المنشور

التباس الشخصية الوطنية

لابد من البحث لماذا لم تتكون الشخصية الوطنية العامة لدى رجل الشارع؟
نجد ان البدوي والقروي كانا لا يمثلان مواطناً، وقد ظلا كما هما على مر التاريخ التالي. صحيح ان الملابس تغيرت والبيوت تطورت واستبدل بالمحراث المفك أو المطرقة لكن القروي ظل قروياً. وكذلك البدوي استبدل بالناقة أو الحمار السيارة لكنه ظل يسوق الأشياء والكائنات بعصاه.
في تكوين الأمتين العربية والفارسية تداخلات وصراعات وافتراقات.
نحن نعيش على حواف الأمتين، على أطرافهما المسيجة بالشوك وأسنان الزجاج والمخاوف التاريخية المضللة.
في ظل العصر الديني التقليدي لم يكن ثمة أمم، كانت ثمة(ملة) واحدة، تتبادل المنتجات المادية والفكرية، وتتداخل بينها الأفكار المكونة للمذاهب والشعوب، والخليج هو حافة الصراع بين الأمتين، وشريط لقائهما وتعاونهما ونسيجهما المشترك.
إن الأمة العربية تتكون عبر القبائل البدوية بغاراتها الدائمة لتشكيل النسيج السكاني، ومن الفاتحين الأُولِ مروراً بالخوارج والقرامطة والسنة والشيعة، فهم العرب أنفسهم وان تبدلت أزياؤهم السياسية – المذهبية، وهم ذات البدو، ولكنهم ينسخون في كل فترة حسب الموجة الغالبة من القوى الاجتماعية السياسية، فليس ثمة تغيير في البدو غير أنهم يتحضرون قليلاً، ويسكنون القرى والمدن الصغيرة، والحواف البارزة من الخليج تعطيهم انفتاحاً على الخارج، فيستقبلون أجد الأفكار الدينية، ويعانقون تأثيرات الشعوب وبعض هجراتها، وتختلط الدماء واللغات والأفكار، والقسم الزراعي من حواف الخليج يتأثر بما يموج في عالم الفلاحين المسلمين، من التأثر بالقرمطية وبالإماميات، وتبقى الأقسام الرعويةُ مرتبطة بالجزيرة العربية الداخلية وموجاتها.
ان الانقسام المذهبي يغدو حاداً من دون وجود فواصل اجتماعية سكانية كبيرة، أو مسافات جغرافية واسعة، الأفكار المذهبية متضادة بشدة، كما حدث في بعض الدول العربية النادرة التي أذابت المذهبيات في تكوين سني شيعي، إسلامي مسيحي، مشترك، خاصة في لحظات النضال الموحد.
لكن الجزيرة العربية ذات تضاريس اجتماعية حادة، فبعض التأثيرات جاء من أغوار النتاجات الريفية المرتبطة بالعقول السماوية المتعددة المفارقة، التي التحمت بعذابات البشر وأحلامهم في التغيير وضد هيمنة الثبات والقوى العليا عليهم، والملتحمة بالمذهبيات والقادة والأئمة.
في حين ان الموجات البدوية الخارجة من عمقِ الجزيرة في عمليات تجديد النسيج السكاني، ابتعدت عن المغالاة الراسخة في داخل الجزيرة، وبحثتْ عن فرص العيش الجديدة، لتشكل تداخلات وصراعات على الحواف، هي إعادة إنتاج جديدة لا تلحظ اختلافاتها بسهولة. وكأنها بتجديدها تريد أن تقيم لغة تعاونٍ وعيش مشترك بين المذهبيتين المتفارقتين، احداهما تغرق في التأويل، والأخرى تغرق في النصوصية.
لكن لم تستطع المذهبيات في عصر الجمود أن تعثر على مفاتيح الحداثة الخاصة بفتح الصناديق العتيقة المقفلة منذ قرون. بل كانت الصراعات على النتاج وفرص العيش والتغني بالاختلافات فزادت الهوات.
وفي زمن القوميات بدأ الافتراق بين القوميتين العربية والفارسية، فلم يستطع الجسمان العربي والفارسي الكبيران في منطقة الخليج أن يكونا جزأين مؤثرين في عمليتي الانبعاث القومية الجارية في المراكز خاصة، وكانت المؤشرات ترجح صعود القومية الفارسية نحو الحداثة فهي التي بدأت تطرح أسئلة التغيير والديمقراطية والعَلمانية منذ بداية القرن العشرين، لكن نشوء النظام الملكي العسكري الشمولي فوّت هذه الفرصة الثمينة، فتلبست القومية الفارسية لباس الملكية التي جنحت لحداثة متطرفة من دون جذور ولا رأفة بالبشر، مما وجه منحى القومية الفارسية التالي نحو المذهبية الشمولية العسكرية، خاصة مع اصطدامها بنزعة قومية عربية شوفينية، وهما صيغتان غيبتا الديمقراطية والعلاقة الجيدة بين القوميتين والهموم المشتركة.
في الجانب العربي كان تعدد الدول العربية السنية مفوتاً لفرصة صعود نظام مركزي عسكري شمولي، فبرزت تعدديات مختلفة، حافظ أغلبها على نسيج مذهبي مسطح غالباً، يخلو من مراكز قوية للحداثة والديمقراطية.
كانت الموجات القومية القوية تطرح فضاء عربياً تعصبياً، لكنها لم تبق، وجاءت تطرفات القاعدة بمتاعب أخرى لكن من خلال مذهبية منغلقة إرهابية، فلم تستطع التحديثات ولا القوميات ولا المذهبيات أن تشكل لحمة عربية في مراكز الحواف الخليجية والدول الصغيرة والجزيرة العربية ككل.
كونت النضالات الوطنية عقوداً من ثقافة وطنية عربية إنسانية ذات جذور إسلامية في المنطقة وخفتت من التباينات المذهبية، لكن لم تترك تستمر وتتجذر.
وزادت التطورات السياسية والاجتماعية العولمية وتدفق العمالة الأجنبية والتباين الشديد لفرص العيش وتفاقم تصاعد الدولة الفارسية الشمولية من التباعدات بين الأقسام العربية في المنطقة، وتحصنها في المذهبيات، وعدم نمو الوعي القومي لديها، ولا أي وعي تحديثي آخر.

صحيفة اخبار الخليج
28 مايو 2010