المنشور

سيد قطب (1-3)

عاش الأستاذ سيد قطب حياةً دراماتيكية مريرة، وقد كان في البداية من السائرين مع الحركةِ الليبرالية الثقافية المصرية، وأنتجَ فيها العديد من الكتب النقدية، ولكن ظلت مرجعيتهُ دينية محافظة، وفي سنواتِ الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين كانت الحركةُ الليبراليةُ في حالةِ تدفقٍ واسع، مع وجودِ تناقضاتٍ عميقةٍ في صفوفِها غيرِ قادرةٍ على حلها، خاصة بعدم قدرتها على القيام بعمليات إصلاحات للريف الغارق في ظروف الإقطاع والتردي الاقتصادي والعجز عن تطور أحوال النساء وغيرها من قضايا الجمهور، نظراً لكون الحركة الليبرالية التي غدا جسمها السياسي المركزي هو حزبُ الوفد سيطرَ عليها الباشاوات وعرقلوا حراكها الديمقراطي.
كان التناقض الرئيسي الحقيقي هو الاستعمار والشعب، لكن التناقض بين الفلاحين والبرجوازية هو الذي تصاعد، وكان ضغط الريف شديداً. فحدث الانتقالُ للصراع مع الوفد وما يمثلهُ من قيمٍ ليبراليةٍ ديمقراطيةٍ أكثر من الصراع مع الاستعمار، فحدثتْ الانتكاسةُ التاريخية.
لقد حدثت انقساماتٌ حتى في الوفد نفسه خاصة خروج الطليعة الوفدية، ولم يكن ثمة صبر سياسي من القوى الجديدة وإيجاد تراكمات اجتماعية واقتصادية وثقافية صبور، وهذه القوى من الفئات الوسطى الصغيرة تريد حل تناقضات النظام المصري الملكي الديمقراطي بمغامرات سياسية سريعة.
وأغلب أصول هذه الفئات الصغيرة (البرجوازية الصغيرة) من القرى، كحسن البنا وقادة الاخوان المسلمين، ومنهم الشهيد سيد قطب نفسه، وكذلك جمال عبدالناصر وبعض قادة الضباط الأحرار وبعض قادة الشيوعية المصرية.
لقد غلبَ على هذه القوى إنتاجُ المفرقعاتِ السياسية والدينية والفكرية، وإنشاء البيانات الجامعة المانعة القادرة على تفسير الوطن وأحوال الأمم الإسلامية كلها وبومضةٍ واحدة، وبدفع الأمور نحو هدم النظام الليبرالي البطيء الحركة، وتوجيهه نحو نظامٍ مجهول، مفتوح لكلِ المغامراتِ السياسية، فهذه الفئاتُ البرجوازيةُ الصغيرة ليس في أعماقِها نظامٌ خاص، وهي لا تُضمرُ علاقاتِ إنتاجٍ يمكن أن تشكلَ نظاماً، فحدثت عقود من التاريخ المضطرب، التي لا تخلو من تغييراتٍ مهمة كذلك.
وتداخلتْ حركاتُ تلك الفئات وضمتْ أجزاءَ بعضِها لبعض، وجذبت فسيفساءَ هذه البرجوازية الصغيرة المختلفة، وسلمتْ بؤرةَ القيادة للعسكر، في التنظيم المُسمى الضباط الأحرار، الذي نمذجَ هذه الحالةَ الفوضوية العامة، ذات التجريد السياسي، التعميمي ذي السحر (الديني) القادر في تصورهِ على حل مشكلات الأمة المصرية ثم الأمم العربية والإسلامية قاطبة!
كانت الحركة بهذا الشكل تصعيداً لدكتاتوريات متصارعة، ذات رؤى إيديولوجية متعددة، لا يجمعها جامعٌ سوى عنفوان البرجوازية الصغيرة ومراهقتها، وأحلامها الكبرى، وقربها من الجمهور الفقير المُضطهد، الذي يدفعُها بعدمِ صبره، وتضغط عليها الطبقةُ الحاكمةُ الإقطاعية – الرأسمالية المتداخلة، بمؤامراتها وتبعيتها، وباستغلالها المختلف.
في هذه الفترة المضطربة كان سيد قطب يتحولُ من كونهِ مثقفاً ليبرالياً تنويرياً إلى أن يكون دينياً مرتبطاً بحركة الاخوان المسلمين التي كانت هي الأخرى حركة مفتوحة لشتى الاحتمالات، وقد قامت على وعي سني محافظ، ظهر من الصوفية السائدة في عقود سابقة، وانفصل عنها، وقطع العلاقة معها وانجذب للسلفية القادمة من السعودية بشكلٍ خاص.
دخلَ سيد قطب السياسة في أكثرِ لحظاتِ التغييرِ دراماتيكيةً كما قلنا، أي في الوقتِ الذي قاربتْ فيه حركةُ الاخوانِ مسائلَ السلطة والتأثير في الحكم عبر تكوينِ جسمِها العضوي المنتشر وجهازها العسكري، وبدأتْ تدخلُ في صراعٍ مع المجموعات السياسية الأخرى، وكان ذروة عملها المشاركة في انقلاب يوليو 1952، مما جعل ذلك الموظف السابق المستقيل والمثقف الذي ذهبَ لأمريكا وكرهَ ثقافتها الاجتماعية التحديثية وأُعجبَ بحضارتها المادية التقنية فقط، يدخلُ في عاصفةِ التحولات، حين وصلت البرجوازية الصغيرة بتنوع مشاربها وبتلك الفئات السياسية المتصارعة إلى الحكم وحولت الصراع الايديولوجي إلى صراعات ضارية على السلطة!
مع سرعةِ تحولهِ للخطاب السياسي الاخواني المستخدم لشعارية الإسلام للوصول للحكم، وعدم وجود فترة ليبرالية طويلة له، وثقافة تحليلية للإسلام والثقافة الحديثة، أخذتْ لغتهُ الأدبيةُ والدينية الهادئةُ المتسامحةُ المتفتحةُ فيما سبق تتحول إلى لغة نارية!
ففي هذه الأثناء هيمن الضباطُ (الأحرار) كلياً على مفاتيح السلطة وأبعدوا حلفاءهم ومن مهدوا الطريق الفكري لهم، وقبضوا على الحكم كلياً، فدعا أولئك الحلفاء للطريق الديمقراطي الذي دمروه، سابقاً، وحاولوا إبعادَ جمال عبدالناصر خاصة، وتسويق محمد نجيب، لكن القابض على مفاتيح السلطة العسكرية، أفشل محاولتهم ودخل معهم في صراع مفتوح!
فأخذت رموزُ تلك الحركات تتعرض للحصار والاعتقال، فُجر سيد قطب من عالمه الفكري وأبحاثه إلى الزنزانات الرهيبة، وقضى سنوات طويلة في مقبرة الأحياء هذه، وثمة فرق بين ما تعرضت له القيادات الكبيرة الدينية وبين ما تعرض له سيد قطب الذي تم التركيز في قهره وتحطيم نفسيته، فما زاده ذلك إلا إصراراً وشموخاً، وكأن القيادة العسكرية الشمولية توجهت لتكسير الأدمغة أكثر من القيادات السياسية الدينية الهادئة المحنكة، التي لم تحصر نفسها كما فعل سيد قطب في ممرٍ ضيق، ضاقَ عليه قبل الآخرين وأنتج شراراتٌ كبيرة من الحراك السياسي الناري الذي ظهرَ من تلك الزنزانة التي كان فيها سيدُ قطب يعكفُ على درسِ القرآن الكريم!

صحيفة اخبار الخليج
23 ابريل 2010