المنشور

استهداف المسيحيين‮.. ‬وجه آخر للأزمة في‮ ‬منطقتنا

مئات من المسيحيين العراقيين خرجوا في‮ ‬نينوى وبغداد في‮ ‬يوم الجمعة الموافق للثامن والعشرين من فبراير الماضي،‮ ‬للتظاهر احتجاجاً‮ ‬واستنكاراً‮ ‬لعمليات القتل التي‮ ‬تستهدفهم،‮ ‬والتي‮ ‬أودت خلال النصف الثاني‮ ‬من فبراير الماضي‮ ‬فقط بحياة‮ ‬10‮ ‬منهم،‮ ‬وتهجير‮ ‬250‮ ‬عائلة مسيحية،‮ ‬تاركة منازلها في‮ ‬مدينة الموصل باتجاه سهل نينوى،‮ ‬فيما أُرغم الطلبة الجامعيون المسيحيون على التوقف عن متابعة دراستهم بسبب التهديدات المتواصلة،‮ ‬وقتلهم على الهوية واختطافهم من بيوتهم‮.‬
في‮ ‬مصر أيضاً‮ ‬خرج المسيحيون قبل حوالي‮ ‬شهرين في‮ ‬تظاهرات احتجاجاً‮ ‬على أعمال القتل وتدمير الممتلكات التي‮ ‬يتعرض لها أقباط مصر على‮ ‬يد الإسلاميين المتشددين‮. ‬وكان المسيحيون في‮ ‬الجزائر قد تعرضوا إبان الحرب التي‮ ‬اندلعت بين الدولة الجزائرية والجماعات الإسلامية الإرهابية خلال العقدين الأخيرين،‮ ‬إلى أعمال قتل وإرهاب راح ضحيتها العشرات،‮ ‬بخلاف المئات الذين هُجِّروا من ديارهم‮.‬
فماذا عسى المرء أن‮ ‬يقول وهو‮ ‬يصعق بهذه الأنباء المفزعة،‮ ‬بدلالاتها البليغة المؤشرة لمستوى الانحدار الذي‮ ‬آلت إليه أوضاعنا العربية العامة،‮ ‬وبضمنها أنساقنا القيمية والثقافية بالمجمل،‮ ‬وقد أضحت ضيقة الصدر،‮ ‬طاردة للآخر لعدم احتمالها تقبل العيش المشترك معه،‮ ‬بل واللجوء إلى أبشع الوسائل وأكثرها خسة لمطاردته ومضايقته في‮ ‬عيشه والنيل منه ومن أقاربه وممتلكاته‮.‬
الأمر الأكثر سوءاً‮ ‬أن هذا‮ ‘‬الآخر‮’ ‬الذي‮ ‬نعنيه هنا ليس سوى نحن أنفسنا،‮ ‬من حيث أن هؤلاء المسيحيين المستهدفين هم أبناء جلدتنا،‮ ‬الذين لا‮ ‬يختلفون عنا سوى في‮ ‬العقيدة،‮ ‬التي‮ ‬لم تكن‮ ‬يوماً‮ ‬خيارنا أوإياهم،‮ ‬ولا حاجزاً‮ ‬بين كافة مكوناتنا الدينية والمذهبية،‮ ‬فالنزق والعدائية دفعت بأوساط نافذة متمادية التجاسر،‮ ‬بتسهيل وتمرير أحياناً‮ ‬من المستوى السياسي‮ ‬الأعلى،‮ ‬لاستهداف حتى هؤلاء الإخوة الذين‮ ‬يسكنون معنا البيت عينه‮. ‬في‮ ‬كل‮ ‬يوم جمعة،‮ ‬تصدح أصوات كثير من خطباء صلاة الجمعة في‮ ‬العواصم والحواضر والنواجع العربية،‮ ‬مطالبة بالتهجم على النصارى والدعاء عليهم بالهلاك والدمار،‮ ‬وهي‮ ‬دعوات صريحة لإثارة الكراهية والبغضاء،‮ ‬وتحريض رواد هذه الجوامع والمساجد على اللجوء للعنف لإحداث‮ ‘‬الهلاك والدمار‮’ ‬المقصود من لدن خطباء ميكروفونات الفتنة‮.‬
وهنالك مشايخ لا‮ ‬يتورعون عن إصدار فتاوى تحرِّم التعامل مع النصارى،‮ ‬وتهنئتهم بأعيادهم وما إلى آخره من محظورات،‮ ‬يحرص هؤلاء‮ ‘‬الدعاة‮’ ‬على إشاعتها بين الفينة والأخرى،‮ ‬كي‮ ‬يضمنوا استمرار وترسخ جذوة الحقد والكراهية في‮ ‬الصدور،‮ ‬وتحفيز أصحابها للانتقال من القول إلى الفعل،‮ ‬من خلال التوظيف الماكر للدين،‮ ‬بالمداومة على محاولة تفعيل ما‮ ‬يسمونه فريضة الجهاد،‮ ‬سواء ضد ما‮ ‬يسمونه‮ ‘‬بالحكومات الباغية‮’‬،‮ ‬أو المجتمعات الفاسدة،‮ ‬أو‮ ‘‬الطوائف الكافرة‮’.‬
هذا بالذات ما‮ ‬يفسر انتشار واندلاع موجات التعصب والتطرف الديني‮ ‬في‮ ‬غير بلد إسلامي،‮ ‬عُرفت حتى وقت قريب بهدوئها وتسامحها الديني‮ ‬وسلامها الأهلي‮.‬
