المنشور

نهاية رجـل شـجاع


اختارت الأقدار لجليل عمران الحوري نهاية تليق بتاريخه النضالي الناصع، هو الذي ينتسب إلى رعيل المناضلين العماليين والنقابيين الذين كانوا قلة في زمن الجمر يؤسسون اللجان العمالية وينظمون الإضرابات ويقودون المسيرات والاحتجاجات دفاعاً عن حقوق العمال وفي سبيل إطلاق حرية العمل النقابي، ودفع جليل ورفاقه الضريبة  الغالية لذلك بالسجن والتوقيف والمحاربة في الرزق.  
في حياة ورحيل هذا المناضل النقابي ما يرتقي إلى مثابة العمل الروائي أو الدرامي .
 
عندما كنا لم نزل تلاميذ في المدرسة، كان اسم جليل عمران مضرب المثل في الشجاعة، حيث كان دائماً في مقدمة صفوف مسيرات العمال منذ ستينيات القرن الماضي مطالباً بحقوقهم، وفي مقدمتها حق تشكيل النقابات. يومها كانت الفرائص ترتعد من مجرد التفوه بكلمة النقابة، فما بالك بالدعوة إلى تشكيلها، لكن جليل عمران ورفاقه لم يأبهوا بالصعوبات، التي لم تثنِ من عزيمتهم أو تفت من عضدهم .
 
تغيرت أمور كثيرة في البحرين وأصبحت النقابات أمراً واقعاً يجمعها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، وكان جليل سعيداً برؤية بعض ثمار كفاحه تتحقق، لكنه لم يكفّ عن مواصلة العمل في سبيل المزيد، وحماية الحقوق المكتسبة  من أي تعدٍ عليها، رغم تقدم السن به، وتدهور حالته الصحية التي حملته إلى رحلة علاجية إلى ألمانيا عاد منها منذ أسابيع فقط
 
كان زملاؤه يحرصون على المرور عليه في بيته، ليأخذوه بالسيارة إلى حيث يقام نشاط عمالي، هذه المرة حيث الاعتصام الذي دعت إليه نقابة المصرفيين احتجاجاً على التسريحات الجائرة في القطاع المصرفي، لم يفعل الرفاق الأمر نفسه رأفة بصحته، لكنه استقل النقل العام وأتى وحيداً، وقطع المسافة من موقف الحافلة إلى حيث التجمهر مشياً، وما أن تناهت إلى مسامعه هتافات العمال حتى استعاد لوهلة سنوات شبابه يوم كان في مقدمة الصفوف يهتف، وعلى محياه كما يقول أحد الحاضرين ارتسمت بسمة الرضا لأن جذوة النضال التي ساهم في إشعالها ظلت متقدة.
 
وفي حماس راح يجاري العمال الشباب في الهتاف بأعلى صوته، بذات الإيمان والحماس اللذين كان عليهما وهو لما يزل شاباً، لكن قلبَهُ المنهك خذلهُ هذه المرة، حين خرّ ميتاً بين أيدي رفاقه، كانت تلك تلويحة الوداع الأخيرة للرجل الذي مات شامخاً، بكل عنفوان المناضل وعزيمته.
المصور البارع والصحافي مازن مهدي التقط صورة لمكان الحدث: برجا المرفأ المالي بكل ما يرمزان له من سطوة للمال، حيث اعتصم المعتصمون، يبدوان شامخين صاعدين في اتجاه الأعالي، وفي أسفل المبنى على ساحة من العشب الأخضر جثمان الفقيد ملفوف بملاءة بيضاء محاط برفاقه الذين اغرورقت أعينهم بالدموع وهم يتبادلون التعازي.
 
هذه الصورة يجب أن تخلد، ليس لأنها شاهدة على زمن فحسب، وإنما هي تجسيد لاحتجاج مفعم بالرجولة والشرف والكرامة على نهج ضاعف ثروة الأغنياء وزاد فقر الفقراء فقراً.