هناك كتب يتعين علينا أن نعود اليها بين الفينة والأخرى، نعود إليها مراراً، نسأل مؤلفيها النصح والمشورة في أمورنا، رغم معرفتنا بأن الكتب لا تقول كل شيء، فالحياة أكثر تعقيداً من أن تحيط الكتب بما فيها من مستجدات. ولكن الكتب المضيئة أشبه بالمصباح يمسكه أحدنا في يديه وهو يدخل مغارة معتمة.
قد لا يكشف ضوء المصباح عن كل دقائق المغارة ولكنه بالتأكيد يقود خطانا إلى الأمام. بين أصحاب هذه الكتب المضيئة يبرز اسم العلامة الكبير المرحوم علي الوردي. في كل عودةٍ إلى كتبه فائدة وإضافة. كل مرة تنبهنا كتبه إلى ما غفلنا عنه، لأن ما فيها من أحكام واستنتاجات تتخطى زمنه، وتتخطى حيز بلده العراق الذي انهمك على دراسة مجتمعه دراسة عميقة نادرة.
يعن عليّ أن أعود إلى كتب الوردي متصفحاً ما سبق أن قرأته فيها، في نوع من تنشيط الذاكرة. من ذلك أن الوردي في ختام كتابه »دراسة في طبيعة المجتمع العراقي« يدعو إلى تعويد الشعب العراقي على الحياة الديمقراطية وجعله يمارسها ممارسة فعلية بحيث يتاح له حرية إبداء الرأي والتصويت دون أن نسمح لفئة منه أن تفرض رأيها بالقوة على الفئات الأخرى.
هذا الكلام قاله الوردي في عام 1965، وكانت بصيرته ترنو للبعيد، وهو يرد على المشككين في دعوته بتساؤلهم: كيف يمكن للشعب العراقي أن يترك قيمه المحلية وعصبياته الموروثة ثم ينهمك في حياة ديمقراطية لا عنف فيها ولا اعتداء، فيجيب أن الشعب العراقي ليس في مقدوره أن ينقلب بين عشية وضحاها إلى شعب ديمقراطي رصين كالشعوب التي سبقته في مضمار الديمقراطية. انه يحتاج إلى زمن يمارس فيه النظام الديمقراطي مرةً بعد مرة، وهو في كل مرة سيكون أكثر كفاءة فيه واعتيادا عليه في المرة السابقة.
الديمقراطية، حسب علي الوردي، ليست فكرة مجردة تعلم في المدارس أو تلقى في الخطابات والهتافات بل هي اعتياد وممارسة عملية، فإذا بقينا نتظاهر بالديمقراطية قولاً ولا نمارسها فعلا فسوف نظل كما كنا يسطو بعضنا على بعض.
كلام الوردي لا يصح على العراق وحده، وإنما على بلدان عربية عديدة جرى فيها سحق إرهاصات الديمقراطية، فتفاقمت الصعوبات طبقة فوق طبقة، وما كان متيسرا حله بسهولة بات يتطلب تضحيات وآلاماً مضاعفة.