير انها ، قطعاً، لا تلائم ظروف العراق حالياً، ومن حق معارضيها، وبعضهم يرى فيها نزعة انفرادية ، ان لم تكن ديكتاتورية في نظر هذا البعض ، التشكك في الدوافع لطرح هذا الموضوع ، بدلاً من معالجة الخلافات القائمة بين القوى السياسية عن طريق الحوار البناء ، وجعل مصلحة الشعب وتطور العملية السياسية فوق كل اعتبار . غير ان ضرورة اعتماد مبدأ التوافق ، ومشاركة كل مكونات الشعب في ادارة شؤون البلاد ، ينبغي ان لا تتحول من قبل البعض ، انطلاقاً من مصالح فئوية او مذهبية ضيقة ، الى وسيلة لعرقلة العمل من اجل استكمال اسس النظام الديمقراطي الإتحادي التعددي للعراق الموحد المستقل، وإعمار الخراب الذي سببه الحكم الدكتاتوري وحروبه ضد الشعب والجيران والاشقاء والحصار الظالم الذي طال ثلاثة عشر عاماً ، والاحتلال البغيض وتخريبات الارهابيين والفساد الاداري والمالي الذي استشرى في جميع اجهزة الدولة .وان من حق الشعب ان يطالب القوى السياسية المتنفذة التي تلعن الطائفية والمحاصصة الطائفية ، ان تتخلى عن لعنها قولاً وتتمسك بها فعلاً.
 
صحيفة الايام
3 يونيو 2009