المنشور

ما لا أفهمه في البحرين ؟! (1-2)

ربما غياب الإنسان مدة من الزمن عن وطنه يعلمه خبرة مختلفة في مكان ما، بل ويسأل الإنسان نفسه بعد هذه المدة كم هو صبور الإنسان البحريني ومقهور أيضا بفعل نمط من الأوراق البيروقراطية والقرارات الإدارية البليدة، بل ونجد أنفسنا في حالة سخرية كوميدية من نمط سخرية موليير أو العالم السفلي الغريب والمجهول.
ما واجهته في البحرين لمعاملات يومية علمتني لماذا فعلا يغضب المرء أو يصمت في تلك المؤسسات؟ علمتني لماذا يمتص الإنسان المواطن معاناته مع تلك المواقف التي فقدت المنطقية وعلاقاتها في أية معاملة حكومية وغير حكومية، مما يربك المسار اليومي لفلسفة ما نتوق له كلاميا وحلما عن عالم «الحكومة الالكترونية والإنسان الآلي والتقني»، حيث الدقة والسرعة والانجاز قبل أي شيء آخر. دون شك المسؤول البليد لديه إجابات جاهزة والموظف الصغير النصف محكوم بعقلية النخاسة هو الأخر يجيبك «أنا عبد مأمور» وهذه تجعلني أكثر غيظا عندما أرى مواطنا لا حول له ولا قوة محتارا وحائرا في ترديد «خطاب الببغاء» لا الإنسان المرن والديناميكي في مواجهته أية مشكلة تحتاج لمعالجة واقعية ومنطقية.
بين المسؤول صاحب المرتبة المتوسطة والكبيرة وصاحب القرار والموظف الصغير «المشبع بالروح الإدارية البليدة» هو الآخر نسخة مشوهة من آلة يومية نتعامل معها إلى حد الإمكان إن تدفعنا لجريمة محتملة كما فعل الممثل الايطالي فرانكو نيرو في فيلم «المواطن الصالح» عندما قرر الانتقام لنفسه دفاعا عن كرامته وحقه المسلوب بقوة السلاح عندما وجد مركز الشرطة عاجزا عن استرداد المبلغ الذي جمعه طوال حياته، وضاع منه سدى في سطو مصرفي عندما كان يزمع إدخال مبلغه في حسابه الخاص، لحكاية ذلك الفيلم أبعاد سياسية في ايطاليا الغارقة في فسادها وبيروقراطيتها التي استشرت في المؤسسات جميعها وفي السلم الوظيفي برمته وبكل مراتبه الوظيفية والوظائفية، فليس بالضرورة الموظف الصغير فاسدا عندما يسرق مبلغا صغيرا تافها أو يقبل برشوة بين أوراقه، ولكنه أيضا يكون موظفا متواطئا عندما يصبح شريكا من لعبة كبيرة يخفض فيها رأسه عن مدار الريح الفاسدة ويغض عينيه عن مناخ عام فاسد من تحته وفوقه وحوله. بهذه المشاعر وتلك الرائحة تواجهك «مافيا وظيفية» صغيرة تبدأ من القسم الأصغر وتنتهي إلى أقسام اكبر حيث تشعر فيها حالة «المجتمع المغلق» مهنيا بين أصحاب القسم الواحد والمهنة الواحدة. ما لا افهمه أبدا في البحرين حالة تلك الازدواجية في تضارب العلاقة بين جواز السفر كوثيقة مواطنة وكونها وثيقة سفر صالحة للسفر والفيزا لا غير، حيث في الأولى لا يعني انتهاء صلاحية الجواز للسفر الغاء حقك الدستوري والمواطنة، إذ إن جوازك هو هويتك الرسمية. هكذا لم يصرف لي الموظف معاملتي لكون جواز سفري منتهيا، فجادلته ما علاقة المواطنة التي يحددها الجواز فيما لو إنني قررت أن لا أسافر أبدا وتركت جوازي معي في الخزانة؟؟ لماذا يتم مزج العلاقة بين صلاحية الجواز للسفر وصلاحيته كوثيقة رسمية من حق أي مواطن يمتلكها، حتى في حالة تجميد الجواز امنيا وقضائيا، فان هناك نسخة عن الجواز كفيلة بتأكيد حقه كمواطن حتى وان كانت لديه قضايا في المحاكم، إذ لا تلغي تلك القضايا كونه مواطنا؟ حاولت إدخال الموضوع في رأس الموظف فاحتار وقبل، ثم دخل على المسؤول وعاد بنتائج سلبية هي لغة الرفض والتشدد الوظيفي الأعمى مع أنني واثق أن ذلك التشدد لن يكون مع شخصيات ذات نفوذ سياسي أو مالي أو غيره بل وسيتخطى كل اللوائح بابتسامة كبيرة لذلك الشخص قائلا له «سامحنا عطلناك !!»، لقد ضاع مني اليوم كما تضيع مياه كثيرة في مجتمع استهلاكي لا يدرك ما معنى الثروة المائية الناضبة؟!! حدث هذا في مكان ما من أمكنة الوطن، المتطلع لعالم الحكومة الالكترونية ولا اعرف إن كانت تلك الحكومة ستصر علينا أن نجدد جوازاتنا لكل معاملة حتى وان قررنا البقاء عشرين سنة داخل البلد وصلاحية جوازنا لخمس سنوات! هذا فقط على سبيل المثال وليس الحصر.
مثلما لن أتحدث عن البطاقة الذكية مستقبلا وما بها من إشكاليات عدة في تبدل المعلومات. غير إن المشكلة تعدت المؤسسات الحكومية إلى القطاع الخاص والمصرفي، والذي اعتقدت انه أكثر فهما لمعنى البزنس حتى وان طفحت الأوراق داخل الأدراج بمحاذير الأموال وغسيلها، فانعكست علينا نحن الصغار والشرفاء في ذمتنا وأخلاقنا فصرنا عملة واحدة ومعاملتنا واحدة سواء بسواء، كمعاملة الجاني والمتهم والفاسد والموبوء مع نقيضه المستقيم خلقا وسلوكا. حقيقة قيل من لا يعرفك يجهلك، وهذه الميزة الأخلاقية اندثرت فكل الذين يعرفون اليوم عالمهم هو تلك الأوراق المالية والذهب الرنان. لهذا نحتاج وقفة مع حكاية المصرف وعالمه الغريب في تعامله مع البطاقة الشخصية المنتهية!!.
 
صحيفة الايام
30 مايو 2010