المنشور

يرحلون بشموخ



  • دون ضجيج يذكر، رحل بهدوء المنصت إلى
    تراتيل الصباح، أو إلى لحن جديد يمتحن خفاياه المدفونة في عمق الذاكرة. ذاكرة وطن تمتد على الخارطة المرصعة بالجزر المتناثرة، منها جزيرة جدا التي
    كانت أجمل سجن في البلاد، حيث كان الراحل مجيد يسمع خبطات سلاسل القيد فيحولها إلى لحن يطوف الأرجاء،
    تعزفه أعرق الفرق، بلا
    جواز سفر ولا تأشيرة دخول للمطارات المترامية التي كانت
    تقذف بالرفاق والأصدقاء من ضفة إلى أخرى.



    أطلقوا عليه الكثير من التسميات أبرزها ‘مانديلا
    البحرين’، نظرا للسنوات الاثنتين والعشرين التي قضاها مجيد متنقلا في سجون البلاد من سجن إلى
    آخر أسوأ منه.


    لعلها مصادفة أن يخرج مجيد مرهون من السجن في شهر أبريل
    من العام ,1990 بينما يخرج نيلسون مانديلا من سجون الأبارتهيد في نفس العام ولكن قبله بشهرين ونصف الشهر، وكأنَّ نجمي مانديلا
    ومجيد مترافقان حتى في لحظات الفرح القليلة التي ينتزعانها من أحشاء الألم.


    في ديسمبر ,2007 وبينما كان مجيد يرقد في المستشفى، كتب
    الصديق القديم الدكتور
    عبدالهادي خلف مقالا في ‘الوقت’ عن مجيد مرهون، واستند إلى ما وقعت عليه عيناه في الوثائق البريطانية
    المفرج عنها عن قضية محاولة اغتيال ضابطي المخابرات بوب وأحمد محسن منتصف ستينات القرن الماضي، والتي دفع
    مجيد ثمنها 22 سنة سجنا.
    يقول المعتمد البريطاني في رسالته عن عملية التفجير،
    حسب ما نقلها خلف في مقاله ‘إنها (عملية التفجير) قد
    تكون الخطوة الأولى على طريق شنّ ما سماه بحملة إرهابية على نمط ما يحدث في مستعمرة عدن’. يعني مصطلح الإرهاب قديم لديهم، وهذا
    المصطلح كان مكتوبا في سجلّ الولايات المتحدة الأميركية ضد نيلسون مانديلا، حتى قرر الرئيس الأميركي السابق
    جورج دبليو بوش في يوليو
    من العام 2008 ‘شطب اسم مانديلا من لائحة الإرهاب’.. يعني مانديلا الذي ناضل ضد التمييز العنصري كان إرهابيا في المفهوم الأميركي!!


    التقيت مجيد لأول مرة في منتصف التسعينات، وكانت سنوات
    السجن وتضاريسها محفورة في جسده، وأبرزها سماعة الإذن التي لا تفارقه.. دخل مكتبة
    ‘كنوز المعرفة’
    بمنطقة رأس الرمان وفي يده كنز، هو عبارة عن مخطوطة المجلد الأول لقاموس الموسيقى الذي عكف على تأليفه في
    السجن. كانت المخطوطة مكتوبة بخط اليد بإتقان الفنان، مرصعة في دفتر أشبه بدفتر الغوص.. تحدثنا عن ضرورة طباعة المجلد وعن كلفة الطباعة التي لم
    يكن مجيد يملكها ولا المكتبة، فلم نجد من يدعم المشروع في ذلك الوقت العصيب. وحسب كلام مجيد حينها، فإن
    الذي بين يديه ليس إلا
    مجلد واحد من أصل ستة مجلدات هي مشروع حياته.


    كان يمكن للدولة أن تتبنى مشروعا عملاقا كهذا، وكان يمكن
    أن ترتفع راية البحرين
    عاليا في المحافل الموسيقية الدولية لو أن هذا الإبداع وجد طرقه للنور، فقد قيل الكثير فيه من قبل أساتذة
    عظام في الموسيقى على المستوى العربي والدولي.


    كان يمكن أن يصدر قرار بتفرغ مجيد مرهون للإبداع في تخصصه
    وكتابة عصارة تجربته
    التي لا شك أنها عظيمة. لكن مجيد شأنه شأن الكبار، لا تعرف قيمتهم الإبداعية وتقدر إلا بعد رحيلهم.. وكأننا
    درجنا على كتابة المراثي بعد غياب الأحبة الذين يرحلون عادة بشموخ.



     



     



    الوقت 25 فبراير 2010