المنشور

الصين وستون عاماً من الثورة

 - 1949. قبل تلك القراءات الثورية لم تكن الصين لنا تاريخيا إلا مجرد إمبراطورية عظمى في الشرق ’ بلد الحرير والحكمة والتجارة والسور العظيم. وفي القرن العشرين ’ قرأنا الثورات الكبرى والحروب الأهلية والتحررية ’ والمواجهات العنيفة بين الثورة وأعدائها ’ تعلمنا كيف كان العالم يقف عند مفترق الطريق بين مسارين عالميين ’ الرأسمالية والاشتراكية ’ وعلينا أن نختار طريقنا الجديد. لم تسعفنا طفولتنا ملاحقة ومعايشة فترة الخمسينات ومنتصفها لإدراك حالة الانشقاق والتصادم بين موسكو – وبكين ’ والذي بدأ طلاقه الرفاقي بالتدريج منذ فترة اختلافات الكومنتيرن حتى انحلاله. هذا الانشقاق الكبير ساهم في تدمير وتمزيق الحركة الثورية العالمية وحركات التحرر ووحدة الطبقة العاملة العالمية. في مثل هذه التربة العالمية الجديدة وجدت نفسي اكتشف العالم الإيديولوجي والفلسفي المعقد ’ حيث لم تتح لنا تلك الحقبة دراسته بالعمق ’ ومعرفة الأخطاء العميقة التي قادت القوتين موسكو- وبكين إلى مفترق الطرق فأوهنت بالحركة الشيوعية العالمية. أتذكر صوته الرفيق بو قيس في القاهرة في أكتوبر من العام 1969 ’ عندما قال لي وأنا في ريعان الشباب ’ بتروح معاي لحفلة السفارة الصينية ’ الذكرى العشرين لانتصار الثورة ’ ففرحت للفكرة ولكن كيف سيكون مناخ المناسبة؟ وماذا البس لمثل هذه المناسبة ؟ ’ وأنا حتى تلك اللحظة ببنطلون المخمل واللحية الجيفارية ’إذ لم ارتد في حياتي بدلة ؟! وكعادته بو قيس ضحك بتلك النبرة المحببة قائلا : ’’ جماعتنا كلهم لابسين كاكي ولا يهتمون كثيرا بما يلبسه ممثلو حركات التحرر الوطني. في فناء السفارة الواسع وبطقس أكتوبر الجميل في ليل القاهرة ’ تنقلت عيني بدهشة الشاب الذي غادر وكره الصغير عنوة ’ حاملا حقيبته مطرودا. كنا أكثر من اثنين في تلك المناسبة ’ وكان هناك رفاق من الجبهة الشعبية ’ وهناك تعرفت على ممثلي مكاتب حركات التحرر الوطني ’ ولكن المكان ليس مكاني فماذا افعل وخجلي السياسي يسيطر على تجربتي المتواضعة ’ والتي كانت محصورة ومحدودة بالوضع الداخلي في البحرين ’ فيما راحت أضواء الاحتفال وقرع الكؤوس ورائحة المساء تأتي من بعيد ’ وكان بوقيس كالنحلة يتنقل ويمازح من يعرفه بكل بساطته ناسجا علاقات كثيرة اقتضتها رسالته السياسية والحزبية. كان على الصينيين يومها معرفة بلد صغير من جوانب غير دبلوماسية ’ فقد بدا الخليج لهم مركزا حيويا في خارطة العالم ’ فكانت عيونهم على ثورة ظفار واليمن الجنوبي مثلما عينهم على المملكة العربية السعودية ’ وعلى كل القارات الثلاث من العالم الثالث دون تمييز ’ فهو يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن تنظير تناقضات الصراع الدائر بين حركات التحرر الوطني – والرأسمالية العالمية. كانت أول مرة لي ادخل فيها احتفالا لسفارة ’ ولم تتكرر إلا في عام 1998 ’ في ابوظبي بعد أن تعرفت في جريدة الاتحاد على الصديق الصيني’’ إخوان ’’ الذي كان يتردد علينا في قسم الدراسات الدولية . لن أتحدث هنا عن دماثة الشخص وعلاقته بالعرب وبنا لكي لا أوصف بالانحياز والعاطفية ’ فكل شخص إما أن يجعلك تحب شعبه من خلال سلوكه الشخصي معك أو يجعلك تكره البلد برمتها لطالما كان شعبها على شاكلته. كان علي أن أعود إلى البحرين عام 2000 مع المشروع الإصلاحي ’ وامكث لثلاث سنوات بلا عمل رسمي ’ معتمدا على دخلي من الكتابات الصحفية الحرة. لم ينس إخوان الصداقة وكان كثير السؤال والسلام ’ وكلما زرت المدينة حظيت منه بضيافة صينية كريمة لدى العائلة ’ بعدها صارت عائلتي أيضا ضمن تلك الضيافة كلما زاروني في ابوظبي. لم يكن إخوان موظفا في السلك الدبلوماسي ’ وإنما صحفي في جريدة الصين اليومية ’ معنيا بتغطية الجوانب الاقتصادية كمؤسسة خاصة ’ مثلما لم تكن سيارته تحمل علامة الهيئة السياسية. عدت من جديد إلى ابوظبي بين أعوام 2003-2006 للعمل في المؤسسة العربية للنشر والإعلام ’ في هذه الفترة سنزور الصين لمدة 12 يوما بدعوة من الجريدة التي يعمل بها ’’ الصديق إخوان ’’ ولكن رئيس تحرير المؤسسة طلب منهم أن نتكفل بتذاكرنا وسكننا ’ واكتفوا هم بضيافتنا الداخلية كترتيب زيارة الأماكن التي نرغبها. كان البرنامج عامرا لأننا اخترنا ثلاث مدن أساسية بكين بتاريخها السياسي المعاصر وموقعها الخاص للشعب والدولة ’ ومدينة ’’ شيان ’’ العاصمة القديمة للصين ’ حيث مرت من هناك قوافل الحرير والحضارات الصينية القديمة ’ أما المدينة الثالثة فكانت شنغهاي الحديثة والمعاصرة بمعمارها الزجاجي المتطور والحداثي ’ شنغهاي المطلة على البحر بكل رطوبته اللعينة. وكان خيارنا موفقا ففي فترة قصيرة استطعنا تلمس هذه الحضارة الممتدة منذ السلالات الإمبراطورية حتى ثورة ماوتسي تونغ الشعبية . فعلى واجهة بوابة السماء (المدينة المحرمة) ومن بعيد في الساحة الحمراء ’ كانت هناك معلقة صورة ماو كجزء من ذاكرة شعب وثورة نقلت الصين من حقبة الإرث الاقطاعي والاستعماري إلى صين متحررة بكل عزها القومي والاممي. ما زالت هناك رهانات على الانهيار ’ والذي يثلج صدر الكثيرين ’ ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم بالسؤال لماذا يسعدهم تدمير بلد بهذه الكثافة من السكان ويعمل من اجل التغيير دائما ولكن بهدوء الحكمة الصينية ’ فتجربة البيروسترويكا السوفيتية خلخلت كيان الحزب الشيوعي الصيني كدرس تاريخي ’ ولا بد من التحرك ببطء وحذر وإلا ضاعت الثورة وضاع الحزب وضاعت الصين كلها. ستون عاما والعملاق الصيني يرفع رأسه كتنين في الماء ’ يراقب العالم والتغيير بمنتهى الدقة دون أن يترك للآخرين العبث ’’ بإمبراطوريته الشعبية الجديدة ’’.
 
صحيفة الايام
6 اكتوبر 2009