المنشور

السعداوي والحوري


في نهاية شهر ابريل نيسان الماضي كنا على موعد مع البروفة النهائية لعرض مسرحية (الصفحة الأولى من الجريدة) للمخرج عبدالله السعداوي، السعداوي لم يتصل متابعاً ومذكراً بموعد العرض!، كنت قد عرفت قبل أيام بتاريخ البروفة النهائية وتوجهت تلقائياً لمكان البروفة في الصالة الثقافية.

 قلت في نفسي أن السعداوي على الأرجح مشغول بمرض أخيه لذا لم يتصل بي. توجهت إلى مكان العرض وأجريت اتصالا بالفنان محمود الصفار و أنا في طريقي لأتأكد أن موعد البروفة النهائية ما زال قائماً، أكد لي محمود ذلك -” وقال دريت؟” -قلت: لا – قال” أخو السعداوي توفى اليوم لكنه قادم بعد قليل لم يتأخر يوماً عن موعده” انتهى الاقتباس.

 ذهبت إلى الصالة كان الكل في انتظار السعداوي الذي أتى مفعماً بالحيوية كأن شيئاً لم يكن، رأيت في إيماءاته وحركاته ألماً دفيناً لكنه لم يعبر عنه بدمعة أو صرخة أو ربما تنهيدة بل كان يصرخ ويرقص ويدق على الأرض ويفجر كل مفصل في جسمه وهو يوجه الممثلين للتعبير الحقيقي عن حالاتهم المسرحية، رأيته وأدركت أن الألم يكويه لكنه يطفئه بجدول المسرح المتدفق في أحشائه.
 
السعداوي شخص من الزمن الجميل كما يقال، لا أعلم إذا ما كان هنالك من زمن جميل أم أن لكل الأزمان سيئاتها وحسناتها! لكني متأكد أن السعداوي لا يشبه أي شيء عرفته أو سأعرفه، أنه شخص مسالم، ودود، مؤمن بخياره، معتزل عن كل مغريات الحياة، نقي، وفنان قبل كل شيء.

 أتذكر أن أحد وكلاء الثقافة طلب من السعداوي أن يعتني بهندامه وهندام “شلته التسعينية” بعد أن حصل على جائزة أفضل مخرج في العالم خلال مشاركته في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي عام 1994م، قال السعداوي للمسؤول: ” يافلان لما كنت صغير أرتجف من البرد كان أبوي أيفصل لنا لثياب من الخيش ويلبسنه إياها لأنه ما كان عنده فلوس يشتري لنه قماش وأنت ياي اليوم أتقولي خل ربعك أيغيرون ثيابهم وأهتم بهندامك وأحلق لحيتك وبنخليك تتولى مركز ثقافي مهم، شكراً يا……” 
  
حين حصل السعداوي على مكافئة أفضل إخراج مسرحي التي تقدر بسبعمائة أو ألف دينار ربما، كتب السعداوي لكل واحد منا بخط يده رسالة شكر مرجعاً فضل حصوله على الجائزة لمجهوداتنا طالباً منا نحن فريق العمل الذي يتجاوز العشرة أشخاص أن نقبل منه جزءا من المكافئة (50) دينار لكل شخص أي 500 دينار على أقل تقدير!.
 
أقارب بين السعداوي والحوري لسببين الأول يعود إلى الحدث التاريخي، فبعد أيام معدودة تناقلت الجرائد خبر سقوط  الحوري وإنتقاله إلى العالم الآخر خلال مشاركته في اعتصام تضامني مع المصرفيين المسرحين من أعمالهم،  ودعنا الحوري كما بدأ مسيرته هاتفاً تحيا نضالات الطبقة العاملة. الحوري قطع رحلته العلاجية في الخارج رغم كل المحظورات الصحية على حياته التي كانت تتشبث بشرايين مهترئة للمشاركة فيما يجده حياته الحقيقية – نضالات الطبقة العاملة -. الحوري من مناضلي الحركة النقابية في السبعينيات، دفع الحوري ضريبة نضاله  اضطهادا وسجناً وفصلاً من العمل. لم يتوارى عن الأنظار كما فعل الكثيرون ولم يلعب أدوار البطولة الإعلامية، ظل محافظاً على شخصيته وإيمانه الصلب بحقوق الكادحين وفي كل مرة يحكي لي فيها عن ذكرياته السبعينية أرى في عينيه بريقاً يدعو إلى الاعتزاز.

مما أتذكره أن جليل إنفعل ذات مرة على إحدى المنتديات في المنبر لأنه أحس في كلامها ما يشبه التخويف فوقف صارخاً ومتوجهاً للتلفاز الذي كان يبث المحاضرة في النصف الثاني من قاعة مقر المنبر القديم في الزنج وقال” أحنى الاستعمار ما خوفنا، أمن الدولة ما خوفنا، و ما في أحد اليوم بيخوفنه”.
 السعداوي والحوري يشبهان بعضهما كونهما عملتين نادرتين في هذا الزمن أخشى أنهما لن يتكرران.