المنشور

هل تتحول كندا عن السوق الأمريكية الحمائية

السوق أنشأ المدن باستقطابه جموع الباحثين عن ما أسماه عباقرة اقتصاد نهاية القرن التاسع عشر بالمنفعة الحدية‮ (‬أي‮ ‬نقطة التعادل التي‮ ‬يتوافق عليها البائع والمشتري‮) ‬لعوامل الإنتاج الثلاثة الرئيسية‮ (‬العمل والأرض ورأس المال‮).‬ والسوق بهذا المعنى هو نقطة ارتكاز ونشوء علاقات الإنتاج والعلاقات المجتمعية بشكل عام‮. ‬ينطبق ذلك على الصعيد الوطني‮ ‬وعلى الصعيد فوق الوطني‮ ‬على حد سواء‮. ‬حيث تبدأ السوق حركة التوسع خارج نطاق حدودها الجغرافية الداخلية لتطاول الحدود والعمق الجغرافيين المجاورين،‮ ‬فكان نشوء الأسواق الإقليمية والدولية البالغة الاتساع والمزدحمة بالمنخرطين في‮ ‬شراكاتها ومعاملاتها‮.‬ السوق بهذا المعنى‮ ‬يتمـدد جغرافياً‮ ‬وفقـاً‮ ‬لإيقـاع‮ ‘‬التطـور المتدرج‮’ ‬‭(‬Gradual evolution‭)‬‮ ‬وليس بإيقاع القفزات،‮ ‬كما هو متاح بالنسبة لمعدلات النمو الاقتصادي‮ ‬الانفجاري‮ ‬مثلاً‮. ‬من هنا‮ ‬يأتي‮ ‬تفسير قوة العلاقات بين رواد الأسواق المتجاورة جغرافياً‮ ‬وتناميها عبر الزمن وصولاً‮ ‬إلى حالة من التكامل الاقتصادي‮ ‬الطبيعي‮ ‬حتى وإن لم‮ ‬يجر تتويجه وتقنينه في‮ ‬صورة تجمع اقتصادي‮ ‬إقليمي‮. ‬فمن الطبيعي‮ ‬مثلاً‮ ‬أن‮ ‬يكون تواصل وتداخل السوق اللبنانية مع السوق السورية،‮ ‬وهذه الأخيرة مع السوق العراقية أكثر من تواصلها مع الأسواق العربية الأبعد جغرافيا نسبياً،‮ ‬وكذا الحال بالنسبة للسوقين البحريني‮ ‬والسعودي‮.. ‬وهكذا‮…‬ ولعل الشيء نفسه‮ ‬ينطبق على بقية بلدان الأقاليم العالمية المختلفة،‮ ‬ومنها العلاقة بين السوقين الأمريكي‮ ‬والكندي‮. ‬حيث استوردت الولايات المتحدة في‮ ‬العام الماضي‮ ‬5‭,‬75٪‮ ‬من الصادرات الكندية،‮ ‬فيما شكلت صادراتها إلى كندا نسبة‮ ‬4‭,‬63٪‮ ‬من إجمالي‮ ‬صادراتها‮.‬ بيد أنه في‮ ‬زمن الاتصال العميق والمتعاظم للأسواق العالمية بفضل وسائل المواصلات والاتصالات الحديثة،‮ ‬فإن الدول بدأت تفكر في‮ ‬إعادة النظر في‮ ‬هذا الواقع الجيواقتصادي‮ ‬الذي‮ ‬أملته في‮ ‬العقود الماضية ظروف التقسيم الدولي‮ ‬للعمل في‮ ‬صورته التجارية الكلاسيكية،‮ ‬وذلك من أجل تنويع تجارتها جغرافياً‮ ‬وتقليل ارتهانها إلى سوق بعينها بكل ما تشكله من تقلبات وتذبذبات‮.‬ وعلى ذلك فإن كندا هي‮ ‬اليوم بصدد إعادة النظر في‮ ‬جغرافية تجارتها الخارجية بما‮ ‬يشمل ذلك مغادرة مواقع ارتهان صادراتها ووارداتها‮ (‬بنسبة الثلثين تقريباً‮) ‬إلى سوق واحدة بعينها هي‮ ‬السوق الأمريكية،‮ ‬بالعمل على إنشاء شراكات إستراتيجية مع مراكز اقتصادية عالمية قيادية من وزن الاتحاد الأوروبي‮ ‬مثلاً‮.