المنشور

من تاريخنا الاجتماعي.. طبعة البلاد القديم (2)

أحسن مؤلف كتاب “طبعة البلاد القديم” الدكتور عبدالعزيز حمزة صنعا حينما اعتمد المفردة العامية الفصحى الشائعة نفسها في الخليج “طبعة” بمعنى غرق اي سفينة بالماء أثناء ابحارها، وان كان الأفضل لو وضع عنوانا فرعيا صغيرا اسفلها على نحو “قصة غرق سفينة بحرينية في البحرين عام 1949″، او ما شابه ذلك لكي يكون عنوان الكتاب كمرجع لافتا ودالا لغير البحرينيين من الباحثين العرب وغير العرب ممن يجيدون العربية، على محتوى موضوعه. فمن المؤسف ان كل شعب عربي يختص بعدد من المفردات العامية الفصحى المهجورة التي تعتقد ليس الشعوب العربية الاخرى أنها عامية فحسب، بل حتى الشعب العربي ذاته المعني بتلك المفردات.
فالطبعة، كما نعلم، هي مفردة عربية فصحى مشتقة من الفعل “طبع” الذي من معانيه ملأ الاناء وافاضه، وتطبع النهر بالماء: فاض به من جوانبه وتدفق. وهذا ما ينطبق تماما على معنى تطبع السفينة بالماء عند غرقها وقت الابحار لأي سبب طارئ كان.
والحال ثمة مفردات عامية عديدة فصيحة يجرى هجرها توهما بأنها عامية بفعل سطوة الاعلام العربي المعاصر ولغة النخبة المثقفة الانتقائية وبضمنها مفردات تتصل بالماء والبحر ذاتهما، حسبنا ان نتذكر سريعا في هذه العجالة على سبيل المثال لا الحصر “السيف” بمعنى الساحل او الشاطئ، والفرضة بمعنى المرسى او الميناء، والسباحة بمعنى الاستحمام، وان كانت تأخذ هذه المفردة على سبيل التجويز او التغليب.
حينما استضافني الدكتور عبدالعزيز حمزة في امسية رمضانية جميلة بحضور الصديق الدكتور عبدالعزيز حسن الشعباني والدكتور رياض حمزة، وشرح لي الاسباب التي حملته على تأليف هذا الكتاب لتوثيق هذه الكارثة تاريخيا، ولمست عن كثب الجهود الجبارة التي بذلها بالتعاون مع فريق العمل الذي مده بالمساعدة في تحقيق هذا الانجاز الكبير كتابا وفيلما، وحيث اطلعني في تلك الامسية ايضا على لقطات موسعة من هذا الفيلم الوثائقي الرائع، كان من ضمن الاسئلة والاستفسارات العديدة التي امطرته بها عما اذا هو متأكد حقا أن “الطبعة الكبرى” قد وقعت عام 1925، رغم ترجيحي معه أنها وقعت بالفعل في هذه السنة، ذلك ان مؤلف “معجم الالفاظ العامية في دولة الامارات العربية المتحدة” الاستاذ فالح حنظل ينقل عن مؤلف كتاب “تاريخ الكويت” الشيخ القناعي أن سنة الطبعة كانت في عام 1288هـ، اي قبل نحو قرن وتحديدا خلال القرن الـ 19 الميلادي.
ولكن الراجح، بل المؤكد ان الطبعة الكبرى المقصودة هي التي يتذكرها جيدا البحرينيون والخليجيون الا هي طبعة 1925، اذ من المشكوك فيه ان تكون ذاكرتهم بتلك القوة في استعادة مرويات وقائعها وقد مضى عليها أكثر من مائة عام، وبخاصة ان المؤلف حمزة استطاع ان يعتمد على وثائق تدل على دقة تاريخ الطبعة مثل تقارير الدكتور بندكار الذي اشرف على اول عيادة حكومية في البحرين، وكتاب سعد بن عبدالعزيز السيف “حادثة سنة الطبعة”، وقصيدة للشاعر البحريني عبدالرحمن بن عبدالله الذي توفي عام 1975، ولربما ثمة طبعة اخرى وقعت في القرن الـ 19 هي التي قصدها الشيخ القناعي.
ومع ان كتاب “طبعة البلاد القديم” استطاع مؤلفه ان يوثق الكارثة التي نكبت بها القرية توثيقا يبدد اي شكوك سواء من حيث صحة تاريخها او من حيث الوصول الى اقرب صورة لمشاهد وقائعها وتداعياتها الفاجعة، الا انه في تقديري لولا لهث المؤلف على الايفاء بوعده للأهالي على انجاز الكتاب بحلول الذكرى الستين للطبعة لأمكنه، بمزيد من الصبر وتكثيف الجهود في عملية التنقيب عن الوثائق، الحصول على وثائق اخرى غير التي حصل عليها مهما بدا الامر له للوهلة الاولى انه شاق عسير، أو انه وصل الى طريق مسدود، اي ليس هناك فرصة للحصول على وثائق اكثر مما حصل عليه بعد كل ما بذله من جهد مضن. فمع ان هذا الجهد هو بلا شك كبير ومضن حقا لكن طبيعة البحث التاريخي لتوثيق الاحداث المهمة تقتضي الصبر الطويل للحصول على اكبر قدر ممكن من الوثائق والمصادر دونما الاكتفاء بتغليب المرويات الشفهية، رغم ادراكنا أهميتها هي الاخرى لتسجيل هذا النوع من الاحداث التاريخية، اي المتصلة تحديدا بالكوارث البشرية.
ومن الغريب شح وثائق كارثة طبعة البلاد القديم رغم انها قد وقعت بعد مضي 30 عاما على انطلاقة وتأسيس التعليم النظامي في البحرين بما في ذلك وجود ثاني مدرسة اهلية غدت حكومية في القرية نفسها (مدرسة المباركة العلوية سابقا، الخميس حاليا) ومن ثم وجود نسبة معقولة – كما يفترض – من المتعلمين من ابناء القرية، هذا فضلا عن وجود ادارة مدنية حكومية منذ العشرينيات.
اكثر من ذلك فإنه على الرغم مما كتب عن البلاد القديم، سواء في بعض المؤلفات بشكل عابر او مفصل ام في الصحف والمجلات، فإن لا احد من نخبة القرية المثقفة والمتعلمة التي اتسعت في العشرين السنة الماضية قد خطر بباله ان يكتب او يؤرخ شيئا عن هذا الحادث المأساوي الفاجع البالغ الاهمية في تاريخ القرية الاجتماعي، وهنا تتجلى بالضبط مأثرة مؤلف الكتاب العلمية الوطنية التي يدين اهل القرية له بالفضل فيها، فضلا عن البحرينيين كافة باعتبارها جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الاجتماعي البحريني العام.

صحيفة اخبار الخليج
29 سبتمبر 2009