المنشور

كوميديا سوداء

«التقى رجلان عند موقف الباص ، لم يسلم أي منهما على الثاني، ولم يبتسم أي منهما للآخر، كان كل منهما يروزالثاني بنظرة حادة. إذا جلس أحدهما على المقعد قام الثاني ونظر نظرة شزرة، ولا يلبث الواقف أن يتعب، فالشمس حارة وطاقة الصبر والأناة استهلكها العمل فيجلس، ويقوم الجالس وينظر نظرة قاسية ويدير ظهره. لم يصل الباص إلا وكان كل منهما يتمنى في سره سحق الآخر، كما يسحق صرصور تحت قدم حانقة «.
هذا ملخص قصة قصيرة للكاتب السوري محمد إبراهيم الحاج صالح، وهي بامتياز قصة عن سيكولوجيا الإنسان المقهور الذي يعوض عن القهر الواقع عليه بابداء كراهية، أو قهر مبطن ضد نظرائه من الناس المقهورين أيضا. وهي فيما نرى سيكولوجيا المواطن العربي البسيط على امتداد رقعة هذا الوطن الكبير، المواطن الذي تسحقه الأزمات المعيشية وتطحنه دوامة الحياة القاسية، وتهدر كرامته وهو يريق ماء وجهه مرات في اليوم الواحد جريا وراء تأمين لقمة العيش له ولأطفاله ، في أوطان تبدو الآفاق أمامها مسدودة، حيث تتدحرج نحو هاوية المزيد من الأزمات.
هذا نوع من الكوميديا السوداء، ولكنها كوميديا مأخوذة من هذا الواقع، مترعة بمآسيه ومتشربة بطعم العلقم الذي ينضح به. إن ما فعلته التحولات العمياء التي شهدتها المجتمعات العربية على مدار عقود قد أدت إلى سحق هذا المواطن وتغييبه وإهدار كرامته، وتفريغ عالمه الروحي وتجويفه.
علينا بعد رؤية هذه التحولات أن نفهم هذا الحال من الخيبة واللامبالاة واليأس والحياد الواضح من قبل هذا المواطن تجاه ما يجري حوله من أحداث جسام. ما الذي يستطيع هذا المواطن العربي أن يفعله وقد فقد هو نفسه الإرادة والإحساس العالي بالكرامة، وعلينا بعد هذا وذاك أن نفهم ، وربما نتفهم ، طبيعة ردود الفعل العفوية على هذا الوضع، حين تأخذ الطابع العبثي وتبدو من غير رؤية أو هدف أو مشروع ، وان وجد هذا الهدف فانه غالبا ما يكون معلقا في الهواء، معزولا عن الزمان والمكان.
الهزيمة ليست هي تلك التي تتكبدها الجيوش في معارك القتال. الهزيمة الحقيقية، الكبرى، هي الهزيمة الداخلية، هزيمة الإنسان الفرد حين تنخر النفوس واحدة بعد الأخرى وتصيبها بالخراب وفساد المعنويات. وجوهر كل ما يجري هو الوصول بهذا المواطن البسيط إلى هذا المآل البائس، وان تحقق ذلك، لا سمح الله، فان الظلام سيطبق علينا من كل الجهات.
ألا يفسر لنا ذلك هذا الحنين، الذي يبدو في بعض مظاهره رومانسيا لذاك الزمن الذي وان كانت الناس فيه مثقلة بالفقر، لكنها كانت مفعمة بالأمل والكرامة والعزة. لقد كان ذاك زمن: «ارفع رأسك يا أخي»، أما اليوم فقد حل علينا زمن طأطأة الرؤوس ..!
 
صحيفة الايام
29 ابريل 2010