‬ وبالفعل فقد أطلقت كندا في‮ ‬السادس من مايو الماضي‮ ‬جولة مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬للتوصل إلى اتفاق تجاري‮ ‬ثنائي‮ ‬‭(‬Bilateral Trade Agreement‭)‬‮ ‬ربما تكون على شكل اتفاقية تجارة حرة‮ ‬‭(‬FTA‭)‬‮ ‬يتم فيها تصفير الضرائب الجمركية على سلة من سلع التجارة البينية في‮ ‬مرحلة أولى وتخفيض مستوى سلة أخرى في‮ ‬مرحلة ثانية توطئة لتصفيرها في‮ ‬مرحلة تالية،‮ ‬وتحرير عدد من أنشطة قطاع التجارة في‮ ‬الخدمات‮ .. ‬وهكذا‮.. ‬بما‮ ‬يفتح الطريق لتعظيم التجارة البينية بين الطرفين وتحويل كل منهما إلى شريك تجاري‮ ‬رئيسي‮ ‬بالنسبة للآخر‮.‬ جدير بالذكر أن التجارة البينية للطرفين تبلغ‮ ‬حالياً‮ ‬103‮ ‬مليار دولار وذلك مقارنة بتجارة الاتحاد الأوروبي‮ ‬مع الصين التي‮ ‬تبلغ‮ ‬أكثر من‮ ‬5‮ ‬أضعاف ما هو مع كندا وعشرة أضعاف ما هو مع أمريكا‮.‬ ولذا‮ ‬يُتوقع أن‮ ‬يساهم الاتفاق التجاري‮ ‬الثنائي‮ ‬إذا ما أُبرم بين الطرفين في‮ ‬زيادة حجم تبادلهما التجاري‮ ‬بواقع‮ ‬25‮ ‬مليار دولار سنوياً‮.‬ ولكن وكما‮ ‬يقال فإن بدء المفاوضات التجارية أسهل كثيراً‮ ‬من إنهائها،‮ ‬إذ‮ ‬يُتوقع أن تستمر مفاوضات الطرفين لإبرام الاتفاق‮ ‬7‮ ‬سنوات،‮ ‬وهو السقف الزمني‮ ‬الذي‮ ‬وضعاه لنفسيهما،‮ ‬رغم أن معظم سلع التجارة البينية للطرفين معفية من الضرائب الجمركية،‮ ‬إلا أن بعض السلع لاسيما السلع الزراعية سوف تشكل المعوق الأساس أمام تقدم المفاوضات بين الطرفين‮.‬ كندا بفتحها خط مفاوضات لإبرام اتفاق تجاري‮ ‬ثنائي‮ ‬مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬تريد تجاوز المشاكل التي‮ ‬تسببها النزعة الحمائية التي‮ ‬انطلقت في‮ ‬الولايات المتحدة على خلفية الأزمة المالية/الاقتصادية والتي‮ ‬اتخذت لها شعار‮ ‘‬اشتر المنتجات الأمريكية‮’.‬ والولايات المتحدة بدورها شعرت بوطء هذا التحرك فطالب الاتحاد الوطني‮ ‬للمصنعين‮ ‬‭(‬The National Association Manufacturers‭)‬‮ ‬الرئيس أوباما بالإسراع في‮ ‬فتح جولة مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬لإبرام اتفاقية تجارة حرة معه وإلا المجازفة ببقاء الولايات المتحدة وحيدة في‮ ‬تجمع منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية الذي‮ ‬يضم أيضاً‮ ‬كندا والمكسيك،‮ ‬لا تتمتع بمثل هذا الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي،‮ ‬حيث كانت المكسيك قد وقعت اتفاق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬‭         2000.