المنشور

السلام الهـش في الخليج


لم يستطع الخليج أن يتكون كدولٍ قوية مستقلة تفرض نفسها على العالم، وجاء تدفق النفط وهي كياناتٌ صغيرة مفتتة، فقفزتْ إلى المسرح العالمي فجأة، لتتحول لأكبر مشترية نهمة، وأكبر سوق يُطمع فيها، وأوسع بلاد تجلب قوى العمل وتضعف عن تجديد وتوسيع قواها العاملة، مع أبنية إدارية مترهلة تستجيبُ ببطءِ معوقٍ في سباق الحواجز العالمي.

وتفجرتْ حروبٌ عديدة لم تصبها فيها سوى شظايا، رغم خسائرها المادية الجسيمة، وتحول خليجها إلى مستنقع زيتي تنفق فيه الأسماك، حتى غدت شعوبها العاملة تسمع بالثروة من دون أن تراها، حتى غدا شبح الحرب يحومُ عليها مثل الشيطان، طامعاً في رؤية خرائبها الكلية التامة.

قام العالمُ الحربي على ايديولوجيات دينية قتالية حديثة وشيئاً فشيئاً أحاطتْ هذه الايديولوجياتُ الدينية بالخليج وقاربتهُ وراحتْ تهزهُ برعبٍ ومعها حشودٌ هائلة من السفن الحربية والغواصات والصواريخ والجنود.

العقيدة الروسية الاشتراكية السابقة عادت للمذهبية القديمة، الارثوذكسية، معبرة عن فشلِ الليبرالية والاشتراكية في التحول لنظامٍ ديمقراطي حقيقي في روسيا، مبينة أن الدولة الشمولية لاتزال تاجر سلاح خطرا على العالم.

إنها تجعلُ السلاحَ النووي والأسلحة الفتاكة الأخرى التي تطورت فيها على حسابِ تعذيب واستغلال الكادحين السوفيت، أداة للتجارة الرابحة والتلاعب السياسي بمصائر الأمم.

وكان التقاؤها إيران يوضحُ تقارب الشموليات العسكرية، والأصل المشترك للجنون الاجتماعي الآسيوي، وللعقائد القروسطية التي صِيغتْ من خلال الطبقات القديمة والكهنوت، وعجز هاتين الأمتين الشرقيتين عن مقاربةِ الأمم الحديثة الغربية، في البناء الديمقراطي وصياغة المجد الحديث بسلع السلام المتطورة وليس بالصواريخ والغازات السامة.

في إيران كانت المذهبية الدينية هي تعبيرٌ عن هذا الاختلاط بين الهوى القومي الجامح ومفرداتِ عقيدةٍ إنسانية كفاحية تم استخدامها من قبل ملاك الأرض المتخلفين وتجار البازار الطموحين الذين عجزوا عن التحول لمنتجي مصانع متطورين أحرار.

الهوى القومي الجامح لكلِ من الأمتين لابد أن يلامسَ الكثيرَ من الموادِ الأرضية الهتلرية. لكل أمةٍ طموحٍ متعصبةٍ تريدُ أن تقفزَ على وضعها المتخلف، وأن تتجاوز إمكانياتها الاقتصادية والفكرية، وأن تنتزعَ من السوق مساحة أكبر من قواها الإنتاجية، مغامراتٌ سياسية وفكرية خطرة، فهي تقدم في لحظة أفكارها “الثورية” لتضعَ نفسها في مكانةٍ أكبر من حجمها، وتدعي الإطاحة بالأنظمة القديمة، وجلب الأنظمة الجديدة، أنظمة المساواة والدين الحق والمذهب الحق.

وفي لحظة أخرى تصيرُ تاجرة تقدم بناتها وأسلحتها وكتبها الصفراء بضاعة تفرض بها مكانة عالية أكبر من قامتها.

واليهودية لم تستطعْ أن تصيرَ هي الأخرى ديمقراطية في ثوبها الصهيوني. في آخر طبعةٍ لها تريد أن تكون يهودية توسعية تتفرد بالأرض وتطرد السكان، ولم تستطع ثقافة الديمقراطية أن تنتشرَ إنسانيا وتصهرَ المجموعات الدينية الخرافية المتصارعة في كيانٍ عقلاني. وقد غذت المجموعاتُ الدينية والقومية العربية المتطرفة عدم الذوبان هذا في برنامج هزائم مستمر بين الدونكيشوتية والحجاجية.

البروتستانتية الغربية الأمريكية خاصة التي تعملقت لتكون هي أكثر الرأسماليات تطوراً وصناعة، توقفتْ عن التطور كنزعةٍ إنسانية ديمقراطية، وقدمتْ للصهيونية الأسلحة والانتصارات والتوسع، وحوطتْ الخليجَ بالقواعد، وأبقته في تلاله الصفراء التراثية يحول الإبلَ إلى سيارات فورد، واستنزفتْ نفطه ومدخراته بنهم شديد ضار.
الخليج هو البقرة الصفراء الفاقعُ لونها الذهبي، السمينة التي تنتظرها السلعُ وصررُ البرسيم والسكاكين.

المذهبية السنية لم تتطور كثيراً بين رمالها ومدنها الصغيرة ولم تستطع التوحيد الصناعي لها، ولم تقدر على مشروع تحريرها، وبقيت مفتتة في مدارس شبه أمية، مقطوعةٍ عن فهمِ العملياتِ التاريخية المعقدة، وبالتالي عجزتْ أن ترتفع لمهماتٍ كبرى لم تتهيأ لها، فتنطعتْ “القاعدة” لذلك، عبر مشروع دموي بسيط قائم على ايديولوجية الذبح، مستعيرة من الخليجِ نقودهِ ومن الغرب أسلحته، ومن الشرق المستبد مؤامراته، ومن العراق تفتته، ومن الجزيرة العربية وبطء توحدها وعصرنتها وغياب تصنيعها وديمقراطيتها.

ثمة عالم من الرعب تؤثثهُ جبالٌ من الأسلحة ينتظر أي مغامر مجنون لكي ينفجر، تحالفات متشابكة، متوارية، متقاطعة، وتناقضات أغرب للخيال والكوابيس، ومثل تحالفات الحرب العالمية الأولى ربما تنتظر اغتيال أرشيدوق في ظل دبلوماسيات متحجرة، وبلاهات شعبية طالعة توا من عصور التمائم والسحرة، وأنظمة حربية غربية تركز بقوة في تدفق سوائل النفط لا سوائل الدم.

لم تستطع ضفتا الخليج عبر العصور أن تقيما لغة حوار، فهما في مواجهات مستمرة حالما تنبعث أي نزعة قومية أو نزعة دينية، فتنداح على الضفة الأخرى حرباً وتوسعاً ومواجهة.

ليست للضفتين قدرات على تصعيد لغة التجارة والتبادل الثقافي والتبادل السياحي وتنشيط عملية السلام، بل هما تنتظران عالم الدخان لكي تتأسفا على ما فات وتعيشا ترممان المدن وتدفنان الضحايا.

 
أخبار الخليج 27 سبتمبر 2009