فلقد كانت مفاجِئة بحق موجة العنف والتعصب الديني،‮ ‬التي‮ ‬اجتاحت ماليزيا في‮ ‬الآونة الأخيرة بين‮  ‬المسلمين والمسيحيين،‮ ‬حيث جاء ذلك على إثر قرار المحكمة الماليزية العليا بالسماح للمواطنين‮ ‬غير المسلمين باستعمال كلمة‮ ‘‬الله‮’ ‬إشارة إلى الرب،‮ ‬متمثلاً‮ ‬في‮ ‬هجمات شنها في‮ ‬السابع من‮ ‬يناير الماضي‮ ‬شباب مسلحون متعصبون ومشحونون من قبل مشايخ التحريض على إقصاء واستئصال الآخر،‮ ‬حاولوا خلالها إحراق ثلاث كنائس كاثوليكية في‮ ‬العاصمة كوالالمبور بواسطة قنابل المولوتوف‮. ‬وقد أحدث هذا التطور في‮ ‬الاحتقان الديني‮ ‬الناتج‮ -‬كما قلنا‮- ‬عن الشحن والتعبئة الأسبوعية المنظمة،‮ ‬صدمة سياسية واجتماعية في‮ ‬بلد ظل حتى وقت قريب‮ ‬يعتد بتسامحه الديني‮ ‬وتعايشه العرقي‮ ‬السلمي،‮ (‬يبلغ‮ ‬عدد سكان ماليزيا‮ ‬28‮ ‬مليون نسمة،‮ ‬60٪‮ ‬منهم مسلمون،‮ ‬فيما تمثل النسبة الباقية أقليات صينية وهندية بوذية أو هندوسية ومسيحية‮). ‬وفي‮ ‬نيجيريا البلد الأفريقي‮ ‬مترامي‮ ‬الأطراف بمساحته البالغة‮ ‬924‮ ‬ألف كيلومتراً‮ ‬مربعاً،‮ ‬وعدد سكانه المتعاظم‮ (‬حوالي‮ ‬150‮ ‬مليون نسمة‮) ‬وتنوعه العرقي‮ ‬السكاني‮ (‬حوالي‮ ‬250‮ ‬مجموعة عرقية أبرزها وأكثرها تأثيراً‮ ‬قبائل الهوسا والفولاني‮ ‬بنسبة‮ ‬29٪،‮ ‬واليوروبا بنسبة‮ ‬21٪،‮ ‬وايبو‮ ‬18٪،‮ ‬وإجوا‮ ‬10٪‮) ‬وتوزع انتماءات سكانه الدينية ما بين المسلمين بنسـبة‮ ‬50٪،‮ ‬والمسيحيين بنسبة‮ ‬40٪،‮ ‬وأصحاب الديانات المحلية بنسبة‮ ‬10٪،‮  ‬في‮ ‬هذا البلد الأفريقي‮ ‬غير المستقر أصلاً،‮ ‬بفعل صراعات أصحاب المصالح الذين أغرقوا البلاد في‮ ‬الفساد حتى أذنيها،‮ ‬وقعت في‮ ‬الثاني‮ ‬والعشرين من‮ ‬يناير الماضي‮ ‬مصادمات عنيفة ودامية بين المسلمين والمسيحيين في‮ ‬مدينة جوس الواقعة في‮ ‬وسط نيجيريا،‮ ‬تخللها إطلاق نار متبادل،‮ ‬وحرائق لمحلات وممتلكات،‮ ‬حتى قيل إن القسم الشمالي‮ ‬لمدينة جوس قد أُحرق بالكامل،‮ ‬والنتيجة أكثر من مائتي‮ ‬قتيل ومئات الجرحى وآلاف النازحين الذين أُحرقت منازلهم،‮ ‬وقبل أيام عادت الاشتباكات وأعمال القتل والتدمير من جديد بين المسلمين والمسيحيين،‮ ‬مخلفة مزيداً‮ ‬من الضحايا من الطرفين‮. ‬هذه الحوادث،‮ ‬ومثلها وأسوأ منها في‮ ‬باكستان والعراق،‮ ‬حيث وصل‮ ‘‬فيض الضغائن والأحقاد‮’ ‬إلى مستوى التكفير واستحلال القتل،‮ ‬وإلى مجازر‮ ‬يرتكبها مسلمون ضد مسلمين آخرين باسم فريضة الجهاد إياها،‮ ‬التي‮ ‬يُنَظِّر لها خطباء الجمعة على الدوام‮. ‬والواقع ليس خطباء المساجد والمشايخ وحدهم من امتهن المداومة على نثر هذه السموم في‮ ‬مجتمعاتنا العربية والإسلامية،‮ ‬فهنالك وسائط إعلامية تم الزج بها في‮ ‬أتون هذه الفتنة البغيضة‮.‬
الأدهى والأمر أن كل هذا التنفير والاستعداء والتحريض،‮ ‬لم‮ ‬يستدع ردود فعل مناسبة من جانب بقية أعضاء الجسم العربي‮ ‬والإسلامي،‮ ‬التي‮ ‬لم‮ ‬يطلها العطب،‮ ‬إذ‮ ‬يكاد الصمت‮ ‬يطبق على أفواه الجميع،‮ ‬فلا‮ ‬يكاد المرء‮ ‬يسمع همساً‮ ‬احتجاجياً‮ ‬على هذا الولوغ‮ ‬الخطير جداً‮ ‬في‮ ‬التيه،‮ ‬حتى من جانب المثقفين والنخب النافذة‮!‬
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي‮ ‬العظيم‮.‬
 
صحيفة الوطن
13 مارس 2010