المنشور

دلالات أفكار عبدالكريم سروش (4-4)

تتلحف آراءُ عبدالكريم سروش بباطنية صوفية ومنهجية غربية برجوازية في توليفة متضادة انتقائية، تجوهرُ الدينَ في ناحيةٍ بدلاً من درسهِ في تطوره الصراع الاجتماعي، وتسطحهُ في جانبٍ آخر، فتجعله ميتافيزيقيا في صورهِ المفارقةِ الكبرى، وتعقلنهُ في حراكه الاجتماعي المحدود. تبقيهِ في حضن الإقطاع من جهة، وتضعهُ على أيدي الفئات الوسطى الضعيفة الناشئة في المدن، كالفئات الوسطى الهشة الضعيفة في القرون السابقة العربية الإسلامية، ليست معها المداخيل الكبيرة لتضعها في الصناعة، وتصنع الحداثة.
“الشيءُ في ذاته” لدى كانط الفيلسوف الألماني هو الإقطاعُ في نسيجه، هو ضعف الصناعة الألمانية، والإيرانية، هو التقسيم بين السماء والأرض، بين الحكام المطلقين والشعب الخادم، هو التحديث الذي يتم بكرباج العسكر البروسي وعصي الحرس “الثوري” مع كل المغامرات المحفوفة بالمخاطر على البشرية.
“الشيءُ في ذاته” غيرُ المدرك، اللغزُ السحري الصوفي، هو الذي خلقَ الثنائيات الفكرية العصرية، ومزقَ الظاهرة المدركة عقليا، بين عمقٍ لا يُعرف وسطحٍ متغيرٍ يُعرفُ باستمرار الأدوات المعرفية الجديدة، الذي خلق ثنائية أخرى بين علومٍ من السادة وعلومٍ من العبيد، علومٌ تنتجُ معرفة جديدة وعلومُ تستقبلُ المعارفَ الجديدة ولا تصنعها.
مقاربة إيران القرنين العشرين والواحد والعشرين مع ألمانيا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تتجلى في أزمة تطور الريف، بوجود ملايين خارج الإنتاج الحديث، وبوجود فئات وسطى مدنية عاجزة عن إقامة تحالف مع الفلاحين والعمال.
وهو العَرضُ الإسلامي، الملازم لجوهرية غياب الصناعة الحرة، وهيمنة الحكومات الاستبدادية، ويتشكل عَرضٌ ثقافي ايديولوجي لدى منتجي الأفكار في الفئات الوسطى العائشة في هذا السديم، أن يجتروا ما قاله السابقون، ويبقوا الثنائيات المتضادة أبداً: قديم/جديد، جوهر/عرض، دين/ حداثة، الخ.
وفي حراك الفئات الوسطى الإيرانية الأخير الذي كشف صراعاتها في الحكم مع مؤسسات الرأسمالية الحكومية المسيطرة، التي تندفع في خطابات دينية عتيقة، تعبرُ عن مخلفاتِ الإقطاع الهائلة في الحكم والإنتاج، فلا تعي أهمية تحرير هذه المؤسسات من الشبكة العنكبوتية الاستغلالية البيروقراطية الخاصة المتظاهرة بأنها عامة، كما يجري في الكثير من الدول العربية الإسلامية ودول الشرق عامة، لتقوم بتغيير اقتصادي “نهضوي” ديمقراطي شامل.
في هذه المناخات يفترض لا أن نعرف ما هو الجوهر والعرض، بل أن ندرسَ ما هي البنية الاجتماعية الإيرانية.
أن نعرف ما هو “النهضوي” الديمقراطي في الريف وفي حياة النساء والمدن وفي الثقافة والعلاقات بين السلطات والناس، الذي هو الجوهر الذي نبني عليه.
لكن منهجية الصوفية والكانطية والوضعية هي تعبيرٌ عن غياب الإسلامية الثورية المستقاة من التأسيس المحمدي، ودخولها في ثنائيات الانتهازية الفكرية والتعبيرية، الاستيرادية، للفئات التجارية، لكنها كانت من نسيج هذه الاستيرادية الاستغلالية للكادحين الإيرانيين، فتريد أن تحافظ على “الشيء في ذاته”، على المطلق السياسي، على الدين كقوةِ هيمنةٍ متعالية، غيرِ مُدركة ولا مُحللة، على الجوهر غير المنازع في سلطانه، وتتركُ الأعراضَ للعاملين.
فلم تتوجه لدرس قوانين البنية الاجتماعية، فتكشفُ الأزماتَ المحتملة من بناءٍ يسيرُ عبر جوهر استبدادي كهذا، لكونها جزءا منه، لم تستطعْ الانفصالَ وتكوين منهج آخر، لا يفرق بين القانون وظاهراته، ويقرأ الظاهرات وسببياتها وتطوراتها، من دون فصل بين جوهر وعرض.
والآن حين تتفجر الظاهرة لا تـَعرفُ أسبابها كذلك، تحيلـُها إلى صراع الحرية والاستبداد، تحيلـُها إلى ظاهرةٍ معلقةٍ في الفضاء، وهذا التفكيرُ جزءٌ من استمرارها في عالم الطبقة التي تضعُ قدماً في الإقطاع وقدماً أخرى في البرجوازية، ولن تستطيع القفزة إلا عبر العسكرة وتحويل الفلاحين بالقوة إلى عمال ونشر الصناعة عبر الجيش.
أي هي بروسية أخرى، وهنا مجموعة من البسماركات الماشين فوق الدبابات والصواريخ، والخوف أن يحدث القفز إلى هتلر دفعة واحدة مع ظهور عباءة المهدي المسروقة فوق أكتافه.
إن الثورة الخضراء يُفترضُ أن ترتفع عن هذا التجريد والرومانسية وعن بكائيات وصرخات عبدالكريم سروش في رسالته للمرشد وتلتحم بالفلاحين خاصة الذين افتقدوا الأرض والسلام والتنمية وتكدسوا في المدن، فيكفي للديمقراطيين الإيرانيين التهويمات الغيبية والتجريدية ولينزلوا للأرض الواقعية، أرض الصراعات الاجتماعية الحقيقية.
ونجد نموذجاً لهذا التضييع للفرص الجدالية العميقة رسالة سروش للمرشد الأعلى للجمهورية السيد خامنئي في الأحداث الأخيرة فقد حول عبدالكريم الخطاب البلاغي المليء بالصور التراجيدية المعبرة والرافعة لقيم الحرية إلى السماء إلى خطاب تقريع وصرخات وبكائيات وكراهية شخصية بدلاً من أن يستغله في عرض الواقع الموضوعي ويحلل مخاطر تصاعد القوى العسكرية وتضييع ثروات إيران على التسلح والمجابهات، وأهمية أن تعود هذه الأموال الكبيرة إلى تطوير حياة الفقراء وإلى الصناعات السلمية وإلى ضرورة تعزيز الديمقراطية وغيرها من الموضوعات المحورية في حياة الشعب الإيراني الراهنة.
على كلٍ فالباحث عبدالكريم سروش له اجتهادات كثيرة وأبحاث عديدة وهو قيمة ثقافية إيرانية كبيرة ولم نوجه الرصد سوى لجوانب منها.

صحيفة اخبار الخليج
5 اكتوبر 2009