المنشور

أزمةُ كتلٍ رأسماليةٍ مختلفة

تبدأ جراثيم الأزمة الاقتصادية في ظاهرات معينة خاصة في عجز الميزانية وفي الديون على الناتج المحلي الإجمالي ثم تتسع دوائر المشكلات الاقتصادية والسياسية، وهي تتمظهرُ في كل بلدٍ حسب بنيتهِ الاقتصادية وتاريخه السياسي وجذور مشاكله.
فلا يمكن أن تكون أحجارُ الأزمة التي تسقطُ في الاقتصاد الألماني مثلها مثل الأحجار التي تسقط في اليونان.
وإن ظهور الأزمة أولاً في أمريكا هو بسببِ أن أمريكا غدت رأسَ العالم الاقتصادي، أي انها قيادة أنماطه الرأسمالية المتضادة غير المتعاونة في تخطيط عالمي مشترك.
وقد تنامت مظاهرُ الأزمة الأمريكية في دول أخرى بطبيعة هذين الارتباط والتداخل ، وهي الأزمةُ المتولدة من العجز التجاري ومن الميزانية العامة وارتفاع الديون الحكومية. وكان الحلفاء الأقرب كالمكسيك وأوروبا الغربية المقربون الملامسين الكبار للمريض القائد، فكادت المكسيك أن تُفلسَ وأصبح الاقتصادُ الأوروبي في بؤرةٍ غيرِ مستقرة انعكستْ على العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) التي تراجعت قيمتها أمام الدولار.
وتتفجر الدولُ الضعيفة في الحزام الرأسمالي الأوروبي، وتندلع أحداثٌ عاصفة وصراعات سياسية واقتصادية في بلدان آسيوية كتايلند. إن صداعَ الرئاسة الأمريكي المالي ينقلبُ إلى عواصف وانهيارات أرضية مالية اقتصادية في أمكنةٍ أخرى.
إن الفسادَ السياسي للحكومات والبذخ والعسكرة وغيرها من الظاهرات هي أشكالٌ من هيمنةِ القوى الاقتصادية الكبرى في الغرب، التي ركزتْ في شفطِ فوائضِ الأرباح من العالم الثالث، وفي تسريعِ التطور التقني للمزيد من الأرباح كذلك، وجزءٌ من هذا كله يغدو رفاهيةً غربية كبيرة تتشكل في مقابل انهيارات اقتصادية في الدول المتخلفة.
وقد تمظهر ذلك غربياً في أزمة (مساكن الرفاهية) ولم يجرِ هذا في الغرب فقط بل في الدول والمجموعات التي أنتجت مثل مجموعات البذخ الكبير هذا.
في اليونان الحلقة الضعيفة من السلسلة الرأسمالية الأوروبية كانت تراكمات الديون تعكس فساداً وعدم تغلغل الديمقراطية في نسيج الدوائر الحكومية، ومستوى قوى إنتاج يونانية متخلفة قياساً للمستوى الأوروبي.
عكس العالم خلال العشرين سنة الماضية سيطرة الدوائر المالية والسياسية اليمينية المتطرفة في أمريكا، التي توجهت لسلخ جلد العالم النامي والكادح الغربي معاً، من دون آفاق لتطورات رأسمالية إنتاجية واسعة في العالم. أي أنها ركزت في تداول البضائع الاستهلاكية الثمينة أو السلع المعمرة أو بيع وشراء البيوت، بدرجةٍ أساسية، وأوجدتْ موجات استهلاكية كبيرة لشراء هذه السلع في الكثير من الدول عبر كل أدوات التقنية والمعلوماتية والحداثة.
ومع هذا المسار شجعتْ الحروب أو أنها انساقتْ وراءها، وهي تجارةٌ رابحة هائلة أخرى، لتداول سلع ثمينة غير معمرة، فتفجرتْ حروبٌ كثيرة: العراق، وأفغانستان، والسودان، وسيلان، وحرب الصحراء المغربية، ولبنان، وفلسطين الخ.. وأغلبها في العالم الإسلامي وهو أمرٌ يؤدي إلى حروبٍ من نمط آخر وإلى تبرير الميزانيات العسكرية الهائلة والقوانين المضادة للحريات واستبدال بفزاعة الشيوعية فزاعة الإسلام، كما يُؤجج العداء للعلمانية في بعض دوائر الغرب نفسه.
تعكس عمليتا تداول السلع ان الطبقةَ الحاكمةَ للعالم الآن في الولايات المتحدة تتجسدُ في الشرائح المالية البنكية خاصة، التي تطلقُ عمليات التداول بسرعة شديدة للمزيد من التراكمات الرأسمالية العالية، ولا تستطيع أن تعيدها للعالم الثالث الذي يحتاج العديد من بقعه إلى تأسيسٍ رأسمالي إنتاجي وثورات تعليمية وثقافية وصحية الخ.
فهي على المستوى الاقتصادي تدفع بقوة الاستثمارات الطفيلية وعلى المستوى السياسي تشجع الحكومات على تكوين تطورات رأسمالية مالية – تجارية كبيرة، في ظلِ ديكوراتٍ ديمقراطية، بمعنى انها في عملياتِها المالية السريعة تريد استقراراً سياسياً تتم فيه عمليات سحب الفوائض المالية الكبيرة من هذه الدول، ففي خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات عادَ كل دولار غربي إلى موطنه رابحاً دولارين من العالم الثالث.
هذا الاستغلال الكبير للدول النامية فجر الاضطرابات في العديدِ من البقعِ الهشةِ ديمقراطياً ووطنياً، وهذا يبدو خاصة في مناطق الأرياف والبوادي وفي البلدان الفقيرة، والمعتمدة على سلع زراعية راحت أسعارُها تنهار.
تتنامى العلاقات الغربية – الشرقية في الدول ذات الأسواق الكبرى، أي ذات قوى العمل الواسعة الرخيصة، أو في بلدان الوفرةِ النفطية حيث يتم الاستغلال المزودج: شراءُ نفطٍ رخيص وبيعُ سلعٍ غالية بسهولة.
لكون الولايات المتحدة هي القائد لعالم الرأسماليات الجديدة والقديمة، وبشكلٍ انفرادي وجزئي الآن، يتعرضُ العالم لجملةٍ كبيرة من القلاقل، وهذا يتطلب قيادة اشتراكية – ديمقراطية في أمريكا، لإعادةِ التجديد الموسع الرأسمالي لاقتصاديات العالم، عبر إعادة التركيز في الإنتاج، ودعم اقتصاديات العالم الثالث، ونقل التكنولوجيا إليه.
تغيير العالم يظل عالمياً وديمقراطياً في العقود التالية.

صحيفة اخبار الخليج
27 مايو 2010