المنشور

ساحة محمود درويش في باريس


 
قبل فترة وجيزة تناولت في هذا المكان القيمة والمكانة اللتين يحظى بهما مبدعونا العرب في البلدان الغربية أكثر مما يحظون بهما في أوطانهم وبخاصة حينما تتبوأ إبداعاتهم في أي مجال من المجالات منزلة عالمية تفرض احترامهم من قبل شعوب عديدة متعددة الثقافات والحضارات، واعتبرت ذلك منجزا حضاريا وقوميا في الوقت نفسه لطالما عجزت التيارات الإسلامية عن أن تضاهي فيه التيارات الوطنية والليبرالية، وضربت مثلا في هذا الصدد بقرار فرنسا تسمية احد شوارع باريس باسم عبقري ومبدع السينما المصرية الراحل يوسف شاهين الذي أسهم بالعديد من إبداعاته السينمائية في الإخراج في التعبير عن قضايا مصر الوطنية والاجتماعية وعن القضية الفلسطينية.

وها هي آخر الأخبار الواردة من فرنسا قبل أيام قليلة خلت تطلعنا بخبر قرار المجلس البلدي لباريس إطلاق اسم الشاعر الفلسطيني محمود درويش على إحدى الساحات التاريخية المشهورة في باريس، وقد جرى احتفال كبير بهذه المناسبة حضره الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس بلدية باريس برتراند دولانويه وممثل عن الخارجية الفرنسية والسفراء العرب لدى “اليونسكو” وأدباء وشعراء واعلاميون فرنسيون وعرب والمترجمون الذين انكبوا على ترجمة أعمال درويش الى الفرنسية التي سيطلع عليها ليس الشعب الفرنسي فحسب بل عشرات الشعوب الناطقة بالفرنسية أو التي تعتبر الفرنسية في بلدانها لغة ثانية مما يعد مكسبا مهما ثقافيا وفلسطينيا للقضية الفلسطينية، ومن هؤلاء المترجمين الشاعرة فينوس خوري والياس صنهر مندوب فلسطين لدى اليونسكو.
عمدة باريس عبر في كلمته عن مغزى اختيار اسم الشاعر الفلسطيني لإطلاقه على الساحة باعتباره كان “شاعر الحياة” و”مناضل من أجل الحرية والحب”  و”مدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني”.

وبقدر ما تثير هذه المبادرة الفرنسية الارتياح في نفوس عشرات الملايين العرب والفرنسيين بقدر ما تثير الألم والاشمئزاز كون فرنسا الدولة التي تحكمها دولة يمينية سبقت الدول العربية قاطبة في خطوة رمزية معنوية لتكريم مبدع ومناضل فلسطيني كبير راحل كان الأجدر هي التي تبادر إليها وتسبق الدول الاجنبية فيها، تماما مثلما سبقت فرنسا مصر والدول العربية في اطلاق اسم يوسف شاهين على احد شوارعها.

وليت الأمر يقتصر على الامعان في تجاهل المبدعين والمناضلين الفلسطينيين الذين خدموا القضية الفلسطينية وقدموا تضحيات من أجلها، بل ها نحن شهود على عصرنا العربي السياسي المجدب حتى في إدارة ظهورنا لمن ضحوا بدمائهم الزكية من أجل تلك القضية، فما هي العاصمة العربية التي مجرد فكرت او خطر ببالها ان تكرم اسم الشهيدة الامريكية راشيل كوري التي جعلت من جسدها الانثوي الرقيق سدا للحيلولة دون هدم احدى جرافات الفاشية الصهيونية منزل احد الفلسطينيين لتهرسها الجرافة بوحشية وتلقى مصرعها؟ من ذا الذي فكر في اطلاق اسمها على شارع او طريق أو ساحة أو ميدان او مدرسة؟

ولننح اسم راشيل جانبا لنتساءل: مَن مِن العرب يتذكر او يعرف اسماء الأتراك التسعة البواسل الذين سفحت دماؤهم الزكية على ظهر السفينة “مرمرة” احدى سفن قافلة الحرية المتجهة من تركيا إلى فلسطين لفك الحصار عن غزة فيما هم يقاومون ويتصدون بشجاعة بصدورهم العارية دفاعا عن السفينة وركابها المدنيين للإنزال البربري الجوي للكوماندوز الاسرائيلي الذين هبطوا على ظهر السفينة مباغتة تحت جنح الظلام فجر يوم 30 مايو الماضي في المياه الدولية؟

فلا الاعلام العربي والا الصحافة العربية فكر أحد منهم ولو مجرد اجراء تحقيقات صحفية او اعلامية لمعرفة قصة بطولة أولئك التسعة الاتراك البواسل وقبسات من سيرهم الذاتية والسياسية.

وإذا كان الحال كذلك فكيف لنا ان نتوقع ان تبادر واحدة من الدول العربية إلى تخليد اسم الشهيدة الامريكية العظيمة راشيل نصيرة القضية الفلسطينية باطلاقه على احد شوارعها او ميادينها او على أي مؤسسة من مؤسساتها الثقافية والعلمية؟

وكم يتمنى المرء على الجهات الشعبية العربية والعالمية المنهمكة الآن في التحضير لتسيير قوافل سفن جديدة ستتوجه الى غزة لكسر الحصار الصهيوني عليها لو بادرت إلى اطلاق اسم كل شهيد تركي من الشهداء التسعة الذين سقطوا مضرجين بدمائهم على ظهر السفينة “مرمرة” وافتدوا بأرواحهم القضية الفلسطينية على كل سفينة من السفن الجديدة التي سيتم تسييرها.
 
 
أخبار الخليج  3 يوليو 2010