المنشور

المدينة المأزومة

لن ندرك فداحة الانفجار الديموغرافي في المدن العربية، إلا إذا تذكرنا أن سكان مدينة كالقاهرة، على سبيل المثال، لم يزد في أوائل القرن العشرين على نصف مليون شخص، ومع استمرار معدل النمو الذي ساد في العقود الثلاثة أو الأربعة السابقة، فان كل المدن العربية الرئيسية تحذو حذو القاهرة في التوسع الديموغرافي العشوائي.
نحن بصدد ظاهرة تتطلب فحص وتحليل الآلية التي يتم بها تضخم المدينة العربية، ففي فترة معينة كانت الزيادات في عدد سكان العواصم العربية نتيجة لأزمة التشكيلات السابقة للرأسمالية، مما دفع قُدماً بدور العاصمة كمركز للنشاط السياسي والاقتصادي والإداري للبلاد كلها، وأدى تغيير خطوط التجارة وتدهور الحرف التي تخصصت فيها بعض البلدات، تمييزا لها عن الريف، إلى هجرة أبنائها إلى العاصمة.
لعبت مؤسسة الخدمة العسكرية الإلزامية دوراً مهماً في ترييف المدينة، فكل قوة العمل الجديدة أخذت تمر بهذه المؤسسة، وبعد أن تقضي فترةً من حياتها في العاصمة أو المدينة، فان جزءا كبيراً منها يرفض العودة إلى الريف الخامل، بعد أن ألف حياة المدينة، حتى وان كانت هذه الأخيرة، ستؤدي إلى سحقه وتهميشه وتهشيمه أيضاً.
إن التخطيطات النظرية الفقيرة والمحدودة لم تنجح في متابعة الانقلاب الذي جرى في حياة المدينة المشرقية خاصةً، وإذا كان صحيحاً أن المدينة العربية، حتى بدون الهجرة إليها من الريف، منقسمة اجتماعياً، فان ترييف المدينة من خلال النازحين إليها، أدى إلى نشوء تمايز حاد بين سكان المدينة الأصليين وهؤلاء «الغرباء» القادمين إليها، والذين لم تكن، وهي المأزومة أصلاً، قادرة على أن تستوعبهم، وتدمجهم في قطاعاتها الحديثة، فكان أن حولتهم إلى جيش من العاطلين السافرين أو المقنعين.
في النتيجة نشأت حول العواصم مستوطنات وضع اليد، حيث يتكدس المهاجرون من الريف، الذين يظلون يشعرون بالغربة في المدينة وسط ظروف سكنية ومعيشية صعبة.
يكفي أن نستذكر أو نعيد قراءة المنتج الإبداعي العربي عن صورة المدينة العربية في مطالع القرن العشرين: عن القاهرة والاسكندرية في الثلاثينات، ودمشق وبغداد في الأربعينات والخمسينات، أو عن بيروت في عز تألقها في الستينات يوم كانت هذه المدن مصهراً للأفكار والتطلعات الجديدة.
كانت المدن نفسها أكثر نظافة وأناقة وتنسيقاً وذوقاً في شكل بنائها وفي تصميم شوارعها، قبل أن يجتاحها النمط القبيح من أشكال العمارة، حيث البنايات متفاوتة الارتفاع والمتنافرة الألوان، والمتراصة بدون فسح للضوء، حتى البيئة في مدننا كانت أكثر عذرية، قبل أن يداهمها هذا التلوث المهول من سحب الغازات وعوادم السيارات والناقلات، وهذا التطور العشوائي في البناء الذي خلق تكدسات بشرية مهولة، تعيش في المدن لكن لا علاقة لها بنبضها الحقيقي.
كانت الحداثة فكرة أصيلة وعميقة حتى وهي تمر بمخاضها العسير في مواجهة المحافظة والتزمت لأنها كانت تتكئ على قوة اجتماعية حقيقية صاعدة تغطي اهتماماتها ساحات واسعة من الاقتصاد والتعليم والثقافة والفن وصولاً إلى الفكر نفسه الذي كان يتحلى بشجاعة يندر وجودها اليوم، وكان رواده يقارعون بقوة الحجة والإرادة، كوابح التغيير.
 
صحيفة الايام
16 مارس 